مسؤوليةُ الزوج عن نقل الأمراضِ الجنسيةِ الخطيرةِ لزوجته

منذ 2015-10-01
السؤال:

بعد زواجي بفترةٍ قصيرةٍ تبين أنني مصابةٌ بمرضٍ جنسيٍ خطيرٍ، وبعد إجراء الفحوصات الطبية تبين أن زوجي قد نقل لي المرض، وقد أقرَّ بعلاقةٍ جنسيةٍ محرمةٍ قبل الزواج، وأنا أُطالبه بالانفصال، وبالتعويض المادي جراء ما أصابني، فما الحكم الشرعي في ذلك؟ 

 

الإجابة:

قضية الزواج واختيار الزوجة والزوج من القضايا المهمة في حياة المسلم، وواجب على الأولياء أن يتريثوا عندما يتقدم شخصٌ لخطبة بناتهم، وأن يسألوا عنه ويتأكدوا من حُسن دينه وخلقه وأمانته، وقد وضع الإسلام معياراً شرعياً لقبول الخاطب، وهو اعتبار الكفاءة في الدين،

فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريضٌ» (رواه الترمذي وابن ماجة، وحسنه العلامة الألباني).

قال الشيخ المباركفوري: "قوله: (إذا خطب إليكم) أي طلب منكم أن تزوجوه امرأة من أولادكم وأقاربكم (من ترضون) أي تستحسنون (دينه) أي ديانته (وخلقه) أي معاشرته (فزوجوه) أي إياها (إلا تفعلوا) أي إن لم تزوجوا من ترضون دينه وخلقه وترغبوا في مجرد الحسب والجمال أو المال (وفساد عريض) أي ذو عرض أي كبير، وذلك لأنكم إن لم تزوجوها إلا من ذي مالٍ أو جاهٍ، ربما يبقى أكثرُ نسائكم بلا أزواج، وأكثر رجالكم بلا نساء، فيكثر الافتتان بالزنا، وربما يلحق الأولياء عارٌ فتهيج الفتن والفساد، ويترتب عليه قطع النسب وقلة الصلاح والعفة" (تحفة الأحوذي4/173).

وعن أبي حاتم المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد. قالوا: وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه» ثلاث مرات. (رواه الترمذي وحسنه العلامة الألباني).

وقد اتفق جمهور أهل العلم على أن الأصل في الكفاءة هو الدين لقوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ} بسورة السجدة الآية18].

قال الشيخ ابن رشد الحفيد: "ولم يختلف المذهب -أي مذهب مالك- أن البكر إذا زوجها الأب من شارب الخمر وبالجملة من فاسقٍ أن لها أن تمنع نفسها من النكاح، وينظر الحاكم في ذلك فيفرق بينهما، وكذلك إن زوجها ممن ماله حرام، أو ممن هو كثير الحلف بالطلاق" (بداية المجتهد2/13).

وبهذا يظهر جلياً أن الأصل في الكفاءة هو الدين أي التقوى والصلاح -ويدخل حسن الخلق في ذلك- ولا تمنع الشريعة الإسلامية أن تتوفر صفات أخرى طيبة في الخاطب كالنسب الكريم والغنى والحرفة الحسنة والسلامة من العيوب الخلْقية، فواجب الآباء والأولياء أن يتحروا عمن يتقدم لخطبة بناتهم، وأن ينظروا ويفحصوا أحوالهم، وأن يجعلوا المعيار للقبول والرد هو ما قرره الشرع كما سبق في الحديث.

ثانياً:  لا مانع شرعاً من إجراء الفحص الطبي قبل الزواج بشكل عام لمن يرغبون في الزواج، وخاصة إذا ثارت شكوكٌ حول صحة أحد الخاطبين،

قال د. محمد علي البار: "ولا يوجد ما يمنع من إجراء فحص للراغبين في الزواج يثبت خلوهما من الأمراض المعدية والعيوب الوراثية الظاهرة أو الموجودة في تاريخ الأسرة، ولا بد على الأقل من التأكد من عدم وجود مرضٍ من أمراض الزنا أو اللواط لدى أحد الخاطبين، وإن كان هناك مرضٌ تمَّ معالجته قبل عقد الزوجية. وهناك بابٌ جديدٌ في الطب يسمَّى الاستشارة الوراثية، وقد بدأ في الظهور في الدول الغربية، وسيصل عما قريبٍ إلينا مع ما يفد من حضارة الغرب خيرها وشرها" (الجنين المشوه والأمراض الوراثية ص 366).

والفحص الطبي قبل الزواج مشروعٌ، ويدل على ذلك الأدلة العامة الآمرة بالتداوي. ومعروفٌ أن الفحص الطبي قبل الزواج من باب الوقاية، والوقاية خيرٌ من العلاج. ومما يدل على جواز الفحص الطبي قبل الزواج للذكر والأنثى على حدٍّ سواء، قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا توردوا الممرض على المصح» (رواه البخاري ومسلم).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً خطب امرأةً فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً» (رواه مسلم).

ثالثاً:  يجب شرعاً على أحد الخاطبين إذا كان مصاباً بمرضٍ خطيرٍ أن يخبر الطرف الآخر، ويحرم شرعاً كتمان ذلك، لأنه غشٌ وخداعٌ وكلاهما حرامٌ شرعاً،

فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: «من غشنا فليس منَّا، والمكرُ والخداعُ في النار» (رواه ابن حبان والطبراني وصححه العلامة الألباني). وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه بعث رجلاً على بعض السعاية، فتزوج من امرأةٍ وهو عقيم، فقال له عمر رضي الله عنه: "هل أعلمتها أنك عقيم؟ قال: لا، قال: فأعلمها ثم خيَّرها" (رواه عبد الرزاق في المصنف ورجاله ثقات، وذكره ابن القيم في زاد المعاد 5/182).

قال العلامة ابن القيم: "وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم على البائع كتمان عيبِ سلعته، وحرَّم على من علمه أن يكتمه من المشتري، فكيف بالعيوب في النكاح، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس حين استشارته في نكاح معاوية أو أبي الجهم: «أما معاوية فصعلوكٌ لا مال له، وأما أبو جهمٍ فلا يضعُ عصاه عن عاتقه» فعُلم أن بيان العيب في النكاح أولى وأوجب" (زاد المعاد5/185-186).

وضابط العيب الذي يجب الإخبار عنه كما يلي:

(1) كل عيبٍ يمنع الاستمتاع الجنسي بين الزوجين، سواء كان في الرجل أو في المرأة يعتبر عيباً يجب بيانه والإخبار عنه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فصل في العيوب المثبتة للفسخ: والاستحاضة عيبٌ يثبت به فسخ النكاح في أظهر الوجهين…وتُردُّ المرأةُ بكل عيبٍ يُنفر عن كمال الاستمتاع" (الاختيارات ص222).

(2) إذا كان العيبُ من الأمراض الخطيرة والمعدية، كمرض الإيدز والسفلس والسيلان وفيروسHPV ونحوها سواء كان في الرجل أو في المرأة يعتبر عيباً يجب بيانه والإخبار عنه.

(3) العقم، سواء كان في الرجل أو في المرأة يعتبر عيباً يجب بيانه والإخبار عنه.

(4) أن يكون العيب دائماً وليس عارضاً يزول بالتداوي.

رابعاً: إذا كتم أحد الخاطبين أنه مصابٌ بمرضٍ خطيرٍ، وتمَّ الزواج، فللطرف الآخر حقُّ فسخ النكاح، "إذا غشَّ أحدُ الزوجين الآخر بكتمان عيبٍ فيه ينافي الاستمتاع أو كمال الاستمتاع، يثبتُ للمتضرر منهما خيارُ الفسخ عند جمهور الفقهاء في الجملة" (الموسوعة الفقهية الكويتية 31/226).

وورد في قرار المجمع الفقهي الإسلامي المتعلق بمرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز): "خامساً: حق السليم من الزوجين في طلب الفرقة من الزوج المصاب بعدوى مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز): للزوجة طلب الفرقة من الزوج المصاب باعتبار أن مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) مرضٌ معدٍ تنتقل عدواه بصورةٍ رئيسيةٍ بالاتصال الجنسي"

وجاء في المادة (116) من قانون الأحوال الشخصية المطبق في بلادنا: "إذا ظهر للزوجة قبل الدخول أو بعده أن الزوج مبتلى بعلةٍ أو مرضٍ لا يمكن الإقامة معه بلا ضرر كالجذام أو البرص أو السل أو الزهري أو طرأت مثل هذه العلل والأمراض، فلها أن تراجع القاضي وتطلب التفريق"

وورد في المادة (117): "للزوج حقٌّ طلب فسخ عقد الزواج إذا وجد في زوجته عيباً جنسياً مانعاً من الوصول إليها كالرتق والقرن أو مرضاً منفراً بحيث لا يمكن المقام معها عليه بلا ضررٍ، ولم يكن الزوج قد علم به قبل العقد أو رضي به بعده صراحة أو ضمناً".

خامساً: إذا كتم أحد الخاطبين أنه مصابٌ بمرضٍ خطيرٍ، وتمَّ الزواج ونقلَ المرضَ للطرف الآخر، فإن ذلك جريمةٌ عظيمةٌ،  وذنبٌ كبيرٌ، لما يترتب عليه من ضررٍ للطرف الآخر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (رواه ابن ماجة والدارقطني والحاكم وغيرهم وصححه العلامة الألباني).

وإذا كان الناقل للمرض هو الزوج كما في السؤال، فيجب للزوجة كامل حقوقها المنصوص عليها في عقد الزواج، وللزوجة طلبُ تعويضٍ زائدٍ عن حقوقها المنصوص عليها في عقد الزواج، ويرجع تقدير التعويض للقضاء الشرعي، وينبغي للقاضي الشرعي استشارة الأطباء لمعرفة مقدار الضرر الذي لحق بالزوجة نتيجة انتقال المرض الخطير لها. وقد قرر الفقهاء أن مما يتحقق به الضمانُ التعدي والضرر، وكلاهما واقع على هذه الزوجة.

وكذلك يُلزم الزوج الناقل للمرض الخطير لزوجته بنفقات علاجها. وكذلك يعاقب الزوج تعزيراً إذا ثبت تعمده نقل المرض الخطير لزوجته، والمرجع في العقوبة التعزيرية للحاكم المسلم.

ورد في قرار المجمع الفقهي الإسلامي المتعلق بمرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز):

"ثانياً: تعمّد نقل العدوى: تعمد نقل العدوى بمرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) إلى السليم منه بأية صورة من صور التعمد عملٌ محرمٌ، ويُعدٌّ من كبائر الذنوب والآثام، كما أنه يستوجب العقوبة الدنيوية، وتتفاوت هذه العقوبة بقدر جسامة الفعل وأثره على الأفراد وتأثيره على المجتمع.

فإن كان قصد المتعمد إشاعة هذا المرض الخبيث في المجتمع، فعمله هذا يُعدُّ نوعاً من الحرابة والإفساد في الأرض، ويستوجب إحدى العقوبات المنصوص عليها في آية الحرابة. قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].

وإن كان قصده من تعمُّد نقل العدوى إعداء شخصٍ بعينه، وتمَّت العدوى، ولم يمت المنقول إليه بعد، عوقب المتعمد بالعقوبة التعزيرية المناسبة، وعند حدوث الوفاة يُنظر في تطبيق عقوبة القتل عليه. وأما إذا كان قصده من تعمد نقل العدوى إعداء شخصٍ بعينه، ولكن لم تنتقل إليه العدوى، فإنه يعاقب عقوبة تعزيرية".

 

وخلاصة الأمر أن قضية الزواج واختيار الزوجة والزوج من القضايا المهمة في حياة المسلم، وواجب على الأولياء أن يتريثوا عندما يتقدم شخصٌ لخطبة بناتهم، وأن يتحروا عنه ويتأكدوا من حُسن دينه وخلقه وأمانته،

وقد وضع الإسلام معياراً شرعياً لقبول الخاطب وهو اعتبار الكفاءة في الدين، وأنه لا مانع شرعاً من إجراء الفحص الطبي قبل الزواج بشكلٍ عامٍ لمن يرغبون في الزواج، وخاصة إذا ثارت شكوكٌ حول صحة أحد الخاطبين، وأنه يجب شرعاً على أحد الخاطبين إذا كان مصاباً بمرضٍ خطيرٍ أن يخبر الطرف الآخر، ويحرم شرعاً كتمان ذلك، وأنه إذا كتم أحد الخاطبين إصابته بمرضٍ خطيرٍ، وتمَّ الزواج، فللطرف الآخر حق فسخ النكاح، وأنه إذا كتم أحد الخاطبين إصابته بمرضٍ خطيرٍ، وتمَّ الزواج ونقل المرض للطرف الآخر، فإن ذلك جريمةٌ عظيمةٌ، وذنبٌ كبيرٌ، لما يترتب عليه من ضرر للطرف الآخر، ويجب للزوجة كاملُ حقوقها المنصوص عليها في عقد الزواج، ولها طلب تعويضٍ زائدٍ عن حقوقها المنصوص عليها في عقد الزواج، ويُلزم الزوج الناقل للمرض الخطير لزوجته بنفقات علاجها.

ويعاقب الزوج تعزيراً إذا ثبت تعمده نقل المرض الخطير لزوجته والمرجع في العقوبة التعزيرية للحاكم المسلم.

والله الهادي إلى سواء السبيل. 

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.

  • 3
  • 0
  • 57,288

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً