لماذا رفض عثمان بنُ عفَّان أن يُدافع المسلمون عنه؟
لماذا رفض عثمان بنُ عفَّان أن يُدافع المسلمون عنه؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فإنَّ أميرَ المؤمنينَ عثمانَ بنَ عفَّان، ذا النُّورَيْنِ، جامعَ القُرآن، ثالثَ الخُلفاء الرَّاشدين والأئمَّة المهديِّين المأمورِ باتِّباعهم والاقتداءِ بهم، الذي أسلم قديمًا، صفاتُه وفضائُله أشهرُ وأظهَرُ من أن تُذَّكر - أَبَى -رضي الله عنهُ- أن يُدافع عنه أحدٌ من المسلمين، اسْتِسْلامًا لِقضاءِ الله عز وجلَّ وقدره وحقنًا لدمائِهم، فكفَّ يدَهُ عن القِتال، وأمَرَ النَّاس وعزَمَ عليْهِم أن لا يُقاتِلُوا دونَه، ولوْلا قَسَمُه عليهم لنَصَرُوه نصرًا مؤزَّرًا، ولأبادوا مَن قتلوه -قاتلهم الله- ولكن كان أمرُ الله قدرًا مُقَدَّرًا، حتَّى إنَّه لمَّا استخْلَفَ عبدالله بْنَ عبَّاسٍ على الحجِّ قال له عبدالله بنُ عبَّاس: إنَّ مقامي على بابِكَ أُحاجفُ عنكَ أفْضَلُ منَ الحَجِّ، فعَزَمَ عليْهِ فخرج بالنَّاس إلى الحجِّ.
قال الحافِظُ ابنُ كثيرٍ في "البداية والنهاية": "فلمَّا كان قبلَ ذلك بيومٍ، قال عُثمانُ للَّذينَ عِنْدَهُ في الدَّار من المُهاجرينَ والأنصار -وكانُوا قريبًا من سبعِمائة، فيهم عبدالله بن عُمر وعبدالله بن الزُّبير والحسنُ والحسيْنُ ومَروانُ وأبو هُريْرة، وخلْقٌ من مَواليه، ولو تَرَكَهُم لَمَنَعُوه- فقال لهم: "أُقْسِم على مَن لي عليْهِ حقٌّ أن يَكُفَّ يدَه وأن ينطَلِقَ إلى منزله"، وعندَهُ من أعيانِ الصَّحابة وأبْنائِهِم جمٌّ غفيرٌ، وقال لرقيقِه: "مَنْ أَغْمَدَ سيْفَهُ فهُو حرٌّ" فبرد القتال من داخل، وحَمِيَ من خارج، واشتدَّ الأمْرُ.
وكان سبب ذلك أنَّ عُثمانَ رأى في المنام رُؤيا دلَّتْ على اقْتِراب أجلِه، فاستَسْلَمَ لأَمْرِ اللَّه رجاءَ موعودِه، وشوقًا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولِيَكونَ خيْرَ ابْنَيْ آدَمَ؛ حيثُ قال حين أراد أخوهُ قتلَهُ: {إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 29].
ورويَ أنَّ آخِرَ مَن خَرَجَ مِن عندِ عُثمان من الدَّار، بعد أن عَزَمَ عليْهِم في الخُروج، الحسنُ بنُ عليٍّ وقد خرج، وكان أمير الحَرْبِ على أهْلِ الدَّار عبدالله بن الزبير رضي الله عنهم.
وروى موسى بْنُ عُقْبَة عن سالمٍ أوْ نافعٍ أنَّ ابْنَ عُمَر لَم يلْبَسْ سِلاحَه بعدَ رسولِ اللهِ صلَّى اللَّه عليْه وسلَّم إلا يومَ الدَّار ويومَ نَجدة الحَروريِّ.
قال أبو جعفرٍ الدَّاريُّ عن أيوب السّخْتِياني عنْ نافعٍ عنِ ابن عمر أنَّ عُثمانَ رضِيَ الله عنه أَصْبَحَ يُحَدِّثُ النَّاس، قال: "رأيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلَّم في المنام فقال: يا عثمان أَفْطِر عندَنَا" فأصبَحَ صائمًا وقُتِلَ من يومه.
وروى الإمام أحمد عن عائشة قالت: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "ادْعُوا لي بعْضَ أصحابي"، قلتُ: أبو بكر؟ قال: "لا"، قلتُ: عُمر؟ قال: "لا"، قُلْتُ: ابن عمِّك عليّ؟ قال: "لا"، قالت: قلتُ: عثمان؟ قال: "نعم"، فلمَّا جاءَ قالَ: "تنحَّيْ"، فجعل يُسارُّه ولوْنُ عُثمانَ يتغيَّر، فلمَّا كان يوم الدَّار وحُصِرَ فيها، قُلنا: يا أميرَ المؤمنين ألا تُقاتل؟ قال: لا! إنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم عَهِدَ إلي عهدًا وإنِّي صابرٌ نفْسِي عليه".
ومن أقوى ما يجاب به عن سؤالك: أن عثمان رضي الله تعالى عنه رأى أن هذا قتال فتنة، وخشي أن يفضي الدفاع عنه إلى فتنة تجتاح الناس، وأراد ارتكاب أدتى المفسدتين حتى وإن كان في ذلك إزهاق روحه، ففدى الناس بنفسه رضي الله عنه وأرضاه.
ومما يستشهد به في هذا: أنه يشرع ترك الدفاع عن النفس أحيانًأ؛ كما في قوله تعالى {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة:28]، وقال أبو موسى الأشعري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: "إنَّ بيْنَ يَدَيِ السَّاعةِ فِتَنًا كقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِم، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فيها مُؤْمِنًا ويُمْسِي كافرًا ويُمسى مؤمنًا ويُصبِحُ كافرًا، القاعدُ فيها خيرٌ من القائِم، والماشي فيها خير من الساعي فكسِّروا قسِيَّكم وقطِّعوا أوتارَكم واضْرِبُوا سيوفَكم بالحجارة، فإنْ دخل - يعني على أحد منكم - فلْيَكُنْ كخَيْرِ ابنَيْ آدم"، وفي لفظ: "فكُنْ عَبْدَ اللَّه المقتولَ ولا تَكُنْ عَبْدَ اللَّه القاتِل" (رواه أبو داود وغيره).
وروى أحمدُ من حديث ابْنِ مسعودٍ أنَّ رسولَ الله قال: "تكون فتنة" ... : فبِمَ تأمرُنِي إن أدركتُ ذلك الزمان؟ قال: "اكْفُفْ نَفْسَك ويَدَكَ وادْخُلْ دارَك" قال: قلت: يا رسولَ اللَّهِ أرأيتَ إن دُخِلَ عليَّ داري؟ قال: "فادْخُلْ بيتَكَ" قال: قلت: يا رسولَ الله، أرأيتَ إن دُخِلَ عليَّ بيتي؟ قال: "فادخل مسجِدَك واصنَعْ هكذا -فقبض بيمينه على الكوع- وقل: ربِّي الله حتى تَموت على ذلك"، والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: