ترك الصلاة لشدة المرض ولمن عجز عن الإيماء، وتخصيص صلاة للدعاء للميت

منذ 2015-09-12
السؤال:

السلام عليْكم ورحْمة الله وبركاته،

بداية أستحلِفُكم بالله سعةَ الصَّدْر وحسْن التَّدبُّر والإفادة بالأدلة.

توفّي والدي - رحمه الله - ثاني أيَّام العيد 28 /11 /2009 بعد أن شهِد الذَّبح - ولله الحمد - عن سنّ 69 عامًا، وقد أصيب بجلطة بالمخّ منذُ عشرين عامًا منعتْه من الكلام؛ إلاَّ قليلا جدًّا من الكلام، وأشهد الله أني كنت أراه مُحافظًا على الصَّلاة، حتَّى إنَّه أصرَّ على بناء مسجد بالعمارة التي بناها، كان دائمًا يصلّي به.

ومنذ ما يقرب من ثلاثِ سنوات أو يَزيد أُصيب بِجلطة شديدة بالقلْب، ظلَّ في تدهْور مستمرّ خلال هذه الفترة حتَّى في النَّوم والجلوس، لكن في بداية هذه الجلطة كان إذا أوتي ذرَّة من القوَّة والقُدْرة كان يصلّي بالمسجد، إلاَّ أنَّه في أوْقات كثيرةٍ كان لا يقدر، وكنت أنا وإخوتي في غفلة عن توجيهه أن يصلي حتَّى بعينيه من كثْرة ما نراه من تعب في صحَّته، فهل هناك ما نستطيعُه لتكْفير هذه الصلوات عنْه؟

هذا أوَّلاً.

ثانيًا: نويت أن أصلي ركعتَين يوميًّا بعد صلاة العشاء، بنيَّة التضرُّع إلى الله - عزَّ وجلَّ - أن يغفِر لأبي ويرْفع درجاتِه في الجنَّة، ولوالد زوجتي ولِلمسلمين جميعًا، كما نويت أن أستمرَّ على ذلك طيلةَ حياتي، فهل في ذلك من شيء؟

ثالثًا: كنتُ أقوم بعددٍ من التَّسابيح كلَّ ليلة قبل النَّوم، ولكنّي كنتُ غير منتظِم على ذلك، فعقدتُ العزْم على المواظبةِ على التَّسبيح قبل النَّوم، ونويت بأمْر الله أن أفعل ذلك بنيَّة هبتِه لوالدي، فهل عليَّ أن أعيده مرَّة أخرى لي؟ أم أنَّ هذه المرَّة التي وهبتُها لوالدي تُحْسَب لي أيضًا؟

رابعًا: هل حرامٌ أن وضعتُ صورةً لوالدي في برْواز وعلَّقْتُها على الحائط، أو وضعتُها على مكتبي؛ لأني أحبُّه، وليس للتودّد إلى الصّورة أو ما إلى ذلك من المحرَّمات؟

الله يرزُقُكم خيرَ الدنيا والآخرة لما تقدمونه إلى أمَّة محمَّد - صلى الله عليه وسلم.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فنسأل الله العظيم ربَّ العرْش الكريم: أن يَرحَم أباك وأمواتَ المسلمين.

ونذكِّرك بفضْل الصبر على المقدور، وأنَّ كلَّ ما قدَّره الله خير، وأنَّ الله تعالى يُخلف على المسلم ويعوِّضه بصبرِه خيرًا؛ فقد روى البخاري ومسلم عن أُسامة بن زيد - رضِي الله عنْهما - قال: أرسلتِ ابنةُ النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إليْه: إنَّ ابنًا لي قُبِض فأْتِنا، فأرسل يُقْرئ السَّلام ويَقول:
«إنَّ لله ما أخذَ وله ما أعطى، وكلّ شيء عنده بأجَل مسمّى، فلتصْبِر ولتحتسِبْ».

وعن أم سلمة - رضِي الله عنْها - قالت: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يقول:
«ما من عبدٍ تُصيبُه مصيبةٌ، فيقول: "إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهُمَّ أجرني في مصيبتِي وأخلف لي خيرًا منها"، إلاَّ آجره الله تعالى في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها»، قالتْ: فلمَّا مات أبو سلمة قلت: أيّ المسلمين خير من أبي سلمة، أوَّل بيت هاجر إلى رسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم؟! ثمَّ إنّي قلتُها فأخلف الله لي خيرًا منْه؛ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؛ رواه مسلم.

وفي
صحيح البخاري: عن أبِي هُريرة أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «يقول الله تعالى: ما لعبدي جزاء إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا ثمَّ احتسبَه إلاَّ الجنَّة».

أمَّا الصلوات التي فاتت والدَكم بسبب اشتِداد المرض عليه، فلا كفَّارة فيها غير الدُّعاء، وكثْرة الاستِغْفار له، والتصدُّق عنْه، وراجِع "
قضاء الصلاة الفائتة عن المريض".

والظَّاهر أنَّ الوالِد قد ترك تلك الصَّلوات ظناً منْه أنَّ الصَّلاة تسقُط عند العجز عن الإيماء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "
مجموع الفتاوى": "ومعلوم أنَّ الصَّلاة أفضل العبادات؛ كما في الصَّحيحين: عن ابنِ مسعود أنَّه قال: قلتُ للنَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيّ العمَل أحبّ إلى الله؟ قال: «الصَّلاة على وقتِها» قلتُ: ثمَّ أي؟ قال: «برّ الوالديْن» قلتُ: ثمَّ أي؟ قال: «الجِهاد»، قال: حدَّثني بهنَّ رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ولو استزدتُه لزادني.

ولهذا كانت الصَّلاة كالإيمان، لا تدخلها النّيابة بحال، فلا يصلِّي أحدٌ عن أحدٍ الفرضَ، لا لعذر ولا لغير عذْر، كما لا يؤْمِن أحدٌ عنْه، ولا تسقُط بحالٍ كما لا يسقط الإيمان؛ بل عليْه الصَّلاة ما دام عقله حاضرًا وهو متمكّن من فعل بعض أفعالها، فإذا عجَزَ عن جَميع الأفعال ولم يقْدر على الأقْوال، فهل يصلِّي بتحْريك طرفِه ويستحضر الأفعال بقلبِه؟ فيه قولان للعلماء، وإن كان الأظْهر أنَّ هذا غير مشروع".

وقال: "والمريض إذا عجَز عن إيمائه، أتَى منه بقدر الممكن، وهو الإيماء برأسه، وهو سجود مثله، ولو عجز عن الإيماء برأسِه، ففيه قولان، هما روايتان عن أحمد، أحدهما: أنَّه يومئ بطرفِه، فجعلوا إيماءَه بطرفِه هو ركوعه وسجوده، فلم يسقطوه، والثَّاني: أنَّه تسقط الصَّلاة في هذه الحال، ولا تصحّ على هذا الوجْه، وهو قول أبي حنيفة، وهذا القول أصحّ في الدليل؛ لأنَّ الإيماء بالعين ليس من أعمال الصَّلاة، ولا يتميَّز فيه الركوع عن السجود، ولا القيام عن القعود؛ بل هو من نوْع العبَث الَّذي لم يشرعْه الله تعالى، وأمَّا الإيماء بالرَّأس فهو خفضُه، وهذا بعض ما أُمر به المصلّي، وقد قال النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث المتَّفق على صحَّته:
«إذا أمرتُكم بأمرٍ فائتُوا منه ما استطعتم»، وهو لا يستطيع من السّجود إلاَّ هذا الإيماء، وأمَّا تحْريك العَين، فليس من السّجود في شيء، وعلى القولَين فقد اتَّفقوا على أنَّه لا بدَّ في الصَّلاة من السّجود، وهذا يقول: الإيماء بطرفه هو سجود، وهذا يقول: ليس بسجود، فلا يصلي".

أمَّا بالنسبة لصلاة ركْعتَي تطوّع كلَّ يوم بنيَّة الدّعاء لوالدِك وللمسلمين فيهما، فالدوام عليه والتزامه غير مشروع؛ لأنه تخصيص عبادة في وقت والتزامه، وهذا لا دليل عليه، لكن يمكنك الدعاء له في قيام الليل والسنن الرواتب، وصلاة الضحى وغيرها من مواضع الدعاء؛ لأنَّ الدّعاء للوالِد المتوفَّى من البرّ، والدّعاء لعامَّة المسلمين مندوبٌ، وهو من فضائل الإيمان أنَّ المؤمنين ينتفِع بعضُهم ببعض، ويدْعو بعضهم لبعْض، ويحبّ بعضُهم بعضًا؛ قال تعالى: {
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ} [الحشر: 10].

وكوْن هذا الدعاء في السجود أفضل، كما روى مسلمٌ عن أبي هريرة - رضِي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
«أقربُ ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجد، فأكثِروا الدّعاء».

أمَّا بالنسبة إلى الالتِزام بأذْكار معيَّنة يوميًّا، وبعدد محدَّد، وإهداء ثوابِها لوالدك، فاعلم أنَّ الرَّاجِح من أقوال أهل العِلم: أنَّه لا يصِل للميّت ثوابُ شيء من ذلك غير الدّعاء، والصَّدقة عنه أفضل ما يقومُ به الحيّ للميّت، وأيضًا فقد وردت الأدلَّة بوصول ثواب العمْرة والحجّ عنْه.

ولمزيد فائدة يُرجى مراجعة الفتوى: "هلِ قراءة القُرآن تصل للمُتَوفَّى؟".

وننبّه الأخ السَّائل إلى أنَّه: لا يجوز الالتِزام بذِكْر معيَّن وبعدد معيَّن؛ إلاَّ ما ورد تحديده في السنَّة، أمَّا ما جاء مطلقًا ولم يقيّد بعدد معيَّن، فلك أن تأتيَ به، لكن ينبغي ألاّ تلتزم عددًا معيَّنًا دائمًا؛ لما في ذلك من مضاهاة التَّشريع، وإحداث صفةٍ في العبادة لم ترِد.

أمَّا وضْع صورة والدك في برْواز، وتعْليقها على الحائط، أو وضْعها على مكتبك - فلا يجوز، وقد ذكرنا هذا الحُكْم في فتوى: "
هل يجوز الاحتفاظ بصورٍ للأطفال"، فلتراجع.

وراجع للفائدة الفتوى: "
بر الأب بعد وفاته"،،

والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 7
  • 4
  • 40,048

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً