تحرير مذهب ابن حزم في الطلاق
السلام عليكم ، سمعت من علماء ثقات وقرأت في مواقع ثقات مثل موقعكم الطيب ، وايضا في كتاب المحلي للامام ابن حزم ، أن الطلاق عند ابن حزم الظاهري لا يوقع الا بألفاظ صريحة محددة ، وغير هذه الألفاظ الألفاظ لا يقع بها طلاق ، كالحلف بالطلاق علي شئ مستقبلي أو ماضي أو حلف علي غلبة الظن علي ماضي أو الحلف للتأكيد أو التصديق أو التكذيب أو الاخبار بالحلف بالطلاق با ختصار يقول لا يقع طلاق إلا بلفظ صريح ولا طلاق إلا كما أمر الله أرجوا الإفادة بدون أن ننكر أو نقلل من أحد ، جزاكم الله خيرا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فما ورد في السؤال من ذكر مذهب أبي محمد بن حزم في الطلاق في كتابه العظيم "المحلى" قد رجع عن كثير منه في كتابه "مراتب الإجماع" حيث أنكر في "المحلى" الطلاق بالكناية والطلاق المعلق مطلقًا، وقرر أن الطلاق لا يكون إلا ناجزًا، كما سيأنتي بيانه.
جاء في كتاب "المحلى بالآثار" (9/ 436-439): "لا يقع طلاق إلا بلفظ من أحد ثلاثة ألفاظ: إما الطلاق، وإما السراح، وإما الفراق، مثل أن يقول: أنت طالق، أو يقول: مطلقة، أو قد طلقتك - أو أنت طالقة، أو أنت الطلاق، أو أنت مسرحة، أو قد سرحتك، أو أنت السراح، أو أنت مفارقة، أو قد فارقتك، أو أنت الفراق، هذا كله إذا نوى به الطلاق، فإن قال في شيء من ذلك كله: لم أنو الطلاق، صدق في الفتيا، ولم يصدق في القضاء في الطلاق، وما تصرف منه، وصدق في سائر ذلك في القضاء أيضابرهان ذلك: قوله عز وجل: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } [الأحزاب: 49]
وقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] ، {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] وقوله تعالى: {وسرحوهن سراحا جميلا} [الأحزاب: 49]، وقوله تعالى: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [البقرة: 229]، وقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ } [النساء: 130] .
لم يذكر الله تعالى حلَّ الزوج للزوجة إلا بهذه الألفاظ، فلا يجوز حل عقدة عقدت بكلمة الله عز وجل وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلا بما نص الله عز وجل عليه: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1].
وأما قولنا: إن نوى مع ذلك الطلاق - فلقول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى".
وأما تفريقنا بين ألفاظ الطلاق، فلم يوجب أن يراعى قوله فيها: لم أنو الطلاق في القضاء خاصة - وراعينا ذلك في ألفاظ "السراح، والفراق"؛ فلأن لفظة الطلاق وما تصرف منها لا يقع في اللغة التي خاطبنا الله - عز وجل - بها في أحكام الشريعة إلا على عقد الزواج فقط، لا معنى آخر ألبتة، فلا يجوز أن يصدق في دعواه في حكم قد ثبت بالبينة عليه، وفي إسقاط حقوق وجبت يقينا للمرأة بالطلاق قبله.
وراعينا دعواه تلك في الفتيا، لأنه قد يريد لفظا آخر فيسبقه لسانه إلى ما لم يرده، فإذا لم يعرف ذلك إلا بقوله، فقوله كله مقبول لا يجوز أخذ بعضه وإسقاط بعضه.
وأما "السراح، والفراق"؛ فإنهما تقع في اللغة التي بها خاطبنا الله - عز وجل - في شرائعه على حل عقد النكاح، وعلى معان أخر وقوعًا مستويًا ليس معنى من تلك المعاني أحق بتلك اللفظة من سائر تلك المعاني، فيكون: أنت مسرحة، أي: أنت مسرحة للخروج إذا شئت، وبقوله قد فارقتك، وأنت مفارقة، في شيء مما بينهما ما لم توافقه فيه.
فلما كان ذلك كذلك لم يجز أن يحكم بحل عقد صحيح بكلمة الله عز وجل بغير يقين ما يوجب حلها - وبالله تعالى التوفيق".
قال: وما عدا هذه الألفاظ فلا يقع بها طلاق ألبتة، نوى بها طلاقا أو لم ينو، لا في فتيا ولا في قضاء مثل: الخلية، والبرية، وأنت مبرأة، وقد بارأتك، وحبلك على غاربك، والحرج، وقد وهبتك لأهلك، أو لمن يذكر غير الأهل، والتحريم، والتخيير، والتمليك.
وهذه ألفاظ جاءت فيها آثار مختلفة الفتيا عن نفر من الصحابة - رضي الله عنهم - ولم يأت فيها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء أصلا، ولا حجة في كلام غيره - عليه الصلاة والسلام، لا سيما في أقوال مختلفة ليس بعضها أولى من بعض". اهـ.
والذي يظهر أن كلام الإمام في المنع من طلاق الكنايه خلاف الإجماع؛ فقد اتفق الفقهاء (كما في: والمغني لابن قدامة)، على أن الصريح في الطلاق هو: ما لم يستعمل إلا فيه غالبًا، لغة أو عرفًا، الكنائي في الطلاق هو: ما لم يوضع اللفظ له، واحتمله وغيره، فإذا لم يحتمله أصلا لم يكن كناية، وكان لغوا لم يقع به شيء.
واتفقوا على أن الصريح يقع به الطلاق بغير نية، وكذلك بالنية المناقضة قضاء فقط، وعلى ذلك فلو أطلق اللفظ الصريح، وقال: لم أنو به شيئا وقع به الطلاق، ولو قال: نويت غير الطلاق لم يصدق قضاء وصدق ديانة، هذا ما لم يحف باللفظ من قرائن الحال ما يدل على صدق نيته في إرادة غير الطلاق، فإن وجدت قرينة تدل على عدم قصده الطلاق صدق قضاء أيضًا، ولم يقع به عليه طلاق.
أما الكنائي فلا يقع به الطلاق إلا مع النية، ذلك أن اللفظ يحتمل الطلاق وغيره، فلا يصرف إلى الطلاق إلا بالنية، وأما وقوعه بالنية فلأن اللفظ يحتمله، فيصرف إليه بها.
أما اليمين بالطلاق أو تعليق الطلاق على شرط مطلقًا، إذا استوفى شروط التعليق الآتية: فإذا حصل الشرط المعلق عليه وقع الطلاق عند جمهور الفقهاء، وفرق شيخ الإسلام ابن تيمية بين التعلق المجرد وما قصد به اليمين، ونقل الإجماع على وقوع الطلاق إذا قصد بالتعليق الطلاق، وهو ما قرره أبو محمد نفسه في "مراتب الإجماع"، وكذلك أوقع الطلاق بالكناية خلافًأ لما قرره في "المحلى".
جاء في "مراتب الإجماع"(ص: 72) لابي محمد: "واتفقوا أن الطلاق إلى أجل أو بصفة واقع إن وافق وقت طلاق، ثم اختلفوا في وقت وقوعه، فمن قائل الآن، ومن قائل هو إلى أجله، واتفقوا أنه إذا كان ذلك الأجل في وقت طلاق أن الطلاق قد وقع.
اتفقوا أن ألفاظ الطلاق طلاق، وما تصرف من هجائه مما يفهم معناه، والبائن والبتة والخلية والبرية وأنه إن نوى بشيء من هذه الألفاظ طلقة واحدة سنية، لزمته كما قدمنا.
واتفقوا أنه إن أوقع هذه الألفاظ أو بعضها مختارًا كما قلنا على المرأة نفسها لا على نفسه وعلى بعضها فانها واقعة على الصفات التي قدمنا". اهـ.
هذا؛ وقد تعقب شيخ الإسلام ابن تيمة أبا محمد في كتابه "نقد مراتب الإجماع" (ص: 295)
فقال: "فقد ذَكر فيما إذا كان قصده الحلف بالطلاق، أيلزم أم لا؟ قولان.
وذَكر أن المؤجَّلَ والمعلَّقَ بصفة - يعني إذا لم يكن في معنى اليمين - أنه يقع بالاتفاق.
وقد اختار في كتابه الكبير في الفقه، "شرح المحلى"، خلافَ هذا، وأنكر على من ادعى الإجماع في ذلك.
وكذلك اختار أن الطلاقَ بالكناية لا يقع، ولا يقع إلا بلفظ الطلاق، وهذا قول الرافضة، وكذلك قولهم عن الطلاق لا يقع إلا بالإشهاد.
وقد أنكر في كتابه من ادعى إجماعًا في هذا وهذا وهذا - كما هو عادته في أمثال ذلك - مع أنه قد ذكر هنا فيه الإجماعَ الذي اشترط فيه الشروط المتقدمة، ومعلوم أن الإجماع على هذا من أظهر ما يُدَّعى فيه الإجماع". اهـ.
هذا؛ والله أعلم.
- المصدر: