الإشهاد على الطَّلاق
سيِّدنا عمر بن الخطَّاب حمَلَ رعيَّته في الطَّلاق ثلاثًا على الأشدِّ، والعلَّة في ذلك ظاهرة، أليس في ذلك مستند كذلك لِمن يعْمل برأْيِ الشَّيخ أحْمد شاكر في عدَم إيقاع الطَّلاق بدون شهود؛ لظاهر الآية، ولقوْل سيِّدنا عمران بن حصين وغيره.
لا شكَّ أنَّ الجُمْهور بِخلاف ذلك، لكن السُّؤال: هل يَسوغ الاختِلاف في هذه المسألة باعتِبارها من المسائل التي يَجوز فيها الاجتِهاد، أم أنَّ القول فيها لا يقبل الاجتِهاد في المسألة؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقد اختَلَف العُلماء في الإشهاد على الطَّلاق، فذهب للوجوب أبو محمد ابن حَزْم، وبعضُ العُلماء المعاصرين؛ كالشيخ أحمد شاكر والشيخ أبو زهرة، وهو قولُ مَن لا يُعْتَدُّ بِهم من الشيعة الإماميَّة.
واحتج أبو محمد بقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2].
قال في "المحلى": "وكان مَن طلَّق ولم يُشْهِد ذَوَي عدل، أو راجَعَ ولم يُشْهِد ذوي عدل - متعدِّيًا لحدود الله تعالى، وقال رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم: "مَن عمِل عملاً ليْس عليه أمرُنا فهو رد".
واستدلُّوا بظاهِر الآية، وبحديث عمران بن حُصين: سئل عن الرجُل يطلِّقُ المرأة ثمَّ يقع بِها، ولَم يُشْهِد على طلاقِها ولا على رجْعَتِها، فقال: "طلَّقت لغير سنَّة، ورجعتَ لغيْرِ سنَّة، أشهِدْ على طلاقِها، وعلى رجْعَتِها، ولا تعُدْ" (رواه أبو داود وابن ماجه، وصحَّحه الألباني).
قال الصَّنعاني في "سبل السلام": "دلَّ على ما دلَّت عليه آية سورة الطَّلاق، وهي قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2]، بعد ذِكْره الطَّلاق، وظاهر الأمر وجوبُ الإشْهاد، وبه قال الشَّافعي في القديم، وكأنَّه استقرَّ مذهبه على عدَم وجوبه، فقد قال المرزعي في "تيسير البيان": وقد اتَّفق الناس على أنَّ الطَّلاق من غير إشهاد جائز".
وذهب جُمهور الفقهاء إلى أن الإشهاد ليس شرطًا لصحَّة الطَّلاق، وأنَّ الأمرَ في الآية يُحْمل على الاستحباب؛ قال الشوكاني: "وقد ورد الإجْماع على عدم وجوب الإشهاد في الطلاق، واتَّفقوا على الاستحباب"؛ أي: في الطَّلاق.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "الفتاوى": وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]، فأمرَ بالإشْهاد على الرَّجعة، والإشهاد عليْها مأمورٌ به باتِّفاق الأمَّة، قيل: أمر إيجاب، وقيل: أمر استحباب، وقد ظنَّ بعض النَّاس أنَّ الإشهاد هو الطَّلاق، وظنَّ أنَّ الطَّلاق الذي لا يُشْهَد عليه لا يقع، وهذا خِلاف الإجماع، وخِلاف الكتاب والسنَّة، ولم يقل أحدٌ من العلماء المشْهورين به؛ فإنَّ الطَّلاق أذن فيه أوَّلاً، ولم يأمر فيه بالإشهاد، وإنَّما أمر بالإشْهاد حين قال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، والمراد هنا بالمفارقة: تخْلية سبيلِها إذا قضت العدَّة، وهذا ليْس بطلاق ولا برجعةٍ ولا نكاح، والإشهاد في هذا باتِّفاق المسلمين، فعُلم أنَّ الإشْهاد إنَّما هو على الرجعة". اهـ.
قال الشَّافعي في "الأم": "أنِّي لَم ألْقَ مُخالفًا حفظْتُ عنْهُ من أهل العلم أنَّ حرامًا أن يطلِّقَ بغير بيِّنة، على أنَّه -والله أعلم- دلالة اختيار، واحتملت الشَّهادة على الرجعة من هذا ما احتمل الطَّلاق". اهـ.
والراجح أنَّ الأمر بالإشْهاد مندوبٌ إليْه فقط، وليس من شروط صحَّة الطَّلاق وأنه يقع بغير إشهاد؛ لما ورد في النقول السابقة، ولأنَّه لم يردْ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولا أصحابِه رضِي الله عنْهُم أنَّهم كانوا لا يوقِعون الطَّلاق إلاَّ بعد الإشْهاد؛ ومن هذا حديث الصَّحيحين: أنَّ ابنَ عُمَر طلَّق امرأته حائضًا، والظَّاهر أنَّه لم يُشْهِد، وقد اعتدَّ بها، راجع فتوى: "هل يقع الطلاق فى الحيض؟"، وكذلك لم يُنقل عن النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه استفصل من طلق، والقاعدة أنَّ: ترك الاستِفْصال في حكاية الحال، مع قيام الاحتِمال - ينزل منزلة العموم في المقال.
وأيضًا فإنَّ الطَّلاق من حقوق الرَّجُل؛ فلا يحتاج إلى بيِّنة لإثباته، لما نُقِل فيه من إجْماع، وأثر عمران لا يفيد الوجوب، وعلى هذا يكون خلاف أبي محمد بن حزم مسبوقًا بالإجماع،، والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: