الكذبُ في الإقرار بالطلاق

منذ 2015-09-30
السؤال:

ما حكمُ إقرار الزوج بأنه طلق زوجته،وهو كاذب في إقراره، فهل يقع الطلاق في هذه الحال؟ 

الإجابة:

أولاً: لا شك أن الكذب من المحرمات، والأصلُ في المسلم أن يكون صادقاً في كل شؤونه، وأن يجعل الصدقَ شعاراً لتعامله مع الناس، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [سورة التوبة الآية 119]. 

والكذبُ ليس من صفات المؤمنين الصادقين، يقول تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [سورة النحل الآية 105].

كما أن الكذبَ خصلةٌ ذميمةٌ، وذنبٌ من أقبح الذنوب، وقد تظاهرت الأدلة على تحريم الكذب بشكلٍ عامٍ، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يُكتب عند الله صدَّيقاً. وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذَّاباً» (رواه البخاري ومسلم).

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعٌ من كنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خصلةٌ من نفاقٍ حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» (رواه البخاري مسلم).

وعن أبي الحوراء السعدي قال: قلت للحسن بن علي رضي الله عنهما ما حفظتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: حفظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدقَ طمأنينةٌ، وإن الكذبَ ريبةٌ» (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح).

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«أربعٌ من كنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خِصلةٌ من نفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» (رواه البخاري مسلم).

 

ثانياً: كثيرٌ من الناس يتلاعبون بالطلاق لأغراضٍ مختلفةٍ، ومن المقرر عند أهل العلم أنه لا يجوز التلاعب بالطلاق، لما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث جِدُّهن جِدٌّ، وهزلهن جِدٌّ،  النكاحُ والطلاق والرجعة» (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم، وهو حديث حسن كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل 6/228.وهو حديثٌ حسنٌ احتج به الأئمة والعلماء كالإمام الترمذي والحافظ ابن عبد البر والحافظ ابن حجر وشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم والإمام النووي والإمام البغوي والشوكاني والألباني وغيرهم كثير). قال الترمذي بعد أن روى الحديث: "هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم" (سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 4/304).

وقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني شواهدَ للحديث يتقوى بها في التلخيص الحبير 3/209-210.وكذلك فعل الشيخ الألباني، حيث ذكر أربعة شواهد للحديث وآثاراً عن الصحابة ثم قال: "والذي يتلخص عندي مما سبق أن الحديث حسنٌ بمجموع طريق أبي هريرة الأولى التي حسنها الترمذي، وطريق الحسن البصري المرسلة، وقد يزداد قوةً بحديث عبادة بن الصامت، والآثار المذكورة عن الصحابة،  فإنها ولو لم يتبين لنا ثبوتها عنهم عن كل واحدٍ منهم، تدل على أن معنى الحديث كان معروفاً عندهم والله أعلم" (إرواء الغليل 6/228).

وقال الخطابي: "اتفق عامة أهل العلم على أن صريح لفظ الطلاق إذا جرى على لسان البالغ العاقل فإنه مؤاخذٌ به ولا ينفعه أن يقول كنتُ لاعباً أو هازلاً أو لم أنو به طلاقاً أو ما أشبه ذلك من الأمور" (عالم السنن 3/210).

وقال الإمام البغوي: "اتفق أهل العلم على أن طلاق الهازل يقع" (شرح السنة 2/220).

وقال القاضي: "اتفق أهل العلم على أن طلاق الهازل يقع، فإذا جرى صريحُ لفظ الطلاق على لسان العاقل البالغ لا ينفعه أن يقول كنت فيه لاعباً أو هازلاً.لأنه لو قبل ذلك منه لتعطلت الأحكام، وقال كل مطلقٍ أو ناكحٍ إني كنت في قولي هازلاً، فيكون في ذلك إبطال أحكام الله تعالى، فمن تكلم بشيءٍ مما جاء ذكره في هذا الحديث، لزمه حكمهُ وخصَّ هذه الثلاث لتأكيد أمر الفرج" (تحفة الأحوذي 4/304).

وورد عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: "كان الرجل في الجاهلية يطلق فيقول كنت لاعباً، ويعتق ثم يراجع ويقول كنت لاعباً، فأنزل الله: {وَلَا تَتَّخِذُوا ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} فقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث جدهن جد…الخ الحديث» إبطالاً لأمر الجاهلية" (رواه ابن أبي شيبة في المصنف، وهو مرسلٌ صحيحُ الإسناد إلى الحسن).

وروى مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب قال: "ثلاثٌ ليس فيهن لعبٌ، النكاح والطلاق والعتق".

وروى الحسن عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "ثلاث لا يلعب بهن النكاح والطلاق والعتاق" (رواه ابن أبي شيبة في المصنف وإسناده صحيح إلى الحسن كما قال الشيخ الألباني).

وعن أبى موسى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوامٍ يلعبون بحدود الله: طلقتك، راجعتك، طلقتك، راجعتك»

وفي رواية: «ما بال أقوامٍ يلعبون بحدود الله تعالى ويستهزؤون بآياته: خلعتك، راجعتك، طلقتك، راجعتك» (رواه ابن ماجة والبيهقي. وقال البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه: هَذَا إِسْنَادٌ حسنٌ. وحسَّنه العلامة الألباني).

وعليه فإن التلاعب بالطلاق بأي شكل من الأشكال ولأي غرضٍ من الأغراض من المحرمات.

 

ثالثاً: اختلف الفقهاء في الإقرار بالطلاق كاذباً، فذهب الحنابلة إلى أنه يقع ديانةً وقضاءً، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: "قال- الخرقي-: ولو قيل له ألك امرأة؟ فقال لا وأراد به الكذب لم يلزمه شيء ولو قال قد طلقتها وأراد به الكذب لزمه الطلاق" (المغني 8/285).

وقال الحنفية والشافعية والمالكية وغيرهم، يقع الطلاق قضاءً ولا يقع ديانةً، أي أنه إذا رُفع الأمر إلى القضاء الشرعي فيوقع القاضي الطلاق بالإقرار به كاذباً، وأما فيما بينه وبين الله عز وجل فإن هذا الطلاق لا يقع ولا يعتبر مطلقاً، قال ابن نجيم الحنفي: "…وقيدنا بالإنشاء لأنه لو أكره على أن يُقرَّ بالطلاق، فأقرَّ لا يقع، كما لو أقرَّ بالطلاق هازلاً أو كاذباً، كذا في -الفتاوى- الخانية من الإكراه، ومراده بعدم الوقوع في المشبه به عدمه ديانةً، لما في فتح القدير: ولو أقرَّ بالطلاق وهو كاذبٌ وقع في القضاء.أ.هـ‏.‏وصرح في-الفتاوى-البزازية: بأن له في الديانة إمساكها، إذا قال أردتُ به الخبرَ عن الماضي كذباً" (البحر الرائق 3/265).

وقال الشيخ ابن عابدين الحنفي: "سُئل في رجلٍ سُئل عن زوجته، فقال إني طلقتها، وعدَّيتُ عنها، والحال أنه لم يطلقها، بل أخبر كاذباً فما الحكم؟ فأجاب: لا يُصَّدقُ قضاءً، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى. وفي الطلاق عن شرح نظم الرهبانية قال: أنت طالقٌ أو أنت حرةٌ، وعنى به الإخبار كذباً، وقع قضاءً إلا إذا أشهد على ذلك. وفي البحر-الرائق-: الإقرار بالطلاق كذباً، يقع قضاءً لا ديانةً. وبمثله أفتى الشيخ إسماعيل والعلامة الخير الرملي" (العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية 1/36). 

ونقل الشيخ ابن عابدين أيضاً عن الفتاوى الخانية وعن الفتاوى البزازية وعن القنية من كتب الحنفية أن المقرَّ لو أراد بإقراره بالطلاق الإخبار عن الماضي كذباً، لا يقع الطلاق ديانةً. انظر حاشية ابن عابدين 3/238.

وقال الشيخ عليش المالكي: "وعبارة المجموع: وإن أقرَّ بمحلوف عليه، ثم رجع صدق في الفتوى، ومنه رجوعه عن الإقرار بالطلاق، أو الحلف" (فتح العلي المالك 3/2949).

وقال الشيخ زكريا الأنصاري الشافعي: "وإن أقرَّ بالطلاق كاذباً، لم تطلق زوجته باطناً، وإنما تطلق ظاهراً" (أسنى المطالب شرح روض الطالب 3/276).

وقال ابن حجر الهيتمي المكي: "ولو قيل له استخباراً أطلقتها، أي زوجتك، فقال نعم…فإن كذب فهي زوجته باطناً" (تحفة المحتاج وشرح المنهاج 8/134).

وقال بدر الدين الزركشي الشافعي: "المختار إذا أقرَّ بالطلاق كاذباً لم تطلق باطناً" (المنثور في القواعد الفقهية 1/133).

وهذا القول هو أرجح أقوال أهل العلم بأنّ الطلاق يقع قضاءً ولا يقع ديانةً، إن كان الزوج كاذباً في الإخبار عن الطلاق.

"والظاهر هو مذهب الشافعية والأحناف، لأن الإقرار لا يقوم مقام الإنشاء، والإقرارُ إخبارٌ محتملٌ للصدق والكذب، يؤاخذ عليه صاحبه ظاهراً، أما ما بينه وبين الله، فالمخبر عنه كذباً لا يصير بالإخبار عنه صدقاً، فلهذا لا يقع طلاقه باطناً.وهذا الأخير هو الراجح، وعليه فزوجتك الأولى لا تزال زوجةً ما لم ترفع هي الأمر إلى القضاء، وتأتي بشاهدين يشهدان عليك بما قلت". أنظر فتاوى اسلام ويب.

 

رابعاً: أخذ قانون الأحوال الشخصية المعمول في بلادنا بما قرره جمهور الفقهاء، من أن الإقرار بالطلاق كذباً يقع قضاءً،  فقد ورد في المادة “91”: "إذا طلق الزوجُ زوجته لدى القاضي طائعاً مختاراً وهو في حالة معتبرة شرعاً أو أقر بالطلاق وهو بتلك الحالة، فلا تسمع منه الدعوى بخلاف ذلك".

وبناءً على ذلك إذا رفعت الزوجة قضيةً أمام القضاء الشرعي، بأن زوجها أقرَّ بطلاقها، وثبت ذلك للقاضي، فإن القاضي سيحكم بوقوع الطلاق، حتى لو كان الزوج كاذباً في إقراره، ولا تُسمع منه الدعوى بخلاف ذلك.

 

وخلاصة الأمر:

أن الكذب من المحرمات، والأصل في المسلم أن يكون صادقاً في كل شؤونه، وأن يجعل الصدقَ شعاراً لتعامله مع الناس.

وأن التلاعب بالطلاق بأي شكلٍ من الأشكال، ولأي غرضٍ من الأغراض من المحرمات.

وأن الفقهاء قد اختلفوا في الإقرار بالطلاق كاذباً، فذهب الحنابلة إلى أنه يقع ديانةً وقضاءً، وذهب الحنفية والشافعية والمالكية إلى أنه يقع الطلاق قضاءً ولا يقع ديانةً، أي أنه إذا رُفع الأمر إلى القضاء الشرعي فيوقع القاضي الطلاق بالإقرار به كاذباً، وأما فيما بينه وبين الله عز وجل فإن هذا الطلاق لا يقع ولا يعتبر مطلقاً، وأن هذا القول هو أرجح أقوال أهل العلم في المسألة، وبه أخذ قانون الأحوال الشخصية المعمول في بلادنا كما في المادة “91”.

والله الهادي إلى سواء السبيل. 

حسام الدين عفانه

دكتوراه فقه وأصول بتقدير جيد جداً، من كلية الشريعة جامعة أم القرى بالسعودية سنة 1985م.

  • 6
  • 4
  • 153,447

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً