فائدة متعلقة بأحاديث الصحيحين
وقفت على فائدة حول ترجيح أحاديث الصحيحين على غيرهما يقول العراقي في التقييد والإيضاح (522/1): إنما يُرجَّح بما في أحد الصحيحين على ما في غيرهما من الصحيح حيث كان ذلك الصحيح مما لم تُضَعّفْهُ الأئمة، فأمَّا ما ضعفوه كهذا الحديث فلا يقدم على غيره لخطأٍ وقع من بعض رواته.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومن والاه، أمَّا بعدُ:
فما ذكره الحافظ العراقيُّ قد ردَّهُ وخالَفَهُ فيه كثيرٌ من أهل العلم؛ حيثُ ردّوا على الدارقطني تضعيفَهُ لبعض أحاديث الصحيحيْنِ في كتابه "الاستدراكات والتتبع"، ومن أحسن ما كُتِبَ في دَفْعِ تلك الاستدراكات: الإمام النووي في شرح مسلم فدفع ما استدرك على الإمام مسلم، والحافظ ابن حجر في الفتح حيث دفع ما راعه منِ انتقادٍ للصحيحَيْنِ جُمْلةً ثُمَّ تَتَبَّع المواضع المنتقدة على البخاري تفصيلا.
قال الشيخ حافظ ثناء الله الزاهدي في رسالة "أحاديث الصحيحين بين الظن واليقين": وجملة ما استثنياه - ابن الصلاح وابن حجر- منها على نوعين:
- الأول: ما انتقده الحفَّاظ كالدَّارقطنيِّ وغيرِه. بدليل أنه لم يقع عليه الإجماع المفيد للقطع. استثناه ابن الصلاح ووافقه على ذلك ابن حجر.
- الثاني: الأحاديث التي وقع التعارض بينها حيث لا ترجيح؛ لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر.
وتفرَّدَ بإخراج هذا النوع من أحاديث الصحيحين ابْنُ حجر، ولم يُؤْثَرْ عن أحدٍ غيره منَ المحدّثينَ، حسب معرفتي.
وهذا الاستثناء بنوعيه لا نراه صحيحًا.
أمَّا النوع الأول: فلأنَّ انتقاداتِ الدَّارقطني وغيره من الحفاظ تَتَوَجَّهُ إلى الأسانيد والمتون سالمة من النقد، كما سبق تقرير ذلك، ومحلُّ الإجماع هو المتون لا الأسانيد.
وعلى تقدير توجُّه هذه الانتقادات إلى المتون لا يلزم أيضًا إخراجُها من جملة ما وقع عليه الإجماع.
وذلك لأنَّ الدارَقطنيَّ وغيرَهُ طائفة قليلة جدًّا نسبة للمجمعين على صحة أحاديث الصحيحين، والمخالفة الضَّئيلةُ لا تَقْدَحُ في انعِقاد الإجماع عند الجمهور من الأصوليين كما صرَّحَ به الحافظُ بدْرُ الدّينِ العَيْنِيّ.
وأمَّا ما استثناه ابْنُ حجرٍ مِمَّا ظاهِرُه التَّعارُضُ مِنْ أحاديث الصحيحَيْنِ فَلَيْسَ بِصحيحٍ أيضًا في رأينا لوجوه:
أولاً: أنَّ التَّعارُضَ قَدْ حَصَلَ بَيْنَ بعض الآيات أيضًا في رَأْيِ بَعْضِ الفقهاء ولم يَحْكُمْ أحدٌ عليها بِظَنِّيَّةِ ثبوتها بمجرد هذا التعارض، بل استمرَّ الحُكْمُ بِقَطْعيَّة القرآنِ كُلِّهِ على حَسَبِ اتّفاقِ الأُمَّةِ وَإِجْماعِهَا على ذلك.
فهذا يَدُلّ على أنَّ انتزاع حكم القطعية عما وقع الإجماع على صِحَّته استنادًا على وقوع التعارض في ظاهر النظر مرفوض عند العلماء في حق القرآن.
فوجب أن يكون في حَقِّ السّنَّة مرفوضًا أيضًا لعَدَمِ وُجودِ الفارِقِ المؤثر بينهما في الوصف المذكور.
ثانيا: ذَهَبَ الإمامُ الشَّافِعِيُّ وغيْرُه من المُحَدّثين إلى أنَّ الحديث إذا كان صحيحًا على شرط المحدثين لا يكون مخالفًا للكتاب أبدًا، أمَّا التعارض بين الأحاديث فأجاب عنه الإمامُ الشافعيُّ - رحمه الله - بقوله: ولم نجد عنه حديثين مختلفين إلا ولهما مخرج، أو على أحَدِهِما دلالة بأحد ما وصفت، إما بموافقة الكتاب، أو غيره من السنة، أو بعض الدلائل.
وقال ابن خزيمة: لا أعرف أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثان بإسنادين صحيحين متضادَّين فمن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما.
فدعوى ابن حجر بالتعارض حيث لا ترجيح مرفوض بتصريحات هؤلاء الأئمة.
ثالثا: أنَّ الحافِظَ ابْنَ حجر عندما اختار استثناءَ ما ظاهره التعارض كان عليه أن يعين ذلك، ويشير إلى الأحاديث التي هي متعارضة تعارُضًا لا يمكن دفعه أصلاً، من أي وجه من الوجوه؛ لتكون بين عيني الحفاظ المتأخرين عنه، ولتجريَ عليها أسس البحوث والمناقشات كما جرت على انتقادات من انتقدها قبل، فتأتي بالنتيجة النهائية، إمَّا الحكم عليها التعارض حقيقة، وإمَّا الحكم بالذهول، والقصور، والعجز على مدى ذلك التعارض.
لأن العقول تتضاربُ، والمدارك تتباين، والمراتب العلمية تتفاوت، فرب دليل يتعارض عند أحد، مع أن غيره يجد له محملاً صحيحاً" ا . هـ،، والله أعلم
- التصنيف:
- المصدر: