البيعُ على النماذج والعَيِّنات
إنه يشتغل مندوب مبيعات ويبيع المحلات التجارية والصيدليات حسب العَيِّنَة، فما الحكم في ذلك؟
أولاً: البيع حسب العَيِّنَة معروفٌ عند الفقهاء قديماً باسم “بيع الأُنموذج”، وكلمة الأُنموذج أو النموذج معرَّبة، قال في القاموس المحيط: [النموذج، بفتح النون: مثالُ الشيء، معرَّبٌ. والأُنموذج لحن].
وقال شارحه: [والأُنموذج بضم الهمزة لحنٌ، كذا قاله الصاغاني في التكملة، وتبعه المصنف. قال شيخنا نقلاً عن النَّوَاجي-شمس الدين محمد بن حسن-في تذكرته: هذه دعوى لا تقوم عليها حجة. فما زالت العلماء قديماً وحديثاً يستعملون هذا اللفظ من غير نكيرٍ، حتى إن الزمخشري -وهو من أئمة اللغة- سمَّى كتابه في النحو "الأنموذج"، وكذلك الحسن بن رشيق القيرواني-وهو إمام المغرب في اللغة سمَّى به كتابه في صناعة الأدب].
وبيع النموذج هو أن يُقدم البائع عَيِّنَةً للمشتري ويكون البيع على مثلها، كأن يُري البائعُ المشتريَ عَيِّنَةً من القمح، ويتمُّ العقدُ على شراء مثل تلك العَيِّنَة، ومثل أن يُريه عَيِّنَةً من البلاط، فيقول أبيعك مثل هذه العَيِّنَة كل متر بخمسين شيقلاً، أو يريه كرسياً، فيقول له أبيعك مئة كرسي مثله بكذا وكذا.
ثانياً: الأصل المقرر عند الفقهاء أن يكون المبيع -السلعة- معلوماً للمتعاقدين [لا بد لمعرفة المبيع من أن يكون معلوماً بالنسبة للمشتري بالجنس والنوع والمقدار، فالجنس كالقمح مثلاً، والنوع كأن يكون من إنتاج بلدٍ معروف، والمقدارُ بالكيل أو الوزن أو نحوهما] الموسوعة الفقهية الكويتية9/16.
فإذا كان المبيع حاضراً يُكتفى بالإشارة إليه، كأن يقول البائع للمشتري بعتك هذا الخروف بمئتي دينارٍ، [من المقرر أن الإشارة إلى المبيع هي أقوى طرق التعريف والتعيين، ولذلك إذا كان المبيع في حضرة المتعاقدين (مجلس العقد) وتمَّ تعيينُهُ بالإشارة بحيث عرفه المشتري ورآه، فإن البيع لازم إذا خلا من سببٍ خاص (لا يتصل برؤية المبيع) من الأسباب التي ينشأ بها الخيار للمشتري] الموسوعة الفقهية الكويتية9/22.
وأما إذا كان المبيع غائباً، فإن قدَّم البائعُ عَيِّنَةً منه كالبلاط في المثال السابق، فرؤية العَيِّنَة كرؤية جميع المبيع. وإن كان المبيع مما لا يُعرف بالعَيِّنَة، كالغنم لاختلاف أفرادها، فلا بد من وصفه وصفاً نافياً للجهالة وقاطعاً للمنازعة.
قال عبد الله بن محمود الموصلي الحنفي: [ولا بد من معرفة المبيع معرفةً نافيةً للجهالة] الاختيار2/177.
ثالثاً: بيع النموذج أو العَيِّنَة جائزٌ عند جمهور الفقهاء قديماً وحديثاً، فبه قال الحنفية والمالكية ووجه عند الشافعية ورواية عن الإمام أحمد، رجحها المرادوي في الإنصاف، ورجحها العلامتان السعدي وتلميذه العثيمين، وعددٌ آخر من العلماء المعاصرين، منهم، د. محمد عقلة، د. النشمي، د. وهبة الزحيلي، وآخرون.
قال الزيلعي الحنفي: [(وكفت رؤيةُ وجه الصُّبْرَةِ- الصُّبْرَةُ ما جُمع من الطعام بلا كيلٍ ولا وزنٍ بعضه فوق-والرقيق والدابة وكفلها وظاهر الثوب مطوياً وداخل الدار)، لأن رؤية ما يُستدل به على المقصود يكفي، لتعسر رؤية الجميع، ورؤية هذه المواضع من هذه الأشياء يقع بها العلم بالمقصود، فلا معنى لاشتراط رؤية غيرها، ولو دخل في المبيع أشياء، فإن كان لا تتفاوت آحاده كالمكيل والموزون، وعلامته أن يعرض بالنموذج يُكتفى برؤية بعضه، لجريان العادة بالاكتفاء بالبعض في الجنس الواحد، ولوقوع العلم به بالباقي] تبيين الحقائق4/26.
وقال الدسوقي المالكي: [وجاز البيع برؤية بعض المثلي، أي بسبب رؤية بعض المثلي، سواء كان البيع بتاً أو على الخيار، ولو جزافاً لما مرَّ أن رؤية البعض كافية فيه] حاشية الدسوقي11/47.
وقال الخطيب الشربيني الشافعي: [ومثل أنموذج المتماثل، أي المتساوي الاجزاء كالحبوب، فإن رؤيته تكفي عن رؤية باقي المبيع، فلا بدَّ من إدخاله في المبيع] مغني المحتاج6/299.
وقال المرداوي الحنبلي مرجحاً القول بجواز بيع النموذج: [ولا يصح بيع الأنموذج بأن يريه صاعاً ويبيعه الصُّبْرَةَ على أنها من جنسه على الصحيح من المذهب، وقدَّمه في الفروع وغيره. وقيل ضبط الأنموذج كذكر الصفات، نقل جعفر فيمن يفتح جراباً ويقول الباقي بصفته إذا جاء على صفته ليس له ردُّه. قلت: وهو الصواب] الإنصاف7/276.
وقال العلامة السعدي: [وهذا يدل على قوة القول بصحة بيع الأنموذج؛ لعدم الفرق بينه وبين رؤية ظاهر الصُّبْرَةِ المتساوية الأجزاء ونحوها، يحقق هذا أنه يجب تطبيق جميع المفردات والتفاصيل على أصل الشرط وهو العلم، فمتى حصل العلم به بأي طريقٍ جاز، ومتى انتفى العلمُ لم يجز] الفتاوى السعدية7/198.
وقال العلامة العثيمين [مسألة: هل يصح بيع الأنموذج؟ الجواب: في هذا خلافٌ بين العلماء، منهم من يرى أنه لا يصح، والصحيح أن البيع صحيح؛ لأن العلم مدرك بهذا، وما زال الناس يتعاملون به. . . ومذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه يصح البيع، ويكون للمشتري الخيار إذا رآه، وهذا هو الصحيح] الشرح الممتع8/151-152.
وقال د. محمد عقلة: [جمهور فقهاء المسلمين يرون صحة بيع الأنموذج، وجواز الاكتفاء برؤية بعض المبيع ما دام يدل بصورة كافية على بقيته، وأن أدلة القائلين بمنعه لا ينتهض بها حجة على ما قالوا، فالأولى المصير إلى مذهب الجمهور].
ومما يدل على جواز بيع النموذج أو العَيِّنَة، أن رؤية بعض المبيع تكفي إن دلت على الباقي فيما لا يختلف أجزاؤه اختلافاً بيِّناً، لذلك شرط القائلون بجوازه أن يكون في المثليات التي لا تتفاوت أفرادُها،
قال د. محمد عقلة: [جميع من أجازوا بيع الأنموذج من الفقهاء متفقون على اشتراط أن يكون المعقود عليه من المثليات التي لا تتفاوت آحادها، ويبطلونه في غير المثلي كالعددي المتفاوت] المصدر السابق. فمن اشترى صندوق بندورة أو كيس قمحٍ فلا يُشترط أن يرى كل حبةٍ، وقد جرى عرف الناس بذلك، فلا يرون كل أجزاء أو أفراد ما يشترونه، لأن اشتراط ذلك يوقع في الحرج، والحرج مرفوعٌ في شريعتنا.
رابعاً: أخذت القوانين المدنية في بعض البلاد كفلسطين والأردن بجواز بيع العَيِّنَةِ أو النموذج، فقد ورد في مجلة الأحكام العدلية في المادة (324): [الأشياء التي تباع على مقتضى أنموذجها، تكفي رؤية الأنموذج منها فقط].
وقال شارح المجلة: [كالمكيلات والموزونات والمعدودات المتقاربة، والثياب التي تكون نسيجَ مكانٍ واحدٍ، فرؤية الأنموذج منه أو بعضه تكفي لسقوط خيار الرؤية، لأن المقصود معرفة صفة المبيع، فبرؤية الأنموذج يحصل ذلك. وقد جرى العرف بذلك. . . فعلى هذا إذا اشترى شخصٌ شيئاً من ذلك بعد رؤية أنموذجه، فليس-له-خيار رؤيةٍ عند رؤيةِ الباقي، ما لم يكن الباقي أدنى من الأنموذج أو من البعض الذي رُئي، فيكون مخيراً بخيار العيب (الملتقى، مجمع الأنهر) فرؤية نماذج الثياب التي اعتاد التجارُ بيعها بعرض هذه النماذج التي تبين طول الثوب وعرضه وشكله، مسقطةٌ لخيار الرؤية، لأن المتعارف بين التجار بيعُ هذه الثياب بعرض نماذجها. وكذلك إذا اشترى شخصٌ مثلياً من جنسٍ واحدٍ كالمكيلات والموزونات والمعدودات المتقاربة سواء أكانت في إناءٍ واحدٍ أم أوانٍ مختلفةٍ، فرؤية بعضه قبل الشراء تجزئ عن رؤية باقيه على القول الأصح (بزازية)، لأن تعريف الباقي فيما إذا كان الكل في وعاءٍ واحدٍ باعتبار المماثلة، لا باعتبار اتحاد الوعاء (طحطاوي) فإذا اشترى شخصٌ شيئاً من ذلك بعد رؤية نموذجه والرضا به، فلا يكون مخيراً عند رؤية الباقي إلا إذا ظهر أن المال الذي لم يره قبلاً دون ما رأى نموذجه (انظر المادة التالية). أما إذا كانت المثلياتُ مختلفةَ الجنس، فلا تكفي رؤيةُ جنسٍ منها لإسقاط خيار الرؤية في الأجناس الأخرى، ويكون للمشتري خيارُ الرؤية فيما رآه وما لم يره] درر الحكام2/164-165.
وورد في القانون المدني الأردني: [المادة 468/1 اذا كان البيع بالنموذج تكفي فيه رؤيته ووجب أن يكون المبيع مطابقاً له] . خامساً: يترتب على القول بجواز بيع العَيِّنَة أو النموذج ثبوتُ الخيار للمشتري بعد الرؤية، فإذا لم يكن المبيع مطابقاً للنموذج، فيثبت الخيارُ للمشتري،
ورد في المادة(325)من مجلة الأحكام العدلية: [ما بيع على مقتضى الأنموذج، إذا ظهر دون الأنموذج يكون المشتري مخيَّراً، إن شاء قبله، وان شاء ردَّه].
وقال شارحها: [مثلاً الحنطة والسمن والزيت وما صنع على نسقٍ واحدٍ من الكرباس والجوخ وأشباهها، إذا رأى المشتري أنموذجها ثم اشتراها على مقتضاه، فظهرت أدنى من الأنموذج، يخير المشتري حينئذ إذا ظهر المبيع أدون من الأنموذج أو من بعض المبيع الذي رآه المشتري، فالمشتري يكون مخيَّراً بخيار العيب فيما رآه نموذجاً، وفيما لم يره، وله قبول المبيع بجميع الثمن المسمَّى أو ردَّه وفسخ البيع] درر الحكام2/166.
وقال د. محمد عقلة: [مذهب الحنفية أكثر المذاهب تفصيلاً في أحكام هذا البيع، ولاسيما ما يترتب عليه من ثبوت الخيار للمشتري عند رؤية سائر المبيع، فلا يكون مطابقاً للأنموذج، وما يترتب على هذا الخيار من ردِّ المبيع كله أو إمساكه كله، والتعرض لحالة اختلاف المشتري والبائع في المطابقة بين العَيِّنَة وسائر المبيع. وهذه النقاط جميعاً لم يتعرض لها سائر الفقهاء كليةً، أو بإيجاز لا يبلغ حدَّ التوضيح والتفصيل الذي يظهر في فقه الحنفية].
وخلاصة الأمر أن البيع حسب العَيِّنَة معروفٌ عند الفقهاء قديماً باسم بيع الأُنموذج، وأن بيع النموذج هو أن يُقدم البائع عَيِّنَةً للمشتري ويكون البيع على مثلها، وأن الأصل المقرر عند الفقهاء أن يكون المبيع معلوماً علماً نافياً للجهالة وقاطعاً للمنازعة، وأن بيع النموذج أو العَيِّنَة جائزٌ عند جمهور الفقهاء قديماً وحديثاً، وأخذت القوانين المدنية في بعض البلاد كفلسطين والأردن بجواز بيع العَيِّنَة أو النموذج، وأنه يترتب على القول بجواز بيع العَيِّنَة أو النموذج ثبوت الخيار للمشتري بعد الرؤية، فإذا لم يكن المبيع مطابقاً للنموذج، فيثبت الخيار للمشتري، فإن شاء أخذ السلعة وإن شاء ردَّها.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
حسام الدين عفانه
دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.
- التصنيف:
- المصدر: