طاف وسعى وتحلل ناسياً وضوءه
إنسان طاف وسعى وحلَق، ثمَّ تذكَّر أنَّه طاف بدون وضوء؟ فماذا يفعل؟ وماذا عليه؟
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فقد ذهب جُمْهور الفُقهاء من المالكيَّة والشافعيَّة، والحنابِلة في إحدى الروايتَين - إلى عدم جواز الطَّواف بلا طهارة؛ لأنَّ الطَّهارة شرطٌ في صحَّة الطَّواف، واحتجُّوا بِحديث: ا « ».
وأُجيب بأنَّ معنى الحديث: أنَّ الطَّواف يُشْبِه الصَّلاة في بعض الوُجوه، وليس أنَّه يُبْطِله ما يُبْطِل الصَّلاة، أو يشتَرَط له ما يُشترط لها؛ بدليلِ اتِّفاق العُلماء على أنَّه لا يَجب للطَّواف ما يَجب للصَّلاة، من تَحريم وتَحليل وقِراءةٍ وغيرِ ذلك، ولا يُبطِله ما يُبْطِلها من الأكْل والشُّرب والكلام وغيرها، ولأنَّ الله فرَّق بين الصَّلاة والطَّواف في قولِه تعالى: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، والعطْف يُفيد التَّغايُر بإجْماع العُلماء.
وذهب الحنفيَّة - في الصَّحيح عندهم - إلى أنَّ الطَّهارة في الطَّواف من الواجبات، وهو روايةٌ عن أحمد، وعنْه: أنَّه إن كان ناسيًا لطهارتِه حتَّى رجع إلى بلدِه، فلا شيءَ عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "منسكه": "هل يُشْتَرط للطَّواف شروطُ الصَّلاة؟
على قولين في مذهب أحْمد وغيره:
أحدُهما: يُشْتَرط؛ كقوْل مالك والشَّافعي وغيرهما.
الثاني: لا يُشْتَرط، وهذا قوْل أكثَر السَّلف، وهو مذْهب أبي حنيفة وغيره، وهذا القوْل هو الصَّواب؛ فإنَّ المشتَرِطين في الطَّواف كشروط الصَّلاة ليْس معهم حجَّة؛ إلاَّ قوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: « »، وهذا لو ثبتَ عن النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لَم يكُن لهم فيه حجَّة، والأدلَّة الشَّرعيَّة تدلُّ على خلاف ذلك؛ فإنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لَم يوجب على الطَّائفين طهارةً ولا اجتِناب نجاسة، بل قال: « »، والطَّواف ليْس كذلِك، والطَّواف لا يَجِب فيه ما يَجب في الصَّلاة، ولا يحرم فيه ما يَحرم في الصَّلاة، فبطل أن يكون مثلَها.
وقد ذكروا من القِياس أنَّها عبادةٌ متعلِّقة بالبيْت، فكانت الطَّهارة وغيْرها شرطًا فيها كالصَّلاة، وهذا القياس فاسد؛ فإنَّه يقال: لا نسلِّم أنَّ العلَّة في الأصْل: كونُها متعلِّقةً بالبيْت، ولم يذكروا دليلاً على ذلك، والقِياس الصَّحيح ما بيِّن فيه أنَّ المشترك بين الأصْل والفرع هو علَّة الحكم، أو دليل العلَّة، أيضًا فالطَّهارة إنَّما وجبت لكوْنِها صلاةً، سواء تعلَّقت بالبيْت أو لم تتعلَّق، ألا ترى أنَّهم لمَّا كانوا يصلُّون إلى الصَّخرة، كانت الطَّهارة أيضًا شرْطًا فيها، ولم تكن متعلِّقة بالبيت، وكذلك أيضًا إذا صلَّى".
فليس إلْحاق الطَّائف بالرَّاكع السَّاجد بأوْلى من إلْحاقِه بالعاكِف؛ بل بالعاكِف أشبه؛ لأنَّ المسجد شرطٌ في الطَّواف والعُكوف، وليس شرطًا في الصَّلاة".
وقال: "فإنَّه لم ينقل أحدٌ عنِ النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أنَّه أمر بالطَّهارة للطَّواف، ولا نَهى المحْدِث أن يطوف؛ ولكنَّه طاف طاهرًا، لكنَّه ثبت عنه أنَّه نَهى الحائض عن الطَّواف، وقد قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: « »، فالصَّلاة التي أوْجب لها الطَّهارة ما كان يفتتَح بالتَّكبير ويُخْتَم بالتَّسليم، قال أحمد بن حنبل في "مناسك الحجِّ" لابنِه عبدالله: حدَّثنا سهل بن يوسف، أنبأنا شعبة عن حمَّاد ومنصور، قال: سألتُهُما عن الرَّجُل يطوف بالبيت وهو غير متوضِّئ، فلم يرَيا به بأسًا.
قال عبدالله: سألت أبي عن ذلك، فقال: أحَبُّ إليَّ ألاَّ يطوفَ بالبيْت وهو غير متوضِّئ؛ لأنَّ الطَّواف بالبيت صلاة، وقدِ اختلفتِ الرِّواية عن أحْمد في اشتِراط الطَّهارة فيه ووجوبها.
وأجاب - رحِمه الله - على حديثِ ابْنِ عبَّاس السَّابق بقوله: "ولا ريْبَ أنَّ المراد بذلك: أنَّه يُشْبِه الصَّلاة من بعض الوجوه، ليْس المراد أنَّه نَوْعٌ من الصَّلاة التي يشترط لها الطَّهارة، وهكذا قوله: « »، وقوله: « »، ونحو ذلك.
وقال في موضع آخر في الجواب عنه: حجَّة ضعيفة؛ فإنَّ غايته أن يشبه بالصَّلاة في بعض الأحْكام، وليس المشبه كالمشبَّه به من كل وجه، وإنَّما أراد أنَّه كالصَّلاة في اجتِناب المحْظورات الَّتي تحرم خارج الصَّلاة، فأمَّا ما يبطل الصَّلاة - وهو الكلام والأكْل والشُّرب والعمل الكثير - فليْس شيءٌ من هذا مبطِلاً للطَّواف، وإن كُرِه فيه إذا لم يكن به حاجة، ولو قطع الطَّواف لصلاةٍ مكْتوبة أو جنازة أُقيمت، بنَى على طوافِه، والصلاة لا تُقْطَع لمثل ذلك، فليْسَت محْظورات الصَّلاة محظورةً فيه، ولا واجبات الصَّلاة واجبات فيه؛ كالتَّحليل والتَّحريم، فكيف يُقال: إنَّه مثل الصَّلاة فيما يجِب لها ويحرُم فيها؟!
فمَن أوْجَب له الطَّهارة الصُّغرى، فلا بدَّ له من دليلٍ شرْعي، وما أعْلم ما يوجب ذلِك، ثمَّ تدبَّرت وتبيَّن لي أنَّ طهارة الحدث لا تُشْتَرط في الطَّواف، ولا تَجب فيه بلا ريب؛ ولكن تُستحبُّ فيه الطَّهارة الصُّغْرى، فإنَّ الأدلَّة الشرعيَّة إنَّما تدلُّ على عدَم وجوبِها فيه، وليس في الشَّريعة ما يدلُّ على وجوب الطَّهارة الصغرى". اهـ، مختصرًا.
وعليْه؛ فمَن أتمَّ عمرتَه، بأن طاف وسعى وتحلَّل بالحَلْق، ثمَّ تذكَّر بأنَّه طاف بغير وضوء - فلا شيْءَ عليْه، إن شاء الله تعالى،،
والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: