خطبة جمعة بسم الله الرحمن الرحيم هنيئا للساجدين تفريج الكرب والقرب من رب العالمين الحمد ...

منذ 2020-09-27
خطبة جمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
هنيئا للساجدين تفريج الكرب
والقرب من رب العالمين

الحمد لله الودودِ المعبود، الذي خضعت له الوجوه بالسجود، وتفضل على عباده الساجدين
بالقرب والجود، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له صاحب الكرم والجود، وأشهد أن محمدا
عبده ورسوله الذي أمره ربه بالسجود، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على
نهجه إلى اليوم الموعود.
أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة
بدعة وكل بدعة ضلالة أجارني الله وإياكم من البدع والضلالات. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ آل عمران: 102.
أيها المسلمون الموحدون: ما أعظم ذلك اليوم، يوم يشيب الولدان، يوم التغابن، يوم الصاخة، يوم
الواقعة، يوم ترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، يوم يفر المرء من أخيه،
يوم الحسرة والندامة، يوم القارعة، يوم ينفخ في الصور، تقطعت بهم الأسباب، فلا خلة بينهم ولا
أنساب، فخشعت أصواتهم، وخضعت أعناقهم، وتقطع بينُهم، وتعاظم كربهم، وعظمت مصيبتهم،
وطال انتظارهم للحكم فيهم، وتقرير مصيرهم، فهرعوا يستشفعون، وعند أبيهم للخلاص يطلبون؛
فاعتذر الأب بأنه هو الذي أخرجهم، وهو سبب ما حل بهم، وأشار عليهم بابنه نوح؛ فاعتذر، وأشار
عليهم بالخليل؛ فاعتذر، وأشار عليهم بالكليم؛ فاعتذر، الكل يعتذر، يقولون مقولة واحدة: (إن ربي
قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله).
سجدة واحدة وثناء على الله من شفيعنا وحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أطفأ ذلك
الغضب، فلما مرغ أنفه بذلة السجود للمتكبر، وذلة الخضوع للعزيز، قيل له: ارفع رأسك، وقل
يُسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع.
وانتهت تلك الأعوام العصيبة والطويلة من أهوال يوم القيامة، وحُكم بين العباد، وأدخل الله أهل
الجنة الجنة، وأهل النار النار، وهذا في آخر المطاف، بعد أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو
خير الوارثين.
يا مسلمون يا عباد الله: من أراد تفريج الكرب وتفريج الهموم فليقترب من الحي القيوم،
فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي
الله عنه -أنَّ رسُولَ اللَّه -صلى الله عيه وسلم- قال: ( أقرب مَا يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء).
مرافقة النبي -عليه الصلاة والسلام- في الجنة تُزف لمن أكثر من السجود بين يديي الله؛ فعن ربيعة
بن كعب –رضي الله عنه- قال: كنت أبيت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتيته بوَضوئه
وحاجته، فقال لي: "سلني". فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: "أوَ غير ذلك؟"، قلت: هو ذاك. قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود". رواه مسلم
من أراد الرفعة من الله والمحبة والرضوان فليكن من الساجدين؛ يقول الله –سبحانه وتعالى-: ( أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ
وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) الحج: .18
إخواني .. أخواتي: تدبروا معي ختام هذه الآية، قال الله: (.. وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِم )
الحج: 18 .
فالهوان كل الهوان والذل كل الذل لمن أبى أن يسجد لله رب العالمين، والشرف كل الشرف أن تكون عبدا لرب الأرض والسموات، كما قال أحد الشعراء:
ومما زادني شرفا وفخرا *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيرت أحمد لي نبيا.
فمن صفات عباد الرحمن السجود والقيام للواحد الديان؛ قال جل وعلا: ( وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ). الفرقان: 64.
معاشر الموحدين الساجدين:
إذا ضاقت صدوركم، وكثرت همومكم، وتكالبت عليكم أعداؤكم، فالسجود لربكم علاجكم؛ قال تعالى: ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِين ) الحجر: 97، 98 .
من ذلت جبهته لله رب العالمين، أكرمه الله برفع هامته، وثبته ونصره على القوم الظالمين، فالسجود لله رب العالمين هو سلاح سحرة فرعون الذين آمنوا برب العالمين، تسلحوا به ليكرمهم الله بالثبات على الحق المبين؛ قال تعالى:
. طه: 70 ( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى )
فوقفوا أمام تهديدات فرعون كالطود العظيم، وقالوا كما قال الله عنهم: ( اقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) طه: 72 .
من أراد الفلاح والفوز والنجاح فليكن من الراكعين الساجدين؛ قال –تعالى-: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ) الحج 77 .
فلنسجد جميعا اليوم طوعا قبل أن يأتي ذلك اليوم العصيب نتمنى أن نسجد لله، لكن هيهات هيهات، فمن سجد لله اليوم كان له الشرف أن يسجد غدا أمام الواحد الديان، ومن لم يسجد لله في هذه الدنيا الفانية، لا يستطيع أن يسجد غدا يوم القيامة يوم الحسرة والندامة؛ قال جل شأنه: ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ) القلم: 42، 43 .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليما كثيرا.. أما بعد:
فيا عباد الله:
الحسرة وتمني الرجوع إلى الدنيا للمجرمين الذين أبوا أن يسجدوا لرب الأرض والسماء؛
قال جل وعلا: ( وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ ۖ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) سورة السجدة: 12، 13، 14 .
سعادة ما بعدها سعادة، وفرحة لا تعدلها أي فرحة، وفوز ما بعده فوز، ونعيم لا يعدله أي نعيم لمن وضع جبهته على الأرض ساجدا لرب السموات والأرض؛ قال أرحم الراحمين: ( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) السجدة: 15، 16، 17 .
وهذه الكرامة إنما هي لأعلى أهل الجنة منزلا؛ كما جاء مبينا في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( سأل موسى عليه السلام ربه فقال : يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال : هو رجل يأتي بعدما يدخل أهل الجنة الجنة ، فيقال له: ادخل الجنة ، فيقول: أي رب، كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم ؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله ومثله ، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقال: هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك ، فيقول: رضيت رب، قال: رب فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر - قال - ومصداقه من كتاب الله قوله تعالى: ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) . وقد روى مسلم أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( يقول الله تبارك وتعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر -ثم قرأ- فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) . وقال ابن سيرين: المراد به النظر إلى الله تعالى.
وقال الحسن: أخفى القوم أعمالا فأخفى الله تعالى لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
أخيرا يا عبد الله: كن في سلك الساجدين، وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين، واحذر طريق الهالكين، الكافرين المعاندين، الذين (إِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً) [الفرقان: 60]، فهم لا يؤمنون، وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون، ولكن الزم غرز الفائزين المستجيبين لأمر ربهم، الخاضعين لهيبته، الطائعين لأمره حين أمرهم فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الحج: 70 .
أسال الله أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى، واسأله أن يجعلني وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، اللهم أصلحنا وأصلح شباب المسلمين اللهم أصلحنا وأصلح بنات المسلمين اللهم أصلحنا وأصلح نساء المسلمين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويهدى فيه أهل معصيتكم ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا رب العالمين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً وسائر بلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، اجعل لنا وللحاضرين من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ومن كل عسر يسراً ومن كل ظالم نجا ارزقنا جميعاً من حيث لا نحتسب، من أرادنا أو أراد بلدنا بسوء فاشغله بنفسه واجعل كيده في نحره ، اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، لا تخرجنا جميعاً من هذا المكان إلا بذنب مغفور وسعي مشكور وتجارة رابحة لا تبور.
عباد الله: صلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين حيث أمركم فقال ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ الأحزاب: 56 .

إعداد/ ياسر عبد الله محمد الحوري
  • 18
  • 0
  • 1,020

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً