الاستقواء بالقانون الوضعي المخالف للشرع حرامٌ شرعاً
خرجتُ من البلاد أثناء حرب حزيران عام 1967م وتركت أملاكي -بيت وقطعة أرض- فقام بعض الجيران بوضع اليد عليها، وانتفعوا بها أكثر من أربعين سنة، وحضرت إلى البلد بتأشيرة زيارة، وأردت أن أبيع بيتي وأرضي، فاعترض الذين وضعوا أيديهم عليها وهددوني باللجوء إلى القانون الوضعي المتعلق بأملاك الغائبين، لمنعي من البيع إلا إذا دفعت لهم مبلغاً من المال، فما الحكم الشرعي في ذلك؟
أولاً: ما قام به جيرانُك من وضع اليد على بيتك وأرضك والانتفاع بها أكثر من أربعين سنة، يعتبر غصباً محرماً في دين الإسلام، وهو أكلٌ لأموال الناس بالباطل، والغصب عند الفقهاء هو: الاستيلاء على حق الغير عدواناً، أي بغير حق. ولا شك في تحريم ذلك، قال الله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِّن أَموَالِ النَّاسِ بِالإِثمِ وَأَنتُم تَعْلَمُونَ} [البقرة:188]. فهذه الآية الكريمة نهت عن أكل أموال الناس بالباطل، والأصل في النهي أنه يقتضي التحريم، قال القرطبي: "الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا يأكلْ بعضُكم مالَ بعضٍ بغير حق. فيدخل في هذا: القمار والخداع والغصوب وجحدُ الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه، كمهر البغي وحلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك... ومن أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل، ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضى لك وأنت تعلم أنك مبطلٌ، فالحرام لا يصير حلالاً بقضاء القاضي" (تفسير القرطبي2/337).
وصح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا في شهركم هذا" (رواه البخاري ومسلم).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مالُ امرئٍ مسلمٍ إلا بطيب نفسٍ" (رواه أحمد والبيهقي والطبراني،وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل 5/279).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحلبنَّ أحدٌ ماشية أحدٍ إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تُؤتى مشرُبته، فينتقلُ طعامُه، وإنما تخزن لهم ضروعُ مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبنَّ أحدٌ ماشية أحدٍ إلا بإذنه" (رواه البخاري ومسلم)، والمشرُبة بضم الراء: الغرفةُ التي يُجمع فيها الطعام.
قال الإمام النووي: "ومعنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبَّه اللبنَ في الضرع بالطعام المُخزَّن المحفوظ في الخزانة في أنه لا يحل أخذُه بغير إذنه، وفي الحديث فوائد منها: تحريمُ أخذ مال الإنسان بغير إذنه، والأكل منه والتصرف فيه، وأنه لا فرق بين اللبن وغيره وسواء المحتاج وغيره إلا المضطر" (شرح صحيح مسلم4/391).
وقال الحافظ ابن عبد البر: "في الحديث النهي عن أن يأخذ المسلمُ للمسلم شيئاً إلا بإذنه، وإنما خصَّ اللبنَ بالذكر لتساهل الناس فيه، فنبَّه به على ما هو أولى منه" (فتح الباري6/14).
وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم أَشدَّ التحذير من غصب الأراضي وأخذها من أصحابها بغير حق، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ظلم قيدَ شبرٍ من الأرض طُوقـه من سبع أرضين" (رواه البخاري ومسلم).
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أخذ من الأرض شبراً بغير حقه خُسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين" (رواه البخاري).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ من الأرض شبراً بغير حقه طُوقه من سبع أرضين" رواه أحمد بإسناد صحيح،ورواه مسلم إلا أنه قال: "لا يأخذ أحدٌ شبراً من الأرض بغير حقه إلا طَوقهُ اللهُ إلى سبع أرضين يوم القيامة".
قال الإمام النووي: "وأما التطويق المذكور في الحديث فقالوا: يحتمل أن معناه: أنه يحمل مثله من سبع أرضين، ويكلف إطاقة ذلك، ويحتمل أن يكون يجعل له كالطوق في عنقه كما قال سبحانه وتعالى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وقيل:معناه: أنه يُطوق إثم ذلك ويلزمه كلزوم الطوق بعنقه. وفي هذه الأحاديث تحريم الظلم وتحريم الغصب وتغليظ عقوبته" (شرح صحيح مسلم 5/489).
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشُّحَ فإن الشُّحَ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" (رواه مسلم).
وقد أجمع المسلمون على تحريم الغصب، وإن لم يبلغ المغصوب نصاب السرقة. (انظر الموسوعة الفقهية الكويتية31/228-230).
والنصوص السابقة تدل على أن وضعَ اليد على أملاك الآخرين بغير حق حرامٌ شرعاً ويعتبر غصباً فلا يجوز لأحدٍ وضع اليد على أملاك غيره أو استغلالها بدون إذن أصحابها.
ثانياً: وأما التهديد باللجوء إلى قانون أملاك الغائبين الظالم، فهو استقواءٌ على المالك بالقانون الوضعي المضاد للشريعة الإسلامية، فلا شك أنه أمرٌ محرمٌ شرعاً، بل يُخشى على من فعل ذلك الكفرَ والمروق من ملة الإسلام، لأن الأصل في المسلم أن يتحاكم إلى شرع الله لا لقانون الكافرين المضاد لشرع الله عز وجل، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. وقد قرر أهلُ العلم أن من حكَّم القوانين الوضعية المضادة لدين الإسلام راضياً بها ومستحلاً لها ومستبدلاً بها أحكام الإسلام أنه كافرٌ خارج عن ملة الإسلام والمسلمين، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} [النساء:60-61].
وأما إذا حكَّم شخصٌ القوانين الوضعية المضادة لدين الإسلام من باب الجشع والطمع للحصول على مالٍ أو غيره من المنافع الدنيوية، فيكون عاصياً مرتكباً لكبيرةٍ من كبائر الذنوب، وقد سئل الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله، هل تبديل القوانين يُعتبر كفراً مخرجاً من الملة؟ فأجاب: إذا استباحها، فحكم بقانون غير الشريعة، يكون كافراً كفراً أكبر، أما إذا فعل ذلك لأسبابٍ خاصةٍ كان عاصياً لله من أجل الرشوة، أو من أجل إرضاء فلان، وهو يعلم أنه محرَّمٌ يكون كفراً دون كفر، أما إذا فعله مستحلاً له، يكون كفراً أكبر، كما قال ابن عباس في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، قال: ليس مثل من كفر بالله، لكنه كفرٌ دون كفر. إلاَّ إذا استحلَّ الحكمَ بالقانون أو استحلَّ الحكم بكذا أو كذا غير الشريعة يكون كافراً، أما إذا فعله لرشوةٍ أو لعداوةٍ بينه وبين المحكوم عليه، أو لأجل إرضاء بعض الشعب، أو ما أشبه ذلك، هذا يكون كفراً دون كفر). http://ibnbaz.org/mat/4138
ثالثاً: وأما دفعُ المال للدفاع عن الحق أو تحصيله كما في السؤال، فليس من الرشوة المحرمة شرعاً، لأن الرشوة هي ما يُعطى لإبطال حقٍ أو لإحقاق باطلٍ، كما قاله الجرجاني في التعريفات، وهو أحسنُ تعريفٍ للرشوة، وأما ما يُعطى توصلاً إلى أخذ حقٍ أو دفع ظلمٍ فغيرُ داخلٍ فيها فلا يعتبر رشوة، قال المباركفوري: "فالراشي من يعطي الذي يُعينه على الباطل، والمرتشي الآخذ، والرائشُ الذي يسعى بينهما يستزيد لهذا أو يستنقص لهذا، فأما ما يُعطى توصلاً إلى أخذ حقٍ أو دفع ظلمٍ فغير داخلٍ فيه، روي أن ابن مسعود أُخِذَ بأرض الحبشة في شيءٍ فأعطى دينارين حتى خُلي سبيلُه. وروي عن جماعة من أئمة التابعين قالوا: لا بأس أن يصانع الرجلُ عن نفسه وماله إذا خاف الظلم. وفي المرقاة شرح المشكاة قيل: الرشوة ما يُعطى لإبطال حقٍ أو لإحقاق باطلٍ. أما إذا أعطى ليتوصل به إلى حقٍ أو ليدفع به عن نفسه ظلماً فلا بأس به. وكذا الآخذ إذا أخذ ليسعى في إصابة صاحب الحق فلا بأس به. لكن هذا ينبغي أن يكون في غير القضاة والولاة، لأن السعي في إصابة الحق إلى مستحقه ودفع الظلم عن المظلوم واجبٌ عليهم فلا يجوز لهم الأخذ عليه (تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي3/457).
وقال الإمام القرطبي: (وروي عن وهب بن منبه أنه قيل له: الرشوة حرامٌ في كل شيء؟ فقال: لا، إنما يُكره من الرشوة أن ترشي لتُعطى ما ليس لك، أو تدفع حقاً قد لزمك، فأما أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك فليس بحرام. قال أبو الليث السمرقندي الفقيه: وبهذا نأخذ، لا بأس بأن يدفع الرجلُ عن نفسه وماله بالرشوة. وهذا كما روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان بالحبشة فرشى دينارين وقال: إنما الإثم على القابض دون الدافع) (تفسير القرطبي6/183).
وقال الإمام النووي: "وأما باذلُ الرشوة، فإن بذلها ليحكم له بغير الحق أو بترك الحكم بحق حَرُمَ عليه البذل، وإن كان ليصل إلى حقه فلا يحرم كفداء الأسير" (روضة الطالبين4/131).
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: "فأما الراشي فإن رشاه ليحكم له بباطلٍ أو يدفع عنه حقاً، فهو ملعونٌ، وإن رشاه ليدفع ظلمه ويجزيه على واجبه، فقد قال عطاء وجابر بن زيد والحسن: لا بأس أن يصانع عن نفسه، قال جابر بن زيد: ما رأينا في زمن زياد -ابن أبيه الوالي الأموي الظالم- أنفع لنا من الرشا، ولأنه يستنقذ ماله كما يستنقذ الرجل أسيره" (المغني 11/437).
وقال الشيخ تقي الدين السبكي: "والمراد بالرشوة التي ذكرناها ما يُعطى لدفع حقٍ أو لتحصيل باطلٍ، وإن أعطيتَ للتوصل إلى الحكم بحقٍ، فالتحريم على من يأخذها, وأما من يعطيها فإن لم يقدر على الوصول إلى حقه إلا بذلك جاز، وإن قدر إلى الوصول إليه بدونه لم يجز" (فتاوى السبكي1/204).
وخلاصة الأمر أن وضع اليد على أملاك الآخرين بدون حقٍ والانتفاع بها يُعتبر غصباً محرماً في دين الإسلام، ومن باب أكلٌ أموال الناس بالباطل، وأن اللجوء إلى قانون أملاك الغائبين الظالم وغيره من القوانين المضادة للشريعة الإسلامية مثل لجوء بعض النساء للقانون الوضعي لتحصيل نصف أملاك الزوج في حالة الطلاق أو الوفاة، فلا شك أنه أمرٌ محرمٌ شرعاً، بل يُخشى على من فعل ذلك الكفرَ والمروقَ من ملة الإسلام، وأما دفعُ المال للدفاع عن الحق أو تحصيله، فليس من الرشوة المحرمة شرعاً، لأن الرشوة هي ما يُعطى لإبطال حقٍ أو لإحقاق باطلٍ، فإذا أعطى شخصٌ مالاً ليتوصل به إلى حقٍ أو ليدفع عن نفسه ظلماً فلا بأس به إن لم يقدر على الوصول إلى حقه إلا بذلك.
تاريخ الفتوى: 14-12-2012.
حسام الدين عفانه
دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.
- التصنيف:
- المصدر: