الضوابط الشرعية للحدِّ من الفساد المالي للموظفين
تزداد ظاهرةُ الثراء غير المشروع واستغلالُ المنصب وانتشار الفساد المالي للموظفين، فما هي الوسائل الشرعية للحدِّ من ذلك؟
قرر علماءُ الأمة أن حرمة المال العام أعظم من حرمة المال الخاص، ولهذا فإن الاعتداء على الأموال العامة كبيرةٌ من كبائر الذنوب، وقد دلت الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على حرمة الخوض في الأموال العامة، قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188]، وورد في الحديث عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: "استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا مالكم وهذا أهدي إليَّ. فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول: هذا لك وهذا لي؟ فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أَيُهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيءٍ إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رُغاء أو بقرةً لها خُوار أو شاةً تيعر..." (رواه البخاري ومسلم). والرُغاء:صوت البعير، والخُوار: صوت البقرة، واليُعار: صوت الشاة.
وقد قررت الشريعة الإسلامية عدة ضوابط وأسس للحدِّ من الفساد المالي للموظفين أستعرض أهمها فيما يلي:
أولاً: التربية الإيمانية في البيت والمدرسة والجامعة، فهذه هي القاعدة الأساسية لمحاربة كافة أنواع الفساد والإفساد، فلا شك أن غياب الإيمان عن نفوس كثيرٍ من الناس، وانتفاء الوازع الديني، يوقعهم في الآثام والشرور، ومنها الفساد المالي، وكذلك فإن انعدام الأخلاق والقيم الطيبة المستمدة من ديننا الحنيف له أكبر الأثر في ظهور الفساد وانتشاره.
ولا ينكر عاقل أهمية "تنمية القيم الدينية والتركيز على البعد الأخلاقي في محاربة الفساد، وذلك لأن معظم حالات الفساد تتم بسريةٍ وبطرقٍ عاليةِ المهارة، فيكون من الصعب وضع تشريعات وقوانين تقضي على أنماط الفساد بصورة تامة في ظل هذه السرية، واستغلال التقدم التقني في تغطية الفساد، وبذلك يتضح جلياً دورُ القيم الدينية في مكافحة الفساد والقضاء عليه، فلا شك أن القيم الدينية... تدعو إلى الفضيلة والالتزام بالأخلاق في جميع نواحي السلوك البشري، ويقوم جوهر تلك القيم على فرض رقابةٍ ذاتيةٍ على الفرد في كل أعماله، ففي حال التزام كل فردٍ بهذه الرقابة الذاتية والتي تقوم على الخوف من الله سبحانه وتعالى، فإن ذلك يُعدُّ الأسلوبَ الأمثل لمنع حدوث الفساد بكل صوره وأنواعه".
ولو أخذنا عبادة الصلاة ونظرنا في أثرها في سلوك المسلم لعلمنا أهمية الالتزام الديني، وأثره في محاربة الفساد،قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، ومن هنا نقول إن تغييب الوازع الإيماني والأخلاق الكريمة والقيم الطيبة عن مؤسسات التعليم المختلفة، بل محاربة ذلك بشتى وسائل الإفساد، سينتج عنه حتماً خريجون لا يحللون ولا يحرمون، ولا يعرفون معنىً للقيم الفاضلة.
ولتعلم صدق كلامي هذا فانظر في استفحال الظواهر السلبية في جمهور الخريجين من الجامعات والذين يشكلون معظم الموظفين.
ثانياً: اختيار الموظفين على أسسٍ صحيحةٍ من الكفاءة والنزاهة والأمانة والصدق والعدل، وليس على أي أسسٍ غير شرعية كالانتماء الحزبي، قال الله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26]. وقال الله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، وثبت في الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر، إنك ضعيفٌ، وإنها أمانةٌ وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامةٌ إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها" (رواه مسلم).
وقال أبو يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة في رسالته إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد: "رأيتُ أن تتخذ قوماً من أهل الصلاح والدين والأمانة فتوليهم الخراج. ومن وليت منهم فليكن فقيهاً عالماً مشاوراً لأهل الرأي عفيفاً لا يطلع الناسُ منه عَلَى عورةٍ، ولا يخاف فِي الله لومة لائمٍ, ما حفظ من حقٍ وأدى من أمانةٍ احتسب به الجنة، وما عمل به من غير ذلك خاف عقوبة الله فيما بعد الموت, تجوز شهادتُهُ إن شهد, ولا يُخاف منه جورٌ في حكمٍ إن حكم. فإنك إنما توليه جباية الأموال وأخذها... فإذا لم يكن عدلاً ثقةً أميناً فلا يؤتمن عَلَى الأموال" كتاب الخراج.
ولا شك أن التقصير في اختيار الموظفين على الأسس السابقة سينتج عنه كلُ مظاهر الفساد التي نراها ونسمع عنها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ضُيعت الأمانةُ فانتظر الساعة، قيل كيف إضاعتها؟ قال إذا أُسند الأمرُ إلى غير أهله، فانتظر الساعة" (رواه البخاري).
ثالثاً: ضَعفُ مُساءلة الموظفين وضعفُ الأجهزة الرقابية، ومن المعلوم أن الإسلام قد قرر مبدأ مساءلة الموظفين بشكلٍ عام، ومساءلتهم عن المال العام بشكلٍ خاص، فقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الموظفين والمسئولين، مبدأَ "من أين لك هذا؟" فقد ورد في إحدى روايات حديث ابن اللتبية السابق عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أهل اليمن على زكاتها، فجاء بسوادٍ كثير، فإذا أرسلتُ إليه من يتوفاه منه قال: هذا لي وهذا لكم، فإن سُئل من أين لك هذا؟ قال: أُهدي لي، فهلا إن كان صادقاً أُهدي له، وهو في بيت أبيه أو أمه" (رواه ابن خزيمة في صحيحه).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "جاء بلالٌ رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرٍ برني -تمرٌ جيدٌ- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين لك هذا؟ قال بلال: كان عندنا تمرٌ رديء, فبعت منه صاعين بصاعٍ ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: أوه, أوه -كلمة يُؤتى بها للتوجع- عينُ الربا, عينُ الربا,لا تفعل. ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به" (رواه مسلم).
وقد رسَّخ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه مبدأ "من أين لك هذا؟" فقد روى الشافعي عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رجلاً أتى عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه بلبنٍ فشربه فأعجبه، فقال من أين لك هذا؟ فقال مررت بلقاح الصدقة-إبل الزكاة وهي من المال العام- فأعطونيه، فجعلته في سقائي، فاستقاءه عمر رضي الله عنه. رواه البيهقي في شعب الإيمان.
رابعاً: إقرار الذمة المالية للموظفين وخاصة لكبارهم، فلا بد أن يُفصح كبارُ الموظفين عن ذممهم الماليه قبل توليهم المناصب، هم وزوجاتهم وأولادهم، حتى لا تُستغل الوظائف العامة للثراء غير المشروع، وهذا المبدأ معمول به في كثيرٍ من الدول المتقدمة، وقد ورد في قانون مكافحة الفساد الفلسطيني: "الذمة المالية: إقرار يُطلب من كل مسؤولٍ بتقديم ما يملكه هو وزوجه وأبناؤه القُصَّر من أموال منقولة وغير منقولة، بما في ذلك الأسهم والسندات والحصص في الشركات والحسابات في البنوك والنقود والحلي والمعادن والأحجار الثمينة ومصادر دخلهم وقيمة هذا الدخل إضافة إلى ما عليهم من ديون".
وهذا المبدأ قرره الإسلام قبل أن تعرفه الدول الحديثة، فقد روى الإمام أحمد بإسناده عن نافع قال: كتب خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص إلى أبي بكر رضي الله عنه أن زدنا في أرزاقنا، وإلا فابعث إلى عملك من يكفيكه، فاستشار أبو بكر رضي الله عنه في ذلك، فقال عمر رضي الله عنه لا تزدهم درهماً واحداً، قال فمن لعملهم؟ قال: أنا أكفيه ولا أريد أن ترزقني شيئاً، قال فتجهز فبلغ ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال لأبي بكر يا خليفة رسول الله: إن قُربَ عمرَ منك ومشاورته أنفعُ للمسلمين من شيءٍ يسيرٍ، فزد هؤلاء القوم وهو الخليفة بعدك، فعزم على عمر أن يقيم، قال وزادهم ما سألوا، قال فلما ولي عمر رضي الله عنه كتب إليهم إن رضيتم بالرزق الأول وإلا فاعتزلوا عملنا. وقال وقد كان معاوية يعني بن أبي سفيان استُعملَ مكان يزيد، قال فأما معاوية وعمرو فرضيا، وأما خالد فاعتزل، قال فكتب إليهما عمر: أن اكتبا لي كل مالٍ هو لكما، ففعلا، قال فجعل لا يقدر لهما بعد على مالٍ إلا أخذه فجعله في بيت المال. فضائل الصحابة1/292. وقوله "أن اكتبا لي كلَّ مالٍ هو لكما" هذا هو إقرار الذمة للموظفين.
وكان عمر رضي الله عنه يقاسم الولاة أموالهم إن علم أنهم استفادوها بعد توليهم المناصب، "فقد كان هذا النظام "مقاسمة الولاة أموالهم" أمراً احتياطياً في زمن عمر رضي الله عنه حيث شعر عمر بنمو الأموال لدى بعض الولاة، فخشي أن يكون الولاة قد اكتسبوا شيئاً من هذه الأموال بسبب ولايتهم، وقد علق ابن تيمية على فعل عمر هذا قائلا: "وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة، والمؤاجرة والمضاربة، والمساقاة والمزارعة، ونحو ذلك هو من نوع الهدية؛ ولهذا شاطر عمر بن الخطاب رضي الله عنه مِن عماله مَنْ كان له فضلٌ ودينٌ، لا يُتهم بخيانة، وإنما شاطرهم لما كانوا خصوا لأجل الولاية من محاباة وغيرها، وكان الأمر يقتضى ذلك؛ لأنه كان إمام عدل، يقسم بالسوية" مجموع فتاوى ابن تيمية28/281" نقلاً عن الإنترنت.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني: "عَزلَ عمرُ أبا موسى عن البصرة، وقدامة بن مظعون وأبا هريرة والحارث بن وهب أحد بني ليث بن بكر وشاطرهم أموالهم فذكر القصة، وفيها وقال للحارث ما أعبدٌ –جمع عبد- وقلاصٌ -إبل فتية- بعتها بمائة دينار؟ قال: خرجت بنفقةٍ معي فتجرت فيها، قال عمر: إنا والله ما بعثناك للتجارة في أموال المسلمين، ثم أمره أن يحملها -أي إلى بيت المال- فقال والله لا عملتُ لك عملاً بعدها، قال تَيْدَكَ –أي على رِسلك-حتى أستعملك" الإصابة 1/200.
وكذلك فإن عمر رضي الله عنه قد صادر بعض إبل ابنه عبد الله رضي الله عنه حين علم أنه استغل مكانته وأنه ابن الخليفة، فقد قال عبد الله بن عمر "اشتريت إبلاً وأنجعتها إلى الحمى-وهي أرض محمية للدولة- فلما سمنت قدمتُ بها قال فدخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه السوق فرأى إبلاً سماناً، فقال لمن هذه الإبل؟ قيل لعبد الله بن عمر قال فجعل يقول يا عبد الله بن عمر بخٍ بخٍ ابن أمير المؤمنين، قال فجئته أسعى، فقلت مالك يا أمير المؤمنين؟ قال ما هذه الإبل؟ قال قلت إبل أنضاء-جمع نضو وهو البعير المهزول- اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون. فقال–عمر- ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله بن عمر اغدُ على رأس مالك واجعل باقيه في بيت مال المسلمين" رواه البيهقي في السنن الكبرى6/147.
خامساً: وضع نظامٍ عادلٍ للأجور يراعى فيه كفاية احتياجات الموظفين، وقد سبق الإسلام إلى ذلك فقد ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادمٌ فليكتسب خادماً، فإن لم يكن له مسكنٌ فليكتسب مسكناً، قال أبو بكر أُخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اتخذ غير ذلك فهو غالٌ أو سارقٌ" (رواه أبو داود وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/568).
وذكر أبو يوسف في كتاب الخراج أن أبا عبيدة بن الجراح قال لعمر رضي الله تعالى عنهما: دنست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي بالوظائف- فقال له عمر: يا أبا عبيدة إذا لم أستعن بأهل الدين على سلامة ديني فبمن أستعين؟ قال: أما إن فعلت فأغنهم بالعمالة عن الخيانة. يقول: إذا استعملتهم على شيءٍ فأجزل لهم في العطاء والرزق لا يحتاجون. وهذا الأثر يفيد أن كفاية الموظفين بالأجر تعينهم على أداء الأمانة في العمل وتمنعهم من الفساد المالي.
سادساً: تشريع العقوبات الرادعة لكل من يعتدي على الأموال العامة. هذه أهم الوسائل الشرعية للحدِّ من الفساد المالي للموظفين، ولا يتسع المقام للتفصيل.
وخلاصة الأمر أن الفساد المالي للموظفين ظاهرةٌ عالميةٌ، وقد كان الإسلام سبَّاقاً في مكافحته، حيث وضع ضوابط وقواعد للحدِّ منه، أهمُها غرسُ الإيمان في قلوب الناس، وحُسنُ اختيار الموظفين، ومحاسبتهم، وإقرار مبدأَ "من أين لك هذا؟" وإقرار الذمة المالية للموظفين، ووضع نظامٍ عادلٍ للأجور يراعى فيه كفاية احتياجات الموظفين، وتشريع العقوبات الرادعة لكل من يعتدي على الأموال العامة.
الجمعة, 22 يوليو 2011.
حسام الدين عفانه
دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.
- التصنيف:
- المصدر: