الترفيه أو الترويح المباح في عصرنا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن الشريعة الإسلامية وازنت بين الطبيعة الإنسانية والفطرة والشريعة، فأعطى كل ذي حق حقه، فواقعية الإسلام وشموليته لم تغفل طبيعة الإنسان، وما جبل عليه من حب اللعب، وعدم الاستمرار على الجد بطريقة دائمة، ومن ثمّ كانت المباحات أضعاف المحرمات، وهذا التوازن العجيب دليل بمفرده على أنه دين الله الخاتم، المعصوم من التحريف والتبديل، ومن غلّب جانبًا على غيره ضل سعيه، وكان هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل هدي؛ فكان يضحك ويمزح، ويختار المستحسنات، ويسابق عائشة - رضي الله عنها - وكان يأكل اللحم، ويحب الحلوى، ويستعذب له الماء.
وروى مسلم في صحيحه عن حنظلة الأسيدي قال: قلت: "يا رسول الله؛ نافق حنظلة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما ذاك. قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا نراهما رأي عين؛ فإذا خرجنا من عندك، عَافَسنَا الأزواج والأولاد والضَّيعَات ونسينا كثيراً؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فُرُشِكُمْ وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة، ثلاث مرات)).
قال في كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 229)
"ساعة لقوة اليقظة، وساعة للمباح وإن أوجبت بعض الغفلة؛ وهذا لأن الإنسان لو حقق مع نفسه ما بقي، فلا بد للمتيقظ من التعرض لأسباب الغفلة ليعدل ما عنده، ومن أين يقدر على الأكل والشرب والجماع من يرى الأمر كأنه معاين، وإن من الغفلة لنعمة عظيمة، إلا أنها إذا زادت أفسدت، إنما ينبغي أن تكون بمقدار ما يعدل". اهـ.
وقال في "فيض القدير" (4/ 40):
"أي أريحوها بعض الأوقات من مكابدة العبادات بمباح لا عقاب فيه ولا ثواب قال أبو الدرداء: إني لأجم فؤادي ببعض الباطل أي اللهو الجائز؛ لأنشط للحق، وقال علي رضي الله عنه: "أجموا هذه القلوب فإنها تمل كما تمل الأبدان"، أي تكل، وقال بعضهم: إنما ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم لأولئك الأكابر الذين استولت هموم الآخرة على قلوبهم فخشي عليها أن تحترق، وقال الحكيم في شرح هذا الحديث: الذكر المذهل للنفوس إنما يدوم ساعة وساعة ثم ينقطع ولولا ذلك ما انتفع بالعيش".
إذا تقرر هذا، فلا بأس من الترفيه عن النفس من حين لآخر بشيء من المباح، سواء كان ترفيهًا إلكترونيًا، أو خروج إلى البر أو البحر، وغير ذلك، ولا يعد الترفيه مضيعة للوقت؛ لأنه يجم النفس مخافة السأمة عن العبادة، فالمداومة على الطاعات فقط مشقة لا يطيقها كل أحد، وغير هذا من الإقبال على الطاعات فقط، إنما هو من مداخل الشيطان، ثم لا يزال يغيرهم كذلك إلى أن يتركوا العمل رأسا؛ كما صحّ عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى"؛ رواه أحمد.
هذا؛ وقد أفاض الإمام أبو الفرج بن الجوزي في كتابه "صيد الخاطر" في هذا المسألة ما لا تكاد تجده في غيره، فقال: "فلابد من التلطُّف بالبدن، بتناول ما يصلحه، وبالقلب بما يدفع الحزن المؤذي له، وإلا فمتى دام المؤذي عجل التلف، ثم يأتي الشرع بما قد قاله العقل، فيقول: إن لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، فصم وأفطر، وقم ونم. ويقول: كفى المرء إثماً أن يضيع من يقوت. ويحث على النكاح،... ويكثر من التزوُّج. وكان يتلطف ببدنه، فيختار الماء البائت ويحب الحلوى واللحم. ولولا مُسَاكَنة نوع غفلة لما صنَّف العلماء، ولا حُفِظ العلم، ولا كُتِب الحديث؛ لأن من يقول: ربما مت اليوم كيف يكتب وكيف يسمع ويصنف.
فلا يُهَوِّلَنَّكُم ما ترون من غفلة الناس عن الموت وعدم ذكره حق ذكره، فإنها نعمة من الله سبحانه، بها تُقَوَّم الدنيا ويَصلُح الدين. وإنما تُذَم قوة الغفلة الموجبة للتفريط وإهمال المحاسبة للنفس، وتضييع الزمان في غير التزوُّد، وربما قويت فحملت على المعاصي. فأما إذا كانت بقدر كانت كالملح في الطعام لا بد منه، فإن كَثُرَ صَار الطعام زعافاً. وقال: لا بد لها من التلطف، فإن قاطع مرحلتين في مرحلة خليق بأن يقف. فينبغي أن يقطع الطريق بألطف ممكن. وإذا تعبت الرواحل نهض الحادي يغنيها، وأخْذُ الراحة للجد جد، وغوص السباح في طلب الدر صعود.
ودوام السير يُحْسِر الإبل، والمفازة صعبة ومن أراد أن يرى التلطف بالنفس فلينظر في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان يتلطف بنفسه، ويمازح ويخالط النساء، ويقبل ويمص اللسان، ويختار المستحسنات، ويستعذب له الماء ويختار الماء البارد، والأوفق من المطاعم كلحم الظهر والذراع والحلوى، وهذا كله رفق بالناقة في طريق السير.
فأما من جرد عليها السوط فإنه يوشك أن لا يقطع الطريق.
واعلم أنه ينبغي للعاقل أن يغالط نفسه فيما يكشف العقل عن عواره، فإن فكر المتيقظ يسبق قبل مباشرة المرأة إلى أنها اعتناق بجسد يحتوي على قذارة، وقيل بلع اللقمة إلى أنها متقلبة في الريق ولو أخرجها الإنسان لفظها.
ولو فكر في قرب الموت وما يجري عليه بعده، لبغض عاجل لذته، فلابد من مغالطة تجري لينتفع الإنسان بعيشه كما قال لبيد:
واكذِبِ النَّفْس إذا حدَّثْتَها = إنَّ صدْقَ النَّفسِ يُزْرِي بالأَمَلْ
وقال البستي:
أفِدْ طَبْعَكَ المَكْدُود بالهمِ رَاحةً = بِرَاح، وعلِّلْهُ بشيءٍ مِنَ المَزْحِ
لكِنْ إذا أعطيْتَه المَزْحَ فَلْيَكُنْ = بمقدارِ ما نُعْطِي الطعامَ من المِلْحِ
قال أبو علي بن الشبل:
وَإذَا هَمَمتَ فَنَاجِ نَفسَكَ بالمُنَى = وَعْداً، فَخَيرات الجنَانِ عِدَاتُ
وَاجعَل رَجَاءَك دُوْنَ يَأسِكَ جُنَّة = حتَّى تَزُول بهمّك الأَوقَاتُ
وَاستُر عَن الجُلسَاء بثك، إِنَّمَا = جُلَسَاؤُكَ الحسّاد والشّماتُ
وَدَع التَّوقُّع للحَوَادِثِ إنه = للحيّ من قَبل المَمَاتِ مَمَاتُ
فَالهم لَيسَ لَهُ ثَبَات مِثل مَا = في أَهْلِهِ مَا للسُّرُورِ ثَبَاتُ
لَولاَ مُغَاَلطَةُ النُّفوسِ عُقُولها = لم تَصْفُ للمُتَيقِّظين حَيَاة
وقد كان عموم السلف يخضبون الشيب لئلا يرى الإنسان منهم ما يكره، وإن كان الخضاب لا يعدم النفس علمها بذلك، ولكنه نوع مخادعة للنفس، وما زالت النفوس ترى الظاهر، وإنما الفكر والعقل مع الغائب، ولا بد من مغالطة تجري ليتم العيش.
ولو عمل العامل بمقتضى قصر الأمل ما كتب العلم ولا صنف... ولا بد للتعب من راحة وإعانة، والله - عز وجل - معك على قدر صدق الطلب، وقوة اللجأ، وخلع الحول والقوة، وهو الموفق".
هذ؛ والله أعلم.
- المصدر: