ذنبي يؤرقني
ذهبت والندم يمزق أحشائي على فعلتي الدنيئة وتصرفي المشين وضميري يؤنبني والوزر يثقل كاهلي، لأنني لم أدري كيف أقدمت على هذا الفعل الخبيث حين امتدت يدي إلى قفة السيدة واختلاس محفظة نقودها، وكم تمنيت أنني لو لم أسافر ذاك اليوم ولم أجلس بجوار تلك السيدة البريئة...
السلام عليكم،
في لحظة من فترات شبابي كنت ممتطيًا سيارة أجرة وكانت سيدة من الركاب تجلس بجانبي، وفي غفلة منها سرقت محفظة نقود كانت في قفتها، ولما نزلنا وابتعدت عن سيارة الأجرة ببضع خطوات سمعت السائق يناديني، وأثناء رجوعي إليه أدخلت يدي إلى جيبي خلسة وأخرجت المحفظة التي سرقت، وألقيت بها بنقودها على الأرض وسط الزحام، خوفًا أن يكتشف سري، ولحسن حظي لم ينتبه إليها أحد من المارة علمًا أن المحطة كانت غاصة بالمسافرين، ولما وقفت أمام سائق سيارة الأجرة سألني كما سأل باقي الركاب عن محفظة السيدة فأنكرت رؤيتها، بعد ذلك ذهبت إلى حال سبيلي، ولم أجد المحفظة في الطريق لأنها حتمًا التقطت من طرف أحد المسافرين، وكان بودي أن أرد لها المحفظة وأعتذر بأي سبب، بدل ما أحمله من هم دام 20 سنة.
نعم.. ذهبت والندم يمزق أحشائي على فعلتي الدنيئة وتصرفي المشين وضميري يؤنبني والوزر يثقل كاهلي، لأنني لم أدري كيف أقدمت على هذا الفعل الخبيث حين امتدت يدي إلى قفة السيدة واختلاس محفظة نقودها، وكم تمنيت أنني لو لم أسافر ذاك اليوم ولم أجلس بجوار تلك السيدة البريئة التي كانت تحمل قفتها ناوية إقتناء حاجيات لها أو لأسرتها، الله الواحد الذي يعلم. وكم تمنيت لو عرفت السيدة... وكم تمنيت لو عرفت عنوانها... وكم تمنيت أن أجد من يرشدني لأجدها وأرد إليها ما انتشلت منها كيفما تريد وأطلب منها المسامحة، لكن يبدو أن الأمر أصبح مستحيلا بعد مرور 20 عامًا.
نسيت أن أذكر أن المحفظة كنت قد فتحتها في السابق ووجدت بها ورقة نقدية واحدة من فئة 200 درهم.
أرجوكم هدؤوا روعتي وأرشدوني - هل هناك حل أطفئ به النار الملتهبة بفؤادي، أم لا أمل عندي لكي أكفر عن ذنبي الذي لازمني منذ مدة طويلة؟ وأسأل هل لي أمل في أن يغفر الله ذنبي؟
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فراحة البال وهدوء النفس َلَا تتحصل إلا بالرضا بالقضاء والقدر، والصبر على المقدور، والعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ فلا يتحسر ولا يتلهف ولا يحزن، ويقول لَو أَنِّي فعلت كَذَا وَكَذَا؛ لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، فَإِن لَو تفتح عمل الشَّيْطَان، وهي مفتاح اللوم والجزع والسخط، والأسف والحزن، وذلك كله من عمل الشيطان؛ كما في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي، خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»، فالنظر إلى القدر عند المصائب، والاستغفار عند المعائب؛ والبعد عن الـ(لو)، الجالبة للحزن والجزع، وكل هذا يضر ولا ينفع؛ لأن ما أصابك ما كان ليخطئك، وما أخطأك، لم يكن ليصيبك.
ولن يستطيع المسلم تحقيق ذلك إلا بيقينه بمضاء حكم الله فيه، وأن كل قضائه في عبده عدل؛ فكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، كما قيل: أطعتك بفضلك، والمنة لك، وعصيتك بعدلك، والحجة لك، وهذا هو معنى قول النبي «ماض في حكمك عدل في قضاؤك»، فقضاؤه هو أمره الكوني، فهو المالك القاهر المتصرف في عباده، ونواصيهم بيده، وهو العدل، وعلى صراط مستقيم: في قوله وفعله وقضائه وقدره وأمره ونهيه وثوابه وعقابه، فجميع أقضيته في عبده من كل الوجوه، من صحة وسقم وغنى وفقر، ولذة وألم وحياة وموت، وعقوبة وتجاوز وغير ذلك، كل ما يقضى على العبد فهو عدل فيه.
والمقصود أن الله تعالى قدر عليك تلك المعصية، وخلى بينك وبين الذنب؛ لحكم تعجز العقول عن الاحاطة بها، فإنه الغفار التواب العفو الحليم، وهذه أسماء تطلب آثارها وموجباتها، ولا بد؛ «لو لم تذنبوا؛ لذهب الله بكم، لجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم»؛ رواه مسلم، وقد ذكر الإمام ابن القيم "مفتاح دار السعادة" أكثر من أربعين حكمة التخلية بين العبد وبين الذنب.
وقال في -"الفوائد"(ص: 93)-:
"... والمقصود قوله: «عدل فيّ قضاؤك»، وهذا يتناول كل قضاء يقضيه على عبده، من عقوبة أو ألم وسبب ذلك، فهو الذي قضى بالسبب وقضى بالمسبب، وهو عدل في هذا القضاء، وهذا القضاء خير للمؤمن؛ كما قال: «والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن»، فسألت شيخنا هل يدخل في ذلك قضاء الذنب، فقال: نعم؛ بشرطه!
فأجمل في لفظة بشرطه! ما يترتب على الذنب من الآثار المحبوبة لله، من التوبة والانكسار والندم، والخضوع والذل والبكاء، وغير ذلك".
وقال في -"زاد المعاد"(4/ 189)- في معرض كلامه على قول النبي «ماض في حكمك عدل في قضاؤك»:
"متضمن لأصلين عظيمين عليهما مدار التوحيد:
أحدهما: إثبات القدر، وأن أحكام الرب تعالى نافذة في عبده ماضية فيه، لا انفكاك له عنها، ولا حيلة له في دفعها.
والثاني: أنه - سبحانه - عدل في هذه الأحكام غير ظالم لعبده، بل لا يخرج فيها عن موجب العدل والإحسان، فإن الظلم سببه حاجة الظالم، أو جهله، أو سفهه، فيستحيل صدوره ممن هو بكل شيء عليم، ومن هو غني عن كل شيء، وكل شيء فقير إليه، ومن هو أحكم الحاكمين، فلا تخرج ذرة من مقدوراته عن حكمته، وحمده، كما لم تخرج عن قدرته ومشيئته، فحكمته نافذة حيث نفذت مشيئته وقدرته".
إذا تقرر هذا فراحة البال الأخ السائل إنما تتحقق بالإيمان بقضاء الله وقدره، والاحتجاج بالقدر على الذنب، فهو جائز بعد وقوعه والتوبة والندم وعدم العود.
وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن القيم في –"شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل"(ص: 18)-:
"الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه وترك معاودته؛ كما فعل آدم فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها، ما ينتفع به الذاكر والسامع؛ لأنه لا يدفع بالقدر أمرًا ولا نهيًا، ولا يبطل به شريعة، بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد، والبراءة من الحول والقوة؛، يوضحه أن آدم قال لموسى أتلومني على أن عملت عملا كان مكتوبا علي قبل أن أخلق، فإذا أذنب الرجل ذنبًا، ثم تاب منه توبة وزال أمره حتى كأن لم يكن؛ فأنبه مؤنب عليه ولامه، حسن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك، ويقول هذا أمر كان قد قدر عليّ قبل أن أخلق، فإنه لم يدفع بالقدر حقًا، ولا ذكره حجة له على باطل، ولا محذور في الاحتجاج به، وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل، بأن يرتكب فعلاً محرمًا، أو يترك واجبًا، فيلومه عليه لائم، فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره؛ فيُبطِل بالاحتجاج به حقًا، ويرتكب باطلاً؛ كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله فقالوا: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]".
هذا؛ والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: