التكرار في القرآن الكريم: (أنواعه، وفوائده)
أبحث في موضوع وهو: مظاهر التكرار في القرآن الكريم.
هذه بعض المباحث اليسيرة في "التكرار في القرآن"، وهي تتناسب مع طبيعة الموقع، ويمكنك التوسع في الموضوع فيما نُحيل عليه من مراجع، ومن كتب علوم القرآن عمومًا.
أولًا: تعريف التكرار لغة واصطلاحًا.
قال ابن منظور: "الكَرُّ: الرجوع، يقال: كَرَّه وكَرَّ بنفسه، يتعدّى ولا يتعدّى، والكَرُّ مصدر كَرَّ عليه يَكُرُّ كرًّا... والكَرُّ: الرجوع على الشيء، ومنه التَّكْرارُ... قال: الجوهري: كَرَّرْتُ الشيء تَكْرِيرًا وتَكْرارًا" (لسان العرب: [5/135]).
التكرار في الاصطلاح: تكرار كلمة أو جملة أكثر من مرةٍ لمعاني متعددة كالتوكيد، والتهويل، والتعظيم، وغيرها.
ثانيًا: التكرار من الفصاحة.
اعترض بعض من لا يفقه لغة العرب فراح يطعن بالتكرار الوارد في القرآن، وظن هؤلاء أن هذا ليس من أساليب الفصاحة، وهذا من جهلهم، فالتكرار الوارد في القرآن ليس من التكرار المذموم الذي لا قيمة له -كما سيأتي تفصيله- والذي يرد في كلام من لا يحسن اللغة أو لا يحسن التعبير.
قال السيوطي رحمه الله: "التكرير وهو أبلغ من التأكيد، وهو من محاسن الفصاحة خلافًا لبعض من غلط" (الإتقان في علوم القرآن: [3/280]، طبعة مؤسسة النداء).
ثالثًا: أنواع التكرار.
قسَّم العلماء التكرار الوارد في القرآن إلى نوعين:
أحدهما: تكرار اللفظ والمعنى.
وهو ما تكرر فيه اللفظ دون اختلاف في المعنى، وقد جاء على وجهين: موصول، ومفصول.
أما الموصول: فقد جاء على وجوه متعددة: إما تكرار كلمات في سياق الآية، مثل قوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون:36]، وإما في آخر الآية وأول التي بعدها، مثل قوله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا . قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان:15-16]، وإما في أواخرها، مثل قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} [الفجر:21]، وإما تكرر الآية بعد الآية مباشرة، مثل قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5-6].
وأما المفصول: فيأتي على صورتين: إما تكرار في السورة نفسها، وإما تكرار في القرآن كله.
مثال التكرار في السورة نفسها: تكرر قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} في سورة [الشعراء] 8 مرات، وتكرر قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} في سورة [المرسلات] 10 مرات، وتكرر قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} في سورة [الرحمن] 31 مرة.
ومثال التكرار في القرآن كله: تكرر قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} 6 مرات: في [يونس:48]، و[الأنبياء:38]، و[النمل:71]، و[سبأ:29]، و[يس:48]، و[الملك:25]، وتكرر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} مرتين: في [التوبة:73]، و[التحريم:9].
والثاني: التكرار في المعنى دون اللفظ.
وذلك مثل قصص الأنبياء مع أقوامهم، وذِكر الجنة ونعيمها، والنار وجحيمها.
رابعًا: فوائد التكرار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وليس في القرآن تكرار محض، بل لا بد من فوائد في كل خطاب" (مجموع الفتاوى: [14/408]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التعليق على تكرار قصة موسى مع قومه-: "وقد ذكر الله هذه القصة في عدة مواضع من القرآن، يُبيّن في كل موضع منها من الاعتبار والاستدلال نوعًا غير النوع الآخر، كما يسمَّى اللهُ ورسولُه وكتابُه بأسماء متعددة، كل اسم يدل على معنى لم يدل عليه الاسم الآخر، وليس في هذا تكرار، بل فيه تنويع الآيات مثل أسماء النبي صلى الله عليه وسلم إذا قيل: محمد، وأحمد، والحاشر، والعاقب، والمقفى، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة، في كل اسم دلالة على معنى ليس في الاسم الآخر، وإن كانت الذات واحدة فالصفات متنوعة. وكذلك القرآن إذا قيل فيه: قرآن، وفرقان، وبيان، وهدى، وبصائر، وشفاء، ونور، ورحمة، وروح: فكل اسم يدل على معنى ليس هو المعنى الآخر.
وكذلك أسماء الرب تعالى إذا قيل: الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور: فكل اسم يدل على معنى ليس هو المعنى الذي في الاسم الآخر، فالذات واحدة، والصفات متعددة، فهذا في الأسماء المفردة. وكذلك في الجمل التامة، يُعبَّر عن القصة بجُمَل تدل على معانٍ فيها، ثم يُعبَّر عنها بجُمَلٍ أخرى تدل على معانٍ أُخَر، وإن كانت القصة المذكورة ذاتها واحدة فصفاتها متعددة، ففي كل جملة من الجُمَل معنًى ليس في الجُمَل الأُخَر" (مجموع الفتاوى: [19/ 167-168]).
وقال السيوطي رحمه الله: "وله -أي: التكرار- فوائد:
منها: التقرير، وقد قيل [الكلام إذا تكرَّر تقرَّر]، وقد نبّه تعالى على السبب الذي لأجله كرر الأقاصيص والإنذار في القرآن بقوله: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا}.
ومنها: التأكيد.
ومنها: زيادة التنبيه على ما ينفي التهمة ليكمل تلقي الكلام بالقبول، ومنه: {وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ . يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ}، فإنه كرر فيه النداء لذلك.
ومنها: إذا طال الكلام وخشي تناسي الأول أعيد ثانيها تطرية له وتجديدًا لعهده، ومنه {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا}، {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا}، {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} إلى قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}، {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ}، {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ}.
ومنها: التعظيم والتهويل نحو {الْحَاقَّةُ . مَا الْحَاقَّةُ}، {الْقَارِعَةُ . مَا الْقَارِعَةُ}، {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ}" (الإتقان في علوم القرآن: [3/ 281-282]، طبعة مؤسسة النداء).
خامسًا: فوائد تكرار بعض القصص والآيات.
1- قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: "فإن قيل: ما الفائدة في تكرار قوله: {فبأيِّ آلاء ربِّكما تُكذِّبانِ}؟
الجواب: أن ذلك التكرير لتقرير النِّعم وتأكيد التذكير بها، قال ابن قتيبة: من مذاهب العرب التكرار للتوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز؛ لأن افتنان المتكلِّم والخطيب في الفنون أحسن من اقتصاره في المقام على فنٍّ واحدٍ، يقول القائل منهم: واللهِ لا أفعله، ثم واللهِ لا أفعله، إذا أراد التوكيد وحسم الأطماع مِنْ أنْ يفعله، كما يقول: واللهِ أفعلُه، بإضمار [لا] إذا أراد الاختصار، ويقول القائل المستعجِل: اعْجَل اعْجَل، وللرامي: ارمِ ارمِ،...
قال ابن قتيبة: فلمّا عَدَّد اللهُ تعالى في هذه السورة نعماءَه، وأذكَرَ عِبَادَه آلاءَه، ونبَّههم على قُدرته، جعل كل كلمة من ذلك فاصلة بين كل نِعمتين، ليُفَهِّمهم النِّعم ويُقَرِّرهم بها، كقولك للرجل: أَلم أُبَوِّئْكَ مَنْزِلًا وكنتَ طريدًا؟ أفتُنْكِرُ هذا؟ ألم أحُجَّ بك وأنت صَرُورَةٌ [هو من لم يحج قط]؟ أفَتُنْكِرُ هذا؟" (زاد المسير: [5/461]).
2- قال القرطبي رحمه الله: "وأما وجه التكرار -أي: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}- فقد قيل إنه للتأكيد في قطع أطماعهم، كما تقول: والله لا أفعل كذا، ثم والله لا أفعله. قال أكثر أهل المعاني: نزل القرآن بلسان العرب، ومن مذاهبهم التكرار إرادة التأكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز؛ لأن خروج الخطيب والمتكلم من شيءٍ إلى شيءٍ أولى من اقتصاره في المقام على شيءٍ واحد، قال الله تعالى: {فبأيِّ آلاء ربِّكما تُكذِّبانِ}، {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}، {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ}، و{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}: كل هذا على التأكيد" (تفسير القرطبي: [20/226]).
- التصنيف:
- المصدر: