غض البصر

منذ 2022-04-28
السؤال:

الكثير من الشباب ينظرون الى النساء المتبرجات في المقاطع والافلان والمسلسلات،وحجتهم ان نظرهم هءا لا بنتج منه شهوة،فهل هذا صحيح؟

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:

فإن الله تعالى أمر بغض البصر سدًا للذريعة المفضية إلى الشهوة والمحظور؛ فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}[النور: 30]، فافترض الله عز وجل غض البصر جملة، كما افترض حفظ الفرج، ولا يجوز تخصيص الآية الشريفة بمن ينظر بشهوة؛ لأن ذلك يفتقر لنص صحيح، فليس في الكتاب ولا في السنة إباحة النظر إلى النساء بدعوى عدم الشهوة.

فالشارع الحكيم منع من النظر خشية الفتنة والشهوة؛ كما قال ابن عابدين في "حاشيته رد المحتار".

وبين هذا الإمام ابن القيم في كتابه "الداء والدواء"(ص: 153) حيث قال: "والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان؛ فالنظرة تولد خطرة، ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولا بد، ما لم يمنع منه مانع، وفي هذا قيل: الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده؛ قال الشاعر::

كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة بلغت في قلب صاحبها ... كمبلغ السهم بين القوس والوتر

والعبد ما دام ذا طرف يقلبه ... في أعين العين موقوف على الخطر

يسر مقلته ما ضر مهجته ... لا مرحبًا بسرور عاد بالضرر

ومن آفات النظر: أنه يورث الحسرات والزفرات والحرقات، فيرى العبد ما ليس قادرًا عليه ولا صابرًا عنه، وهذا من أعظم العذاب، أن ترى ما لا صبر لك عن بعضه، ولا قدرة على بعضه.

وقال أيضًا في كتاب "الفوائد" (ص: 139): "الصَّبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة؛ فإنَّها إمَّا أن توجِبَ ألما وعقوبةً، وإمَّا أن تقطعَ لذَّة أكمل منها، وإما أن تضيِّع وقتًا إضاعته حَسرة وندَامة، وإمَّا أن تثلم عرضًا توفيره أنفع للعبد مِن ثلمه، وإمَّا أن تُذهب مالاً بقاؤه خيرٌ له مِن ذهابه، وإمَّا أن تضع قدرًا وجاهًا قيامُه خير من وَضْعه، وإمَّا أن تَسلب نعمةً بقاؤها ألذُّ وأطيب مِن قضاء الشَّهوة، وإمَّا أن تطرق لوضيع إليك طريقًا لم يكنْ يجدها قبل ذلك، وإمَّا أن تجلبَ همًّا وغمًّا وحزنًا وخوفًا لا يقارِب لذَّة الشَّهوة، وإمَّا أن تُنسِي علمًا ذِكرُه ألذُّ مِن نيل الشَّهوة، وإمَّا أن تشمتَ عدوًّا وتُحزن وليًّا، وإمَّا أن تقطعَ الطريقَ على نِعمة مقبِلة، وإمَّا أن تحدِث عيبًا يَبقى صفةً لا تزول؛ فإنَّ الأعمال تورِث الصِّفات والأخلاق". اهـ.

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلامه عن حكم النظر بغير شهوة " مجموع الفتاوى"(15/419-418):"...ففيه وجهان في مذهب أحمد أصحهما وهو المحكي عن نص الشافعي وغيره أنه لا يجوز، و"الثاني": يجوز؛ لأن الأصل عدم ثورانها؛ فلا يحرم بالشك بل قد يكره. والأول هو الراجح كما أن الراجح في مذهب الشافعي وأحمد أن النظر إلى وجه الأجنبية من غير حاجة لا يجوز وإن كانت الشهوة منتفية؛ لكن لأنه يخاف ثورانها؛ ولهذا حرم الخلوة بالأجنبية؛ لأنه مظنة الفتنة، والأصل أن كل ما كان سببًا للفتنة فإنه لا يجوز؛ فإن الذريعة إلى الفساد سدها إذا لم يعارضها مصلحة راجحة، ولهذا كان النظر الذي قد يفضي إلى الفتنة محرمًا إلا إذا كان لحاجة راجحة، مثل نظر الخاطب والطبيب وغيرهما فإنه يباح النظر للحاجة مع عدم الشهوة.

وأما النظر لغير حاجة إلى محل الفتنة فلا يجوز، ومن كرر النظر إلى الأمرد ونحوه وأدامه وقال: إني لا أنظر لشهوة كذب في ذلك؛ فإنه إذا لم يكن له داع يحتاج معه إلى النظر لم يكن النظر إلا لما يحصل في القلب من اللذة بذلك.

وأما نظر الفجأة فهو عفو إذا صرف بصره كما ثبت في الصحاح عن جرير قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة قال: "اصرف بصرك"، وفي السنن أنه قال لعلي رضي الله عنه: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية"، وفي الحديث الذي في المسند وغيره: "النظر سهم مسموم من سهام إبليس"، وفيه: "من نظر إلى محاسن امرأة ثم غض بصره عنها أورث الله قلبه حلاوة عبادة يجدها إلى يوم القيامة"، أو كما قال.

ولهذا يقال: إن غض البصر عن الصورة التي ينهى عن النظر إليها: كالمرأة والأمرد الحسن يورث ذلك ثلاث فوائد جليلة القدر:

 أحدها: حلاوة الإيمان ولذته التي هي أحلى وأطيب مما تركه لله؛ فإن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه والنفس تحب النظر إلى هذه الصور.

ثم النظر يولد المحبة فيكون علاقة؛ لتعلق القلب بالمحبوب ثم صبابة؛ لانصباب القلب إليه ثم غراما؛ للزومه للقلب كالغريم الملازم لغريمه، ثم عشقا إلى أن يصير تتيمًا، والمتيم المعبد وتيم الله عبد الله؛ فيبقى القلب عبدًا لمن لا يصلح أن يكون أخًا ولا خادمًا، وهذا إنما يبتلى به أهل الإعراض عن الإخلاص لله الذين فيهم نوع من الشرك وإلا فأهل الإخلاص كما قال الله تعالى في حق يوسف عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف 24]، فامرأة العزيز كانت مشركة فوقعت مع تزوجها فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف عليه السلام مع عزوبته ومراودتها له، واستعانتها عليه بالنسوة وعقوبتها له بالحبس على العفة:- عصمه الله بإخلاصه لله تحقيقًا لقوله: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[ص: 82، 83]، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]، والغي: هو اتباع الهوى.

الفائدة الثانية " في غض البصر: فهو نور القلب والفراسة قال تعالى عن قوم لوط: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الحجر: 72]، فالتعلق بالصور يوجب فساد العقل وعمى البصيرة وسكر القلب بل جنونه.

 وذكر الله سبحانه آية النور عقيب آيات غض البصر فقال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [النور: 35]، وكان شجاع بن شاه الكرماني لا تخطئ له فراسة وكان يقول: من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وذكر خصلة سادسة أظنه هو أكل الحلال:- لم تخطئ له فراسة؛ والله تعالى يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، فيطلق نور بصيرته ويفتح عليه باب العلم والمعرفة والكشوف، ونحو ذلك مما ينال ببصيرة القلب.

الفائدة الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل الله له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة؛ فإن في الأثر: "الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله"، ولهذا يوجد في المتبع هواه من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه؛ فإن الله جعل العزة لمن أطاعه والذِلة لمن عصاه.

فالله يصرف عن عبده ما يسوءه من الميل إلى الصور والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله، ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له تغلبه نفسه على اتباع هواها، فإذا ذاق طعم الإخلاص وقوي في قلبه انقهر له هواه بلا علاج؛ قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]، فإن الصلاة فيها دفع للمكروه وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل المحبوب وهو ذكر الله، وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع المكروه؛ فإن ذكر الله عبادة لله، وعبادة القلب لله مقصودة لذاتها، وأما اندفاع الشر عنه فهو مقصود لغيره على سبيل التبع. والقلب خلق يحب الحق ويريده ويطلبه. فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك فإنه يفسد القلب كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من الدغل ولهذا قال تعالى:  {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس: 9، 10] وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } [الأعلى: 14، 15] وقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور: 30]، وقال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21]، فجعل سبحانه غض البصر وحفظ الفرج هو أزكى للنفس، وبين أن ترك الفواحش من زكاة النفوس، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش والظلم والشرك والكذب وغير ذلك". اهـ. مختصرًا.

إذا تقرر هذا؛ فلا يجوز لأحد النظر للنساء المتبرجات في الافلان ولا المسلسلات بدعوى أنه لا ينظر إليهن بشهوة، فعلى فرض أنه صادق في دعواه فلا شك أن النظر للمتبرجاة يظلم ويجعله قاسيًا، حتى يعلوه الران وتغمره الغفلة، ويصدق عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح من حديث حذيفة؛ قال: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها، نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا كالكوز، مجخيًا لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه".

وعن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]؛ رواه أحمد والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح،، والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 6
  • 2
  • 5,507

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً