مقدارُ ما يُعطى المستحقون من الزكاة
لديَّ مبلغٌ كبيرٌ من زكاة أموالي، فما هو المقدار الذي أعطيه للفقراء، وهل يجوز أن أعطي الفقير الواحد مبلغاً كبيراً أم أوزعه على عددٍ من الفقراء؟
أولا: حدد الله عز وجل مصارف الزكاة بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة الآية60].
ولا يجوز صرف الزكاة إلا لهذه الأصناف الثمانية فقط. ومن المعلوم أن جمع الزكاة وتوزيعها من مهمة الدولة المسلمة، فقد [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتان بعده يأخذون الزكاة من كل الأموال، إلى أن فوض عثمان رضي الله عنه في خلافته أداء الزكاة عن الأموال الباطنة إلى ملاكها، ودليل ذلك قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} وقول أبي بكر رضي الله عنه: (والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه). واتفق الصحابة على ذلك. ويجب على الإمام أخذ الزكاة ممن وجبت عليهم، فقد صرح الشافعية بأنه يجب على الإمام بعث السعاة لأخذ الصدقات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السعاة، ولأن في الناس من يملك المال ولا يعرف ما يجب عليه، ومنهم من يبخل. والوجوب هو أحد قولي المالكية، واحتجوا بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}. والذين رخصوا للإمام في عدم أخذ الزكاة من جميع الأموال أو من بعضها دون بعض، إنما هو إذا علم الإمام أنهم إذا لم يأخذها منهم أخرجوها من عند أنفسهم، أما لو علم أن إنساناً من الناس أو جماعةً منهم لا يخرجون الزكاة فيجب على الإمام أخذها منهم ولو قهراً] الموسوعة الفقهية الكويتية 23/303-304.
ولا شك أن قيام الدولة المسلمة بجمع الزكاة وتوزيعها يجعل الأمر منظماً ومرتباً، ويمنع الفوضى التي تحدث الآن في توزيع الزكاة لأن كثيراً من المستحقين للزكاة يأخذون من أكثر من جهة، فبعضهم يأخذ من عدة لجان للزكاة، وبعضهم يأخذ من الأغنياء الذين يخرجون الزكاة بأنفسهم، لأنهم لا يثقون ببعض لجان الزكاة القائمة. وما سأذكره في ثنايا هذا الجواب إنما ينطبق في أغلبه على ما هو الواقع في بلادنا، حيث إن كثيراً من المزكين يخرجون الزكاة بأنفسهم أو بوكلاء عنهم، وبعضهم يدفعها للجان الزكاة.
ثانياً: بحث الفقهاء قديماً وحديثاً مسألة المقدار الذي يأخذه المستحقون للزكاة اجتهاداً منهم بما يحقق مقاصد الزكاة، حيث إن المسألة لم يرد فيها تحديدٌ شرعيٌ يوقف عنده ولا يُتجاوز، قال الشيخ ابن حزم الظاهري: [يُعطى من الزكاة الكثير جداً، والقليل، لا حدَّ في ذلك، إذ لم يوجب الحدَّ في ذلك قرآنٌ ولا سنةٌ] المحلى 6/156. وبناءً على ذلك تعددت أقوال الفقهاء في المسألة، ولكلٍ منهم رأيُه وحُجتُه.
ثالثاً: بدأت آية مصارف الزكاة بالفقراء ثم بالمساكين، وفي هذا إشارة إلى أن المقصد الأهم من الزكاة سدُّ حاجتهم، فقال بعض الفقهاء يُعطى الفقير والمسكين كفاية السنة، وقد فسر الإمام النووي هذه الكفاية فقال: [المطعم والملبس والمسكن وسائر ما لا بدَّ له منه على ما يليق بحاله، بغير إسرافٍ ولا إقتار لنفس الشخص ولمن هو في نفقته] المجموع 6/191. وقال أبو حامد الغزالي بعد أن ذكر أقوال العلماء في ذلك: [. . . والأقرب إلى الاعتدال كفاية سنة فما وراءه فيه خطر، وفيما دونه تضييق] إحياء علوم الدين 2/201.
ومن الفقهاء من قال يُعطى الفقير والمسكين ما ينقله من حال الفقر والمسكنة إلى حال الغنى، قال الإمام النووي: [(المسألة الثانية) في قدر المصروف إلى الفقير والمسكين، قال أصحابنا العراقيون وكثيرون من الخراسانيين يعطيان ما يخرجهما من الحاجة إلى الغنى، وهو ما تحصل به الكفاية على الدوام، وهذا هو نص الشافعي رحمه الله واستدل له الأصحاب بحديث قبيصة بن المخارق الصحابي رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه مسلم في صحيحه)، والقوام والسداد بكسر أولهما وهما بمعنىً، قال أصحابنا فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة حتى يصيب ما يسد حاجته فدل على ما ذكرناه] المجموع 6/194. واحتجوا أيضاً بقول عمر رضى الله عنه: [إذا أعطيتم فأغنوا] الأموال ص 565.
ومن الفقهاء من حدَّ ذلك بما دون النصاب الموجب للزكاة وهو قول الحنفية، وفي المسألة أقوال أخرى، [والأقرب عدم التحديد بسنةٍ أو نصابٍ، وأن في المسألة تفصيلاً بحسب حال الفقير على النحو الآتي:
أولا: الفقير الذي يقوى على التكسب لا يُعطى أكثر من زكاة الحول؛ وذلك أنه يغلب على الظن ارتفاع وصف الفقر عنه في خلال ذلك العام، وذلك بالتكسب والامتهان والحرفة.
ثانياً: الفقير الذي يغلب على الظن أنه لا يمكنه التكسب وعدم تحصيل الكفاية كل حول من الزكاة، فهذا يُعطى كفايته على الدوام، بشرط بقاء اتصافه بصفة الفقر، فإذا ارتفع عنه هذا الوصف مُنع من أخذ الزكاة فيما يستقبل، ولا يلزمه أن يردَّ ما أخذه.
ثالثاً: أنه ينبغي في حال إعطاء الفقير مراعاة بقية الفقراء المستحقين في نفس البلد، فلا يؤدي إعطاؤه الكفاية إلى حرمان الآخرين، ففي هذه الحال ينبغي ألا يُعطى أكثر من زكاة سنة، ويقتصر عليها] بحث تمويل المسَاكن من أموال الزّكَاة لمحمَّد الدَّالي ص 22-23.
رابعاً: سهم العاملين عليها يتمثل في زماننا في الموظفين الذين يعملون في جمع الزكاة وتوزيعها كما هو الحال في لجان الزكاة في بلادنا وغيرها. وهؤلاء ينبغي أن يُعطوا أجر المثل فقط على قول جمهور الفقهاء، قال الإمام الطبري: [وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قولُ من قال يُعطى العامل عليها قدر عمالته وأجر مثله] تفسير الطبري 14/312.
وينبغي مراعاة ألا يطغى الصرف على العاملين في مجال الزكاة على أي مصرفٍ آخر من مصارف الزكاة، ويجب عدم المغالاة في رواتب هؤلاء الموظفين، فلا ينبغي أن تزيد نفقات العاملين على الزكاة عن الثمن، أي 12.5% من واردات الزكاة، لأن مصرف العاملين عليها إنما هو وسيلة لجمع الزكاة وتوزيعها، فلا ينبغي أن يستهلك هذا المصرف معظم مال الزكاة، وهذا النظر بناءً على قول الشافعية في المسألة.
خامساً: وأما سهم المؤلفة قلوبهم فيعطون بالمقدار الذي يحصل به التأليف بقدر الحاجة، قال البهوتي الحنبلي: [فان الكلام مفروض فيما إذا احتيج اليه ورآه الامام مصلحةً، وعدم اعطاء عمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم لهم لعدم الحاجة إليه، لا لسقوط سهمهم، فان تعذر الصرفُ لهم رُدَّ على باقي الأصناف] شرح منتهى الإرادات 2/127. ويقل الصرف إلى المؤلفة قلوبهم في بلادنا.
سادساً: المصرف الخامس”وفي الرقاب”ولا يكاد يوجد في زماننا.
سابعاً: الغارمون هم المصرف السادس من مصارف الزكاة، وهم الذين تحمَّلوا الديون ووجب عليهم أداؤها، ويُعطون مقدار ما يسدُّ ديونهم بشرط أن يكونوا في حاجةٍ إلى قضاء الديون، وأما إذا كان عندهم ما يقضون الديون به من مالٍ أو عقارٍ فلا يعطون. وأن يكونوا قد استدانوا في طاعةٍ، أو في أمرٍ مباح لا محرم. وأن تكون ديونهم حالَّةً لا آجلةً.
ثامناً: المصرف السابع من مصارف الزكاة هو”في سبيل الله”وهنالك خلافٌ بين الفقهاء في تحديده، فمنهم من يرى أن سبيل الله يراد به سبل الخير [المصالح العامة التي تقوم عليها أمور الدين والدولة دون الأفراد بالإضافة إلى المجاهدين والمرابطين كبناء المستشفيات والملاجئ والمدارس الشرعية والمعاهد الإسلامية والمكتبات العامة ومساعدة الجمعيات الخيرية على أداء مهماتها الإنسانية ودعم المؤسسات التي تقدم خدمات عامة لأفراد المجتمع وكذا الإنفاق على الجهاد شريطة ألا يأكل ذلك أسهم الأصناف الأخرى التي ذكرت في آية الصدقات.
ومن العلماء من يرى أن {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} الغزاة في سبيل الله فقط، ولا يصح صرف الزكاة فيما سواه، ومن العلماء من يرى أن مصرف "في سبيل الله" يُقصد به الجهاد والحج والعمرة. وهنالك أقوالٌ أخرى في المسألة، وأرجح الأقوال هو القول الأول الذي يرى جواز صرف الزكاة في المصالح العامة، وقد اختار هذا القول جماعة من العلماء المتقدمين والمعاصرين ولهم أدلة قوية على ما ذهبوا إليه. وبناءً على ذلك يجب التدقيق والنظر العميق قبل الصرف حتى نتحقق أن ما نصرفه من هذا السهم هو فعلاً من المصالح العامة للمسلمين، والتي تشمل الجهاد في سبيل الله بوسائله المتجددة من عصرٍ إلى عصر، ومن أهمها ما يؤدي إلى إقامة الدعوة إلى الله عز وجل. انظر مصارف الزكاة للهيتي ص369.
تاسعاً: أما ابن السبيل وهو الذي انقطعت به السبل في سفره عن بلده ومقره وعن ماله أيضاً، بشرط أن يكون محتاجاً، وأن لا يجد من يقرضه، فيعطى من الزكاة ما يوصله إلى مقصده ويرجعه إلى بلاده] إنفاق الزكاة في المصالح العامة ص100-101.
وخلاصة الأمر أن مقدار ما يُعطاه المستحق للزكاة لم يرد فيه تحديدٌ شرعيٌ يوقف عنده ولا يتجاوز، وقد تعددت أقوالُ الفقهاء في المسألة، ولكلٍ منهم رأيُه وحُجتُه، وآية مصارف الزكاة بدأت بالفقراء ثم بالمساكين، وفي هذا إشارة إلى أن المقصد الأهم من الزكاة سدُّ حاجتهم، فالفقير الذي يقوى على التكسب لا يُعطى أكثر من زكاة الحول؛ والفقير الذي يغلب على الظن أنه لا يمكنه التكسب، فهذا يُعطى كفايته، ولا أرى أن يفتت مبلغ الزكاة إلى مبالغ صغيرة كخمسة دنانير ويوزع على عددٍ كبير من الفقراء، لأن ذلك لا يسد حاجة الفقراء والمساكين. وينبغي مراعاة الحاجات العاجلة للفقراء والمساكين، وبقية المستحقين يُعطون حسب ما فصلته في الجواب.
حسام الدين عفانه
دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.
- التصنيف:
- المصدر: