مالفرق بين الحب والتعلق بغير بالله
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فإن محبة الله هي التي خُلِق العباد من أجلها، وبها غاية سعادتهم، وكمال نعيمهم، ويكون كمال الحب مصاحبا لكمال الخضوع والذل.
ومحبة الله تعالى تنفرد عن محبة غيره في قدرها وصفتها، فإنّ الواجب له من ذلك أن يكون أحبَّ إلى العبد من ولده ووالده، ومن سمعه وبصره ونفسه التي بين جنبيه، فليس شيء يُحَبّ لذاته من كلّ وجه إلا الله وحده، ولا تصلح الألوهية إلا له.
أما محبة البشر من ذكر أو أنثى، فهي المحبة الطبيعية، فيُحَبّ من وجه دون وجه، أو يُحَبّ لغيره، وللمشاكلة أو المناسبة، وهي ميل الإنسان إلى ما يلائمه، مثل محبة الزوجة والولد، وهذه لا تذم إلا إذا صرفت عن ذكر الله؛ ومن تأمل سنة النبي صلى الله عليه وسلم علم أن هذا الحب مباح؛ ففي سنن الترمذي عن أنس قال قيل يا رسول الله من أحب الناس إليك؟ قال عائشة، قيل من الرجال؟ قال أبوها.
وفي الصحيح عن عائشة، قالت: ما غرت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، إلا على خديجة، وإني لم أدركها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة، فيقول: "أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة"، قالت: فأغضبته يومًا، فقلت: خديجة! فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني قد رزقت حبها".
وروى البخاري عن ابن عمر قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم أسامة، فقالوا فيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد بلغني أنكم قلتم في أسامة وإنه أحب الناس إليّ"
وفي الصحيحين عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "اللهم أنتم من أحب الناس إلي، اللهم أنتم من أحب الناس إليّ، يعني الأنصار".
والأحاديث بهذا المعنى كثيرة.
أما الحب المحظور فهو من يسوي في الحب، والتأله، والخضوع والتذلل، بين من يحب وبين الله! وهذا غاية الجهل والظلم، وهو أصل الشرك بالله، ولا يقع العبد في هذا إلا إذا خلا قلبه من عبادة الله تعالى، التي هي كمال الحب والتعظيم مع كمال الخضوع والذل، فمن أحب مخلوقًا كما يحب الله، فقد أشرك؛ قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يَحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} [البقرة: 165].
وقال تعالى: {الحمدُ لِلّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمواتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].
أي: يجعلون له عَدْلا في العبادة والمحبة والتعظيم، كما في قوله تعالى: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97، 98].
وهم لم يسووا بين الله وبين آلهتهم في الذات ولا في الصفات والأفعال، وإنما في الحب والطاعة.
فإذا ذاق القلب حلاوة الإيمان أغناه عن محبة الأنداد وتأليهها. وإذا خلا القلب من ذلك احتاج إلى أن يستبدل به ما يهواه، ويتخذه إلهه.
وقد حرر الإمام ابن القيم صفة الحب الشركي فقال في كتابه "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" (2/ 151-152):
"... وأصل الغي من الحب لغير الله، فإنه يضعف الإخلاص به، ويقوى الشرك بقوته، فأصحاب العشق الشيطاني لهم من تولى الشيطان والإشراك به بقدر ذلك، لما فيهم من الإشراك بالله، ولما فاتهم من الإخلاص له، ففيهم نصيب من اتخاذ الأنداد، ولهذا ترى كثيرًا منهم عبدًا لذلك المعشوق، متيما فيه، يصرخ في حضوره ومغيبه: أنه عبده، فهو أعظم ذكرًا له من ربه، وحبه في قلبه أعظم من حب الله فيه، وكفى به شاهدًا بذلك على نفسه: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه} [القيامة: 14- 15] .
فلو خير بين رضاه ورضا الله، لاختار رضا معشوقه على رضا ربه، ولقاءُ معشوقه أحب إليه من لقاء ربه، وتمنيه لقربه أعظم من تمنيه لقرب ربه، وهربه من سخطه عليه أشد من هربه من سخط ربه عليه، يُسخط ربه بمرضاة معشوقه، ويقدم مصالح معشوقة وحوائجه على طاعة ربه، فإن فضل من وقته، وكان عنده قليل من الإيمان، صرف تلك الفضلة في طاعة ربه، وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه ومصالحه صرف زمانه كله فيها، وأهمل أمر الله تعالى، يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس، ويجعل لربه من ماله - إن جعل له - كل رذيلة وخسيس، فلمعشوقه لبه وقلبه، وهمه ووقته، وخالص ماله، وربه على الفضلة، قد اتخذه وراءه ظهريًا، وصار لذكره نسيًا، إن قام في خدمته في الصلاة فلسانه يناجيه وقلبه يناجى معشوقه، ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق.
ينفر من خدمة ربه حتى كأنه واقف في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه، وتكلفه لفعلها، فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه فرحًا بها، ناصحًا له فيها، خفيفة على قلبه لا يستثقلها ولا يستطيلها.
ولا ريب أن هؤلاء من الذين اتخذوا من دون الله أندادا، يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبا لله.....
وأصل ذلك كله من خلو القلب من محبة الله تعالى، والإخلاص له، والتشريك بينه وبين غيره في المحبة، ومن محبة ما يحب لغير الله، فيقوم ذلك بالقلب، ويعمل بموجبه بالجوارح، وهذا هو حقيقة اتباع الهوى. وفى الأثر. "مَا تحْتَ أدِيمِ السَّماءِ إلهٌ يْعْبَدُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعُ".
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلّهُ اللهُ عَلَى عْلِمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةَ فَمَنَ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]. اهـ.
وقد فصل في كتابه "الداء والدواء" بين فيه أنواع الحب، فقال (1/ 443- 444):
"وههنا أربعة أنواع من المحبّة يجب التفريق بينها، وإنّما ضلّ من ضلّ بعدم التمييز بينها:
أحدها: محبة الله. ولا تكفي وحدها في النجاة من عذابه والفوز بثوابه، فإنّ المشركين وعبّاد الصليب واليهود وغيرهم يحبّون الله.
الثاني: محبة ما يحبّه الله وهذه هي التي تُدخله في الإسلام، وتُخرجه من الكفر، وأحبُّ الناس إلى الله أقوَمُهم بهذه المحبة وأشدّهم فيها.
الثالث: الحبّ لله وفيه. وهي من لوازم محبة ما يحبّ، ولا يستقيم محبة ما يحب إلا بالحبّ فيه وله.
الرابع: المحبة مع الله. وهي المحبة الشركية، وكلّ من أحبّ شيئًا مع الله، لا لله ولا من أجله ولا فيه، فقد اتخذه ندًّا من دون الله، وهذه محبة المشركين.
وبقي قسم خامس: ليس مما نحن فيه، وهو المحبة الطبعية، وهي ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعه، كمحبة العطشان للماء، والجائع للطعام، ومحبة النوم والزوجة والولد. فتلك لا تُذَمّ إلا إذا ألهَتْ عن ذكر الله وشغلتْ عن محبته، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9] وقال: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37]..... إلى أن قال (1/ 463):
"ولما كانت المحبة جنسًا تحته أنواع متفاوتة في القدر والوصف، كان أغلب ما يُذكَر فيها في حقّ الله تعالى ما يختصّ به ويليق به من أنواعها، ولا يصلح إلا له وحده، مثل العبادة والإنابة ونحوهما؛ فإنّ العبادة لا تصلح إلا له وحده، وكذلك الإنابة.
وقد تذكر المحبة باسمها المطلق، كقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].
وأعظم أنواع المحبة المذمومة: المحبّة مع الله، التي يسوّي المحبّ فيها بين محبته لله ومحبته للندّ الذي اتخذه من دونه، وأعظم أنواعها المحمودة: محبة الله وحده، ومحبة ما أحبّ، وهذه المحبة هي أصل السعادة ورأسها، التي لا ينجو أحد من العذاب إلا بها، والمحبة المذمومة الشركية هي أصل الشقاوة ورأسها، التي لا يبقي في العذاب إلا أهلها". اهـ.
إذا تقرر هذا، ظهر الفرق بين المشروع والممنوع من الحب،، والله أعلم.
- المصدر: