ظابط المحبة الشركية
قول الله عز وجل يحبونه كحب الله،ما افهمه هو أنى يجب أن أعلم ما معنى محبة الله المختصة به ثم إذا تم صرف هذا المعنى لغير الله فهذا هو الشرك الاكبر،وعلى حسب فهمى أن محبة الله المختصة به هى محبة طاعته مطلقا دون قيد أو شرط وبناء عليه فالمحبة الشركية هي محبة طاعة غير الله مطلقا دون قيد أو شرط،فهل هذا الظابط صحيح
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فأصل المحبة المحمودة التى أمر الله تعالى بها وخلق خلقه لأجلها هى محبته وحده لا شريك له، المتضمنة لعبادته دون عبادة ما سواه؛ كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56]، والعبادة تتضمن غاية الحب وتمامه وغاية الذل وكماله، فهذه هي المحبة التي لا تصلح إلا لله عز وجل وحده، فلا يحب أحد لذاته إلا الله سبحانه وتعالى، وكل من سواه يحب لغيره، وهذا من أعظم واجبات الدين، وأكبر أصوله، وأجل قواعده، ومن أحب معه مخلوقًا مثل ما يحبه فهو من الشرك الذى لا يغفر لصاحبه، ولا يقبل معه عمل؛ قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].
والله سبحانه وتعالى بين في كتابه موجبات محبته وعلاماتها كما في قوله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [المائدة: 54]، فمحبة الله التي لا تصرف لغيره أصولها الكبار: إخلاص الدين لله، ومتابعة رسوله الله صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيله؛ قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة: 24]، ومن تأمل هذه الآية الكريمة تيقن أن الله سبحانه وتعالى لم يرض من المؤمن أن يكون حبه لله ورسوله كحب الأهل والمال، وأن يكون حب الجهاد في سبيله كحب الأهل والمال، بل حتى يكون الجهاد في سبيله - الذي هو تمام حبه وحب رسوله - أحب إليهم من الأهل والمال؛ فإن ذلك هو تمام الإيمان الذي ثوابه حب الله ورسوله؛ يبينه ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار"
فالمؤمنون يحتملون الملام والعذل في حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، والله يحبهم وهم يحبونه، بخلاف من يحتمل الملام والعذل في محبة ما لا يحبه الله ورسوله، أو الذين يظهرون من مكروهات الحق مهما يلامون عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى (10/ 48): "محبة الله، بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان، وأكبر أصوله، وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين، كما أن التصديق به أصل كل قول من أقوال الإيمان والدين؛ فإن كل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة: إما عن محبة محمودة أو عن محبة مذمومة، فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة. وأصل المحبة المحمودة هي محبة الله سبحانه وتعالى؛ إذ العمل الصادر عن محبة مذمومة عند الله لا يكون عملاً صالحًا، بل جميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن محبة الله؛ فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه؛ كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً فأشرك فيه غيري، فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك"... إلى أن قال(10/ 56-59): "فإذا كان أصل العمل الديني هو إخلاص الدين لله، وهو إرادة الله وحده= فالشيء المراد لنفسه هو المحبوب لذاته وهذا كمال المحبة، لكن أكثر ما جاء المطلوب مسمى باسم العبادة كقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقوله: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 21]، وأمثال هذا، والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته، وكمال الذل ونهايته؛ فالمحبوب الذي لا يعظم ولا يذل له لا يكون معبودًا، والمعظم الذي لا يحب لا يكون معبودًا، ولهذا قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، فبين سبحانه أن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون الله أندادًا - وإن كانوا يحبونهم كما يحبون الله - فالذين آمنوا أشد حبًا لله منهم لله ولأوثانهم؛ لأن المؤمنين أعلم بالله، والحب يتبع العلم؛ ولأن المؤمنين جعلوا جميع حبهم لله وحده، وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا بينه وبين الأنداد في الحب، ومعلوم أن ذلك أكمل؛ قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}[الزمر: 29]، واسم المحبة فيه إطلاق وعموم؛ فإن المؤمن يحب الله ويحب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين، وإن كان ذلك من محبة الله، وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره؛ ولهذا جاءت محبة الله سبحانه وتعالى مذكورة بما يختص به سبحانه من العبادة والإنابة إليه والتبتل له، ونحو ذلك. فكل هذه الأسماء تتضمن محبة الله سبحانه وتعالى ثم إنه كما بَين أن محبته أصل الدين، فقد بين أن كمال الدين بكمالها، ونقصه بنقصها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله"، فأخبر أن الجهاد ذروة سنام العمل وهو أعلاه وأشرفه. وقد قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19] إلى قوله: {أَجْرٌ عَظِيمٌ}، والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة. وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد، والجهاد دليل المحبة الكاملة؛ قال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} [التوبة: 24]، الآيةَ. فإن المحبة مستلزمة للجهاد لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق له في ذلك. وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم؛ إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب له؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في طائفة فيهم صهيب وبلال: لعلك أغضبتهم؛ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك. فقال لهم: يا إخوتي هل أغضبتكم قالوا لا. يغفر الله لك يا أبا بكر"، وكان قد مرّ بهم أبو سفيان بن حرب فقالوا: ما أخذت السيوف من عدو الله مأخذها. فقال لهم أبو بكر: أتقولون هذا لسيد قريش؟ وذكر أبو بكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له ما تقدم؛ لأن أولئك إنما قالوا ذلك غضبًا لله، لكمال ما عندهم من الموالاة لله ورسوله، والمعاداة لأعداء الله ورسوله؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح فيما يروي عن ربه: "لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته؛ ولا بد له منه"، فبين سبحانه أنه يتردد؛ لأن التردد تعارض إرادتين، وهو سبحانه يحب ما يحب عبده، ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت فهو يكرهه؛ كما قال وأنا أكره مساءته، وهو سبحانه قد قضى بالموت فهو يريد أن يموت، فسمى ذلك ترددًا، ثم بين أنه لا بد من وقوع ذلك. وهذا اتفاق واتحاد في المحبوب المرضي المأمور به والمبغض المكروه المنهي عنه". اهـ. مختصرًا.
هذا؛ والله أعلم.
- المصدر: