هل يجوز أن يتأخر عن صلاة الجماعة؛ ليصلي جماعة مع من يأتي متأخرا؟
هل يجوز لرجل يستطيع حضور صلاة الجماعة أن يتأخر ليصلي جماعة مع من يأتي متأخراً بعد انتهاء الصلاة؛ وذلك حتى لا ينقص أجر المتأخر إن صلى منفرداً؟
الحمد لله تعالى
الذي ينبغي في المقام الأول هو أن يهتم المسلم بعبادته هو لله تعالى وتكميلها، ثم يكون بعد ذلك نظره لما يتعلق بشأن غيره، وليس من المقبول في الشرع، بل ولا في العقل، أن يقصر في عبادته ليكمل عبادة غيره.
قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ. إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر].
فذكر الله تعالى صفات الناجين من الخسران: أنهم أكملوا أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح، ثم سعوا في إكمال غيرهم بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
قال السعدي رحمه الله تعالى في تفسير سورة العصر (ص:934):
" أقسم تعالى بالعصر أن كل إنسان خاسر إلا من اتصف بأربع صفات:
الإيمان بما أمر الله بالإيمان به ..
والعمل الصالح ..
والتواصي بالحق، أي: يوصي بعضهم بعضًا بذلك، ويحثه عليه ، ويرغبه فيه.
والتواصي بالصبر على طاعة الله تعالى، وعن معصية الله تعالى، وعلى أقدار الله تعالى المؤلمة.
فبالأمرين الأولين، يكمل الإنسان نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة يكون الإنسان قد سلم من الخسار، وفاز بالربح العظيم" انتهى.
وقال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى، بعد كلام له:
"وَالْغَرَضُ أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَالَ: « » وَهَذِهِ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِلرُّسُلِ عليهم الصلاة والسلام، وَهُمُ الكُمل فِي أَنْفُسِهِمُ، الْمُكَمِّلُونَ لِغَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّفْعِ الْقَاصِرِ وَالْمُتَعَدِّي، وَهَذَا بِخِلَافِ صِفَةِ الْكُفَّارِ الْجَبَّارِينَ الَّذِينَ لَا يَنْفَعُونَ، وَلَا يَتْرُكُونَ أَحَدًا مِمَّنْ أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَنْتَفِعَ، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النَّحْلِ:88]" انتهى من (تفسير ابن كثير:1/67).
فلم يثبت لهم مقام الخير، والتكميل لغيرهم، إلا بعد سعيهم في تكميل أنفسهم من أبواب الخير، بحسب الطاقة.
وبناء على هذا، فالذي يؤمر به المسلم أولاً: أن يحضر مع الجماعة الأولى في المسجد، لاسيما والجماعة الأولى هي التي وردت الأحاديث بالأمر بها والحث عليها وبيان فضلها.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى:"قول القائل: إنهم إذا صلوا في المسجد، ولو بعد الجماعة الأولى، فإن لهم أجر سبعِ وعشرين درجة: فهذا ليس بصحيح، فأجر سبعٍ وعشرين درجة لا يكون إلا في الجماعة الأولى فقط، أما الثانية: فلا شك أن الصلاة في جماعة أفضل من الصلاة على وجه الانفراد، لكن كون الجماعة الثانية تنال أجر الجماعة الأولى: فهذا ليس بصحيح، وإلا لكان كل الناس يذهبون إلى المسجد متى شاءوا، ويصلون جماعة ويقولون: أخذنا أجر سبع وعشرين درجة، فهذا لا أعلم أحداً قال به، أي: أن الصلاة الثانية كالصلاة الأولى في الحصول على أجر سبع وعشرين درجة؛ فلا أعلم أحداً قال بهذا ".
انتهى من (لقاء الباب المفتوح:44/ 20) بترقيم الشاملة.
وإذا حرص المسلم على أن ينال المتأخر عن الصلاة الأولى ثواب الجماعة، ففي إمكانه أن يعود ويصلي معه مرة أخرى، وبهذا يكون قد أحسن إليه، وتصدق عليه، ولم يضيع على نفسه ثواب الجماعة الأولى وفضلها.
روى أحمد (11016)، وأبو داود (574) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله تعالى عنه: «أَنَّ رَجُلا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَصَلَّى مَعَهُ» وصححه الألباني في (صحيح أبي داود).
فليحذر العبد الناصح لنفسه من استدراج الشيطان له، وصرفه بالأمر المفضول، الذي لم يطالب به، عن العبادة الفاضلة، التي أمره الله تعالى بها ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتزيين الشيطان له ذلك: بأنه أمر خير، ونفع للغير.
والله تعالى أعلى وأعلم.
- التصنيف:
- المصدر: