أحبه وعزته و جلاله لكنني أعصيه
إنَّ ارتِكاب المعاصي يُقَسِّي القلبَ، ويَحرِمُ من الطَّاعة، ويَمحَقُ البَرَكة، ويؤدِّي إلى الوَحْشَةِ وضيقِ الصَّدْرِ والهوانِ على الله تعالى وعلى النَّاس، ولا يُنْظَرُ إلى حَجْمِ المعصِية وإنَّما يُنظَرُ إلى عظمة مَن عَصَى.
السلام عليكم شيخنا الفاضل اريد مساعدة منك فلقد ضاق صدري و اسود قلبي و دمعت عيني شيخنا انا شاب في 28 سنة كثير الذنوب اذنب ثم اتوب ثم اذنب ثم اتوب اعاهد ربي بعدم الرجوع ثم اعود لسابق عهدي بل اشد استحوذ علي الشيطان فأنساني ذكر الرحمان و الله الذي لا إله الا هو أنه نصرني يوم خذلت و افرحني يوم ابكاني الناس نجحت نجاحا باهرا في حياتي الدراسية و المهنية و كانت كلها بفضل الله و الله يا شيخ إنني أحب الرحمن ليس نفاقا أحبه جدا لكنني أعصيه و كلما دعوته أجابني يا شيخ حينما اكون على الإستقامة اشعر براحة عظيمة و عندما اعصي من أمره كاف و نون اكره كل شيء من حولي....اصبحت استحي من العزيز المتعال خنت الله و نكثت عهده خنت من يطعمني و يسقيني من اذا مرضت يشفيني خنت من وقف معي ف اصعب لحظات عمري الرحمان فاسأل به خبيرا....أريد حل و توبة صادقة اريد الرجوع الى الغفار القهار و بعدها إن شاء رحمني فهو ربي و إن شاء عذبني فهو ربي.....بك استجير و من يجير سواك فأجر ضعيفا يحتمي بحماك
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فمما لا شك فيه أن الصدقَ والرغبة في الصلاح، هما بداية الخير وسبيل والإصلاح بشرط حمل النفس على الاستقامة على شرع الله تعالى، وبهذا تتحول الرغبة الصادقة في الفرار إلى الله تعالى إلى إرادةَ جازمةَ وهي مع القدرة التامة توجب وجود المراد، وإنما تنتفي الاستقامة لعدم كمال القدرة، أو لعدم كمال الإرادة، وإلا فمع كمالهما؛ يجب وجودُ الفعل الاختياري.
أما سبب العودة إلى الذنوب مرة أخرى فقد بين سببه شيخ الإسلام ابْنُ تيميَّة - رحِمه الله -: "فإنَّ العبد إنَّما يعودُ إلى الذَّنب لبقايا في نفْسِه، فمَنْ خرَّج من قلْبِه الشُّبهة والشَّهوةَ لَم يعُدْ إلى الذَّنب؛ فهذه التَّوبةُ النَّصوح". اهـ. من "مجموع الفتاوى".
فاشَغْلِ وقتك بِما يفيد؛ لأنَّ النَّفس إنْ لم تَشْغَلْها بالحقِّ شغَلَتْك بالباطِل، مع مُحاولة نِسيان الذُّنوب التي مَضَتْ وعدَم التفكُّر فيها بعد التَّوبة منها، فإنْ غلب تذكُّر الذَّنب فاجْعَلْه منطلقًا لتجديد التَّوبة، ومع أخْذِ نفسِك بالشِّدَّة ولا تَتْرُكْ لها الحَبْل على الغارب.
ولتكثر بالدعاء بتلك الأدعية الجامعة: "رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرْ هُدَايَ إِلَيَّ، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي لَكَ شَاكِرًا، لَكَ ذَاكِرًا، لَكَ رَاهِبًا، لَكَ مِطْوَاعًا، إِلَيْكَ مُخْبِتًا، لك أواها مُنِيبًا، رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَاهْدِ قَلْبِي، وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبِي"، و"اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"، و"اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلاقِ؛ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، اصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا؛ لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ"، و"اللهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي". ولتكثر من قول :لا حول ولا قوة إلا بالله، يا ذا الجلال والإكرام.
كما ينبغي عليك الابتعاد عن أماكن المعصية، فإنَّ بقاء التائب في نفس بيئة المعصية يؤدِّي غالبًا إلى الانتِكاسِ والرُّجوع إلى المعصية من جديدٍ وعدَمِ التَّوبة منها، ولِهذا جاء في الصحيحَيْنِ عن أبي سعيد الخدرى مرفوعًا في قصة الرجل الذي قتل مائةَ نفس، قال: "فدُلَّ على عالِم، فسألهُ: هل له من توبةٍ وقد قَتَلَ مائةَ نفس؟ فقال له: نَعَم، ومَن يَحولُ بينَك وبَيْنَ التَّوبة؟ اذْهَبْ إلى بلدِ كذا، فإنَّ فيها قومًا يَعبدون الله فاعْبُدِ الله مَعَهُمْ ولا ترجع إلى أرضك فإنَّها أرْضُ سُوء".
فأرشده أوَّلاً إلى تغيِير البيئةِ الفاسدةِ ببيئةٍ صالحة، وهذا هو الدَّواء النَّاجع؛ قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28].
ولتسع في تقوية منزلة مراقبة الله تعالى في قلبك في السِّرِّ والعلانية، وأنَّه يَراكَ ولا يَخفى عليه شيءٌ مِمَّا تفعل؛ قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]، وهَذا هُو مقامُ الإحْسانِ المُشار إليه في حديثِ جِبريلَ - عليْهِ السَّلام -: ((أن تَعْبُدَ اللَّه كأنَّك تراهُ فإنْ لم تَكُنْ تراهُ فإنَّه يَراك))؛ متفق عليه.
فاستِحْضارُ قُرْبِه - سبحانه - كأنَّه يراكَ يُوجبُ الخَشيةَ والخوفَ والهَيْبَة والتَّعظيم؛ كما رُوِيَ عن أبي هُرَيْرة مرفوعًا: "أنْ تَخشَى اللَّهَ كأنَّكَ تَراهُ"، وقال أبو ذَرٍّ: "أوصانِي خليلي - صلَّى الله عليْهِ وسلَّم - أن أخْشَى اللَّه كأنِّي أراهُ"، وعَنْ أبِي أُمامةَ أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وصَّى رجُلاً فقال له: "استَحْيِ منَ الله استحْياءَكَ من رَجُلَيْنِ من صالِحِي عشيرتِك لا يُفارِقانِكَ"، وعن مُعاذٍ أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْهِ وسلَّم – قال له: "استَحْيِ منَ اللَّه كما تَسْتَحْيِي من رجُلٍ ذي هيبةٍ من أهْلِك".
كما ينبغي تذكر شؤم المعصية قبل الوقوع فيها، وتذكر خطورةَ الذُّنوب وأضرارَها والتي من أعظمها أن يحال بين المرء وقلبه؛ فإنَّ ارتِكاب المعاصي يُقَسِّي القلبَ، ويَحرِمُ من الطَّاعة، ويَمحَقُ البَرَكة، ويؤدِّي إلى الوَحْشَةِ وضيقِ الصَّدْرِ والهوانِ على الله تعالى وعلى النَّاس، ولا يُنْظَرُ إلى حَجْمِ المعصِية وإنَّما يُنظَرُ إلى عظمة مَن عَصَى".
هذا؛ وتأمل كلام واحد من أعظم أطباء القلوب العالمين بدائها ودوائها، قال الإمام ابن القيم في "مدارج السالكين"(1/ 424):
"فكل نقص وبلاء وشر في الدنيا والآخرة، فسببه الذنوب، ومخالفة أوامر الرب، فليس في العالم شر قط إلا الذنوب وموجباتها.
وآثار الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان والأموال أمر مشهود في العالم، لا ينكره ذو عقل سليم، بل يعرفه المؤمن والكافر، والبر والفاجر.
وشهود العبد هذا في نفسه وفي غيره، وتأمله ومطالعته مما يقوي إيمانه بما جاءت به الرسل، وبالثواب والعقاب، فإن هذا عدل مشهود محسوس في هذا العالم، ومثوبات وعقوبات عاجلة، دالة على ما هو أعظم منها لمن كانت له بصيرة، كما قال بعض الناس: إذا صدر مني ذنب ولم أبادره ولم أتداركه بالتوبة انتظرت أثره السيئ، فإذا أصابني أو فوقه أو دونه كما حسبت، يكون هجيراي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، ويكون ذلك من شواهد الإيمان وأدلته، فإن الصادق متى أخبرك أنك إذا فعلت كذا وكذا ترتب عليه من المكروه كذا وكذا، فجعلت كلما فعلت شيئا من ذلك حصل لك ما قال من المكروه، لم تزدد إلا علما بصدقه وبصيرة فيه، وليس هذا لكل أحد، بل أكثر الناس ترين الذنوب على قلبه، فلا يشهد شيئا من ذلك ولا يشعر به البتة...
فالذنوب مثل السموم مضرة بالذات، فإن تداركها من سقي بالأدوية المقاومة لها، وإلا قهرت القوة الإيمانية، وكان الهلاك، كما قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر، كما أن الحمى بريد الموت.
فشهود العبد نقص حاله إذا عصى ربه، وتغير القلوب عليه، وجفولها منه، وانسداد الأبواب في وجهه، وتوعر المسالك عليه، وهوانه على أهل بيته وأولاده وزوجته وإخوانه. وتطلبه ذلك حتى يعلم من أين أتي؟ ووقوعه على السبب الموجب لذلك مما يقوي إيمانه، فإن أقلع وباشر الأسباب التي تفضي به إلى ضد هذه الحال، رأى العز بعد الذل، والغنى بعد الفقر، والسرور بعد الحزن، والأمن بعد الخوف، والقوة في قلبه بعد ضعفه ووهنه ازداد إيمانا مع إيمانه، فتقوى شواهد الإيمان في قلبه وبراهينه وأدلته في حال معصيته وطاعته، فهذا من الذين قال الله فيهم: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 35].
هذا؛ وراجع: محبة الله للعبد، كيف أجد أثر الطاعة في تصرفاتي وأخلاقي؟، كيف الثبات في الاختبار والامتحان"،، والله أعلم.
- التصنيف:
- المصدر: