الحزن والهم والكئابة يحاصرونني

منذ 2016-07-24
السؤال:

يا شيخ، أنا قرَّرْت الالتزام، لكن أهلي كانوا معارضين فكرة الالتزام، وبعد بكاء مرير، وافقوا على لبس عباءة رأس ونقاب، لكن - دائمًا وأبدًا - يقولون لي: "لماذا مغمغمة على نفسك، دفنتِ نفسك، وأنت صغيرة، ما أحد راح يأخذك".

هذا الكلام أتحمله يا شيخ، لكن أحس أن الكل يطالعني بنظرات استحقار، أحس الكل يضطهدني، لا أحد يحب يخرج معي، لمَّا إخْوَتي ونساءهم يخرجون لا يطلبون أن أخرج معهم! لا تتصور مدى جرحي لذلك، ولمَّا يأتي إخوتي بيتنا ما يتكلمون معي، يتكلم بعضهم مع بعض، ومع حريم إخوتي، وأنا إذا تكلمت الكل يتجاهلني! حتى عيالهم لمَّا ألبس يصرخون ويقولون: ابعدي! أقهر من داخلي جدًّا.

والآن صرت انطوائية، والكل ما يحبني! إذا رحت عند خالي، بنات خالي لسن متحجبات أصلًا !!! ولما اطلع يشوفوني بالعباءة والنقاب، الكل يحتقرني، ويدي ترجف وأنا ألبس.

هل يجوز أخلع النقاب وألبس عباءة كتف واسعة وحجاب أسود؟ لأن حياتي - الآن – حقيرة، كريهة، ما أحد يحبني؛ من لبسي ونصائحي!

أرجوكم أريد الفتوى والحل.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإنَّ من سنن الله - تعالى - في خلقِه ابتلاء عباده المؤمنين، وامتحان صبرِهم وعبوديَّتهم؛ قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}  [العنكبوت: 1 - 3]، فالدُّنيا للمؤمن ليستْ نِهاية المطاف، وإنَّما هي دارٌ لتحْصيل الأجْر الجزيل لِمَن صبر فيها؛ قال الله – تعالى -: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

وقد ربَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم- الصَّحابةَ الكِرام - ومن اليوم الأوَّل في الدَّعوة - على أنَّ الطَّريقَ شاقٌّ؛ ولكنَّ نهايتَه الرَّاحة الأبديَّة، فالعاقل من يتحمَّل ألَمَ ساعة لراحة سرمديَّة.

وما تذكُرُه السَّائِلة الكريمة صعبٌ شاقٌّ على النَّفس بلا شكّ، ولكن مَن يصبر يعوِّضه الله خيرًا؛ قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، وقال – سبحانه -: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 1، 2]، وقال سبحانَه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]، وأعظم الجهادِ جهادُ النَّفس، وأعظمُ الصَّبر الصبر على الفِتْنة والباطل وأهلِه، وعلى فقْدِ النَّصير الَّذي يسانده ويدفع عنْه.

قال الأستاذ سيد قطب في "الظلال": "إنَّ الإيمان أمانةُ الله في الأرض، لا يحملُها إلاَّ مَن هُم لها أهل، وفيهم على حملِها قدرة، وفي قلوبهم تجرُّد لها وإخلاص، وإلاَّ الَّذين يؤْثرونَها على الرَّاحة والدَّعة، وعلى الأمْن والسَّلامة، وعلى المتاع والإغْراء، وإنَّها لأمانة الخلافة في الأرْض، وقيادة النَّاس إلى طريق الله، وتَحقيق كلِمته في عالم الحياة، فهِي أمانة كريمة، وهي أمانة ثقيلة، وهي من أمْر الله يضطلِع بها النَّاس؛ ومن ثَمَّ تَحتاج إلى طراز خاصٍّ يَصبر على الابتلاء، فهُناك فتن كثيرة في صُوَر شتَّى: هُناك فتنة الأهل والأحبَّاء، وهُنالك فتنة الغرْبة في البيئة والاستِيحاش بالعقيدة، حين ينظُر المؤمِن فيرى كلَّ ما حوْلَه وكلَّ مَن حولَه غارقًا في تيَّار الضَّلالة، وهو وحْده موحشٌ غريب طريد.

وهُنالك الفتنة الكبرى، أكبر من هذا كلِّه وأعنف: فتنة النَّفس والشَّهوة، وجاذبيَّة الأرض، وثقلة اللَّحم والدَّم، والرَّغبة في المتاع والسُّلْطان، أو في الدَّعة والاطمِئْنان، وصعوبة الاستِقامة على صِراط الإيمان والاستِواء على مُرْتَقاه، مع المعوِّقات والمثبِّطات في أعْماق النَّفس، وفي ملابسات الحياة، وفي منطق البيئة، وفي تصوُّرات أهل الزَّمان.

فإذا طال الأمد، وأبطأ نصرُ الله، كانت الفِتْنة أشدَّ وأقْسى، وكان الابتِلاء أشدَّ وأعنف، ولَم يثبُت إلاَّ مَن عصم الله، وهؤلاء همُ الَّذين يحقِّقون في أنفُسِهم حقيقة الإيمان، ويؤْتَمنون على تلك الأمانة الكبرى: أمانة السَّماء في الأرض، وأمانة الله في ضَمير الإنسان.

وما بالله - حاشا لله - أن يعذِّب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذِيَهم بالفتنة، ولكنَّه الإعداد الحقيقي لتحمُّل الأمانة، فهي في حاجة إلى إعدادٍ خاصٍّ لا يتمُّ إلاَّ بالمعاناة العمليَّة للمشاقّ، وإلاَّ بالاستِعلاء الحقيقي على الشَّهوات، وإلاَّ بالصَّبر الحقيقي على الآلام، وإلاَّ بالثِّقة الحقيقيَّة في نصْر الله أو في ثوابه، على الرَّغْم من طول الفتنة وشدَّة الابتلاء.

والنَّفس تصْهرُها الشَّدائد، فتنفي عنها الخبث، وتستجيش كامن قواها المذْخورة، فتستيْقِظ وتتجمَّع، وتطْرقها بعنف وشدَّة، فيشتدّ عودُها ويصلب ويصقل، وكذلك تفعل الشَّدائد بالجماعات، فلا يبقى صامِدًا إلاَّ أصْلبها عودًا وأقْواها طبيعة، وأشدُّها اتصالاً بالله وثقة فيما عنده من الحسنَييْن: النصر أو الأجر، وهؤلاء هم الذين يسلَّمون الراية في النهاية، مؤتَمنين عليها بعد الاستِعْداد والاختبار، وما يشكُّ مؤمنٌ في وعد الله، فإن أبطَأَ فلِحِكْمة مقدَّرة، فيها الخير للإيمان وأهله، وليس أحدٌ بأغْيَرَ على الحقِّ وأهله من الله، وحسْب المؤمنين الَّذين تُصيبهم الفتنة، ويقع عليهم البلاء، أن يكونوا هم المخْتارين من الله، ليكونوا أُمَناء على حقِّ الله، وأن يشْهد الله لهم بأنَّ في دينهم صلابةً، فهو يختارهم للابتلاء". اهـ. موضع الشَّاهد منه.

 فاستعيني بالله ولا تعجزي، واثبتي على ما أنت عليه من الخير الحق والصدق والبِرِّ والعفاف والطهارة، طاعةً لله، ولو كره الأهل والأقارب ولتصبر ولتحتسب الأجر عند الله، وفى سبيل مرضاته فالناس جميعًا لن يُغنوا عنكِ من الله شيئًا؛ ففي حديث عائشة أم المؤمنين - رضي اللّه عنها - الذي بَعَثتْ به إلى معاوية - رضي اللّه عنه -: "مَن أرضى اللّهَ بِسَخَطِ الناسِ، كفاه الله الناس، ومن أسخط الله برضى الناس، وَكَلَه الله إلى الناس"؛ رواه عبد بن حميد في "المنتخب من المسند".

فاختبار الله لعباده المؤمنين أصلٌ ثابت، وسنَّة جارية لله – سبحانه - في خلقه، ومنها فتنة الأهل وهي شاقة عسيرة على النفس، والله المستعان وعليه التكلان، فليَقَرَّ قلبُكِ وليطمئن ففي الصحيح: «أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ، ثم الصالحون، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبْتَلى الرجلُ على حَسَبِ دِينه، فإن كان في دينه صلابةٌ، زِيدَ له في البلاء».

وقال - صلى الله عليه و سلم -: «مَنْ يُرِدِ اللهُ به خيرًا، يُصِبْ مِنْهُ»؛ أي: يَبْتَلِيهِ بالمصائب؛ رواه البخاري، عن أبي هريرة.

وقال - صلى الله عليه و سلم -: «إن البلايا أسرع إلى من يحبني، من السيل إلى منتهاه»؛ رواه ابن حبان؛ وصححه الألباني.

ولْتعلمي أن من وراء ابتلائك حكمةً عليا ذكرها الله في مواضع من كتابه العزيز، فإذا ما قرأتِ القرآن بتدبر، تكَشَّفتْ لك الحكمة، واطمأننت.

عليك بالصبر والاستعلاء بالإيمان، والحذر من الانهزام النفسي، أو العقدي، مع انتظار الفرج القريب؛ كما قال - تعالى -:  {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].

كما نوصيك باتخاذ صواحب صالحات تستأنسين بهن, وترفعين وحشة الغربة بصحبتهن, ثم لعل الله يرزقك زوجاً صالحاً يعينك على الاستقامة،،

والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 2
  • 0
  • 5,134

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً