[3] باب الصبر - [2] مقدمة الباب وشرح حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه "الطهور شطر الإيمان" 1

منذ 2016-05-18

تتمة شرح مقدمة الباب والتعليق على الآيات الواردة فيها وشرح الجزء الأول من حديث أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- "الطُّهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان"

بسم الله الرحمن الرحيم

رياض الصالحين - باب الصبر

مقدمة الباب وشرح حديث أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- "الطُّهور شطر الإيمان" 1

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فإن آخر آية ذكرها الإمام النووي -رحمه الله- في صدر باب الصبر هي قوله -تبارك وتعالى-: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]، هذا إقسام من الله -عز وجل- وذلك أن هذا الوعد بالابتلاء مؤكد بأمرين اثنين، الأمر الأول: وهو القسم المقدر الذي دلت عليه اللام، قسم محذوف، والتقدير: والله لنبلونكم، أُقسِمُ لنبلونكم، فالله يقسم سيبتلي الناس.

الأمر الثاني: النون المؤكدة الثقيلة {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}، ولم يقل: نبلوكم، أي: أن هذا أمر لابد أن يقع ويتحقق، وهذا البلاء قد يكون بالخير، وقد يكون بالشر، {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، فالله     -عز وجل- تارة يبتلي الناس بإغداق الأرزاق، وسعتها، وبكثرة المعاش، والولد وبسعة هذه العطايا الدنيوية وفسحتها، فيعيش الناس عيشة يكتنفها ويغمرها الرغد والافضال من الله -عز وجل-، فهذا لا شك أنه ابتلاء، وإذا كان الناس على طريقة غير مرضية في العمل فإن ما يغدق عليهم من العطايا والأرزاق يكون من قبيل الاستدراج لهم، فالله يعطيهم ليزدادوا إثماً، وليزدادوا كفراً على كفرهم، وهذه تكاد تكون قاعدة مطردة، إذا رأيت الله يغدق على العبد وهو يزيد إمعاناً في الانحراف والمعاصي فهذا استدراج له ليزداد جرماً على جرمه، فيبقى في سكرته، والإمام أحمد -رحمه الله- ابتُلي بهذا وهذا، وضرب وجلد، وأوذي أمام الخليفة، وسجن مرات ومدة طويلة، ثم بعد ذلك تغيرت الحال، وجاء من الخلفاء من يقرب الإمام أحمد ويدنيه، ويريد مقابلته، فلما كانت تصل الإمام أحمد بعض العطايا من السلطان فإنه كان يردها، ويقول: هذه أشد من تلك، يعني: فتنة إقبال الدنيا أشد من فتنة السياط والحبس، وهذا عند من يفقه ويفهم، ومن الناس من يظن أن هذا التحول عبارة عن كرامة لا ينالها إلا كبار الأولياء، وما علم أنها فتنة أخرى أشد، ومن الناس من يُصغي إلى الأولى، ومن الناس من يصمد في الأولى وينهار في الثانية، فالناس الله يقلبهم بين هذا وهذا.

فالله -عز وجل- يعطيك ويوسع عليك، فينظر إلى عملك ويبتليك، يمرض الولد، تمرض البنت، تمرض الزوجة، تمرض أنت، تخسر التجارة، يحصل لك شيء من المكاره، فينظر كيف عملك.

الإنسان لا يشعر بعافية الله -عز وجل-، فإذا مرض أو جرح بدأ ينظر إلى العالم بمنظار آخر، يتميز عنهم بأشياء يجدها في مشاعره، لا يستطيع التعبير عنها؛ لأنه يشعر بالألم والمرض.

فأقول: هذا وعد من الله {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31]، المجاهد الذي يثبت أمام هذا الابتلاء، ويعالج نفسه مرة بعد مرة، ليحملها على الطريق الصحيحة المستقيمة، ويدخل في ذلك ألوان الجهاد، جهاد النفس، وجهاد أصحاب المنكرات بأمرهم ونهيهم وتعليمهم، والاحتساب عليهم، وجهاد أعداء الله -تبارك وتعالى.

قال: والآيات في الأمر بالصبر، وبيان فضله كثيرة معروفة.

ثم ذكر حديث أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري -رضي الله عنه-، وهو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان...))([1])، وهذا حديث عظيم، وقد أفرده بعض أهل العلم، كالحافظ العلائي -رحمه الله- بشرح في كتاب مستقل، ذكر فيه فوائد هذا الحديث، وما دل عليه من المعاني العظيمة.

فأبو مالك الحارث بن عاصم الأشعري، هو من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بلا تردد، بلا شك، لكنهم في مثل هؤلاء الصحابة الذين تشتهر كناهم لربما اختلفوا في أسمائهم اختلافاً كثيراً، كأبي هريرة، اختلفوا في اسمه اختلافاً كثيراً، حتى أوصل ذلك بعضهم إلى أربعين قولاً، ومن أشهر ذلك: عبد الرحمن بن صخر الدوسي.

وأبو مالك هو الحارث بن عاصم الأشعري، وهذا الذي اختاره النووي -رحمه الله- وإلا فقد اختلف في اسمه على عشرة أقوال، فبعضهم يقول: هو الحارث بن كعب، وبعضهم يقول: كعب بن كعب، والذي اختاره الحافظ ابن حجر -رحمه الله- أن أصحاب هذه الكنية ثلاثة:

الأول: الحارث بن الحارث، والثاني: الحارث بن كعب، والثالث: هو المختلف فيه، يعني: أن الاثنين قبله يذكرون عادة بأسمائهم، يقال: الحارث بن الحارث الأشعري، الحارث بن كعب الأشعري، هذا الذي يذكر بالكنية هو شخص ثالث، وهو الذي اختلف في اسمه اختلافاً كثيراً.

وهذا أبو مالك الحارث الأشعري، والأشعريون من أهل اليمن، قدم وفد منهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أثنى عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ومدحهم، وكانت تعرف منازلهم إذا نزلوا بالليل في مكان في السفر من أصواتهم بالقرآن.

فكانوا يُحيون ليلهم بالقراءة والصلاة، فهم أهل عبادة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية))([2])، ودعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لليمن، وأخبر أن الرقة في أهل الغنم، وأن الشدة والغلظة والجفاء في الفَدّادين من ربيعة ومضر.

وهكذا قسم الله -عز وجل- هذه الأمور بين خلقه، فهو -سبحانه- يخلق ما يشاء ويختار، فكان لأهل اليمن هذا النصيب الأوفر: الحكمة يمانية، والإيمان يمانٍ، ومن خيار أهل اليمن الأشعريون الذين قدموا على النبي   -صلى الله عليه وسلم.

ولم يكن أبو مالك الأشعري -رضي الله عنه- مكثراً من الرواية، فقد روى سبعة وعشرين حديثاً، أخرج الإمام مسلم منها حديثين، هذا أحدهما، والبخاري أخرج حديثاً واحداً بالتردد، فقال عن أبي مالك، أو أبي عامر، لم يجزم به.

وأبو مالك –رضي الله عنه- مات بسبب طاعون عمواس المشهور في بلاد الشام، وأصابه الطاعون في يوم واحد مع معاذ بن جبل، وأبي عبيدة عامر بن الجراح، وشرحبيل بن عتبة، وهذه خسارة كبيرة جداً، فهؤلاء قادة كبار، وعلماء، أصابهم الطاعون في يوم واحد جميعاً.

بحساباتنا خسارة كبيرة، ولكن عند الله -عز وجل- مقاييس أخرى، {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} [آل عمران:140]، فالموت من الطاعون شهادة، وإلى متى سيبقى الإنسان؟، الذين لم يموتوا بطاعون عمواس أين هم؟ كلهم ماتوا، الذي مات على فراشه، والذي مات على سفر، والذي مات في ساحة المعركة، والذي وقصته دابته فسقط ومات، والذي غرق في الماء، كل الناس ماتوا.

يقول النبي – صلى الله عليه وسلم-: ((الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان))، كثير من أهل العلم يفرقون بين الطَّهور بالفتح، والطُّهور بالضم، والسَّحور بالفتح، والسُّحور بالضم، والوَضوء بالفتح، والوُضوء بالضم، فكل ما كان بالفتح فهو الشيء المتناول المستعمل، فالوَضوء هو الماء الذي يتطهر به، والطَّهور هو ما يتطهر به، والطُّهور هو نفس العملية، والسُّحور هو نفس الأكل، وهذا الذي عليه كثير من أهل العلم من أهل اللغة، والفقهاء، وغيرهم.

ولكن من أهل العلم -كالخليل بن أحمد الفراهيدي، والأزهري وهو من المتقدمين من الأئمة الكبار- من يقول: لا يقال إلا بالضم، الطُّهور للجميع.

والطهارة يمكن أن نحملها على الطهارة الحسية، والطهارة المعنوية، الطهارة الحسية تكون بالتخلي عن النجاسات، وتكون بالوضوء والغسل من الجنابة، والتيمم، وتطهير الثوب والبدن، فهذا شطر الإيمان، أي: أنه يرقى بمنزلته ومكانته عند الله إلى هذا المقام.

ولا نستغرب هذا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن عامة عذاب القبر من البول، وهذه قضية تافهة بالنسبة لبعض الناس، فلا يستبرئ من بوله، ويصيبه رشاش منه.

ويمكن أن يفسر: ((الطهور شطر الإيمان)) تفسير آخر، وهو الذي مشى عليه النووي في شرح مسلم، الإيمان بمعنى: الصلاة، والله لمّا حول الصلاة من بيت المقدس إلى الكعبة قال: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس، لأنهم تساءلوا قالوا: وصلاتنا السابقة انتهت؟، قال: لا، وما كان الله ليضيع إيمانكم، وهذا المعنى معقول جداً، ما فيه إشكال؛ لأنه لا صلاة إلا بطهارة، فيحمل الإيمان على الصلاة، وهذا قال به جمع من أهل العلم.

والكلام على هذا الحديث يحتاج إلى شيء من الوقت، فنترك ذلك في ليلة قادمة، أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.


 

[1] - أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء (1/203)، رقم: (223).

[2] - أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن (4/1594)، رقم: (4127)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه (1/71)، رقم: (52).

خالد بن عثمان السبت

أستاذ مشارك في جامعة الإمام عبد الرحمن الفيصل بالدمام قسم التفسير والدراسات القرآنية

  • 3
  • 0
  • 9,727
الدرس السابق
[1] مقدمة والتعليق على آيات الباب
الدرس التالي
[3] شرح حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً