الوالدين بين البر والعقوق إنَّ شريعتنا الإسلامية شريعة الأخلاق، والألفة والوفاق، لم تترك خلقا حسنا ...

منذ 2020-12-12
الوالدين بين البر والعقوق
إنَّ شريعتنا الإسلامية شريعة الأخلاق، والألفة والوفاق، لم تترك خلقا حسنا إلا دلت وحثت عيه، ولا خلقا سيئا إلا نهت، في شتى جوانب الحياة، وإن من أهم ما حرصت على ترسيخه؛ مبادئ الطاعة والاحترام بين الأبناء والآباء، فلقد تواترت النصوص والأدلة في وجوب طاعة الوالدين وعدم العقوق لهما بأي شكل كان، ولهذا قال سبحانه:" وقضى ربك ألاَّ تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا"، فلقد أمر الله سبحانه وتعالى بإفراده بالعبودية وأعقبها بالإحسان إلى الوالدين، ولهذا قال بعض أهل العلم: لو شرعت العباد لشخص آخر غير الله، لكانت للوالدين، ومن هنا يتبين لنا عظمة هذا الأمر، والمقصود بالبر للوالدين؛ هو الطاعة التامة في غير معصية الله، والإحسان لهما، ويتجلى البر بالوالدين في صورة عديدة، منها: طاعتهما في القول والفعل، والامتثال لأوامرهما في غير معصية، ومنها حسن التكلم معهما وطلاقة الوجه، ولين الجانب معهما، والترحيب بهما بصدر رحب، ومنها السعي في قضاء حوائجهما قدر الاستطاعة، ومنها تفقد أحوالهم وأوضاعهما بين الحين والآخر، سواء بالزيارة الشخصية، أو عبر الهاتف، والأول مقدم عندي على الثاني، ومنها تقديم الطعام والشراب لهما في حالة العافية أو المرض، ومنها الدعاء لهما بالخير:" وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا"، ومنها الاجتهاد في تحصيل العلم من أجل إفراح قلوبهما وإسرارهما، كما جاء في الحديث عندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال فقال:" سرور تدخله على مسلم"، فإذا كان هذا في حق عوام الناس، فكيف بالوالدين؟ ومن مظاهر البر لهما الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، كما نص على ذلك العلامة محمد الأمين الشنقيطي، فقال:" صلاة على العبد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تكون سببا في ثناء الله عليه وذكره له في الملأ الأعلى باسمه واسم والديه، ومن مظاهر البر بالوالدين المحافظة على الإتيان بأوامر الله كالمحافظة على الصلاة وقراءة القرآن والتحلي بالأخلاق الفاضلة، والانتهاء عن نواهيه وزواجره كترك الصلاة والكذب والسرقة والغيبة والنميمة وغيرها، فإن المحافظة على الأوامر تكون سببا في فرح الوالدين، وهذا أولى بالفرح من تحصيل الشهادة العلمية، وإن عدم الانتهاء عن النواهي والزواجر، تكون سببا في حزنهما، فاحرص أخي المسلم على إفراح والديك، وإنَّ أعظم فرح تقدمه لوالديك أن تكون على الصراط المستقيم، فتلتقي بهما في الجنة، وأكبر حزن تقدمه لهما أن تعيش حياتك متبعا للهوى، فتكون من أهل النار يوم القيامة، فحينها سيحزنان أشد الحزن، وحينها ستدرك حقيقة الأمر، ولكن بعد فوات الأوان.
وللبر بالوالدين فضائل كثيرة منها: نيل محبة الله ورضاه، وكما يكون بر الوالدين سببا في دخول الجنة، ومنها نيل دعائهما المبارك فبذلك تفتح للإنسان جميع أبواب الخير، ومنها مغفرة الذنوب للحديث الذي رواه ابن عمر رضي الله عنه قال: أنَّ رجلًا أتَى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فقالَ يا رسولَ اللَّهِ إنِّي أصَبتُ ذنبًا عظيمًا فَهَل لي مِن تَوبةٍ، قالَ: هل لَكَ مِن أمٍّ؟ قالَ: لا، قالَ: هل لَكَ من خالةٍ؟ قالَ: نعَم، قالَ: فبِرَّها"، ومنها تحصيل البركة في المال والعمر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مَنْ سَرَّه أنْ يُعظِمَ اللهُ رِزْقَه، وأنْ يَمُدَّ في أجَلِه، فَليَصِلْ رَحِمَه"، والوالدان أول الأرحام وأقربهما، ومن فضائل البر بالوالدين تحقيق الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة فقد أخرج الامام مُسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام، سُئل: يا نَبِيَّ اللهِ، أيُّ الأعْمالِ أقْرَبُ إلى الجَنَّةِ؟ قالَ: الصَّلاةُ علَى مَواقِيتِها، قُلتُ: وماذا يا نَبِيَّ اللهِ؟ قالَ: برُّ الوالِدَيْنِ"، وغير ذلك كثير.
هذه بعض مظاهر البر بالوالدين وفضائله، ولقد حرص السلف الصالحون أشد الحرص على تجسيدها في معيشتهم، فلقد كان البر بالوالدين سببا في نجاة أصحاب الغار الذين أغلقت عليهم الصخرة الغار، فاستغاث أحدهم ببره بوالديه – فقد كان يحلب البقر ولا يدع أحدا يتذوق ذلك الحليب إلا بعد أن يشرب منه والداه، فجاء ذات يوم كعادته فوجدهما قد ناما فانتظرهما حتى استيقظا ثم سقهما الحليب ثم رجع إلى بيته- فانفرجت الصخرة مسافة أخرى، ولقد كان أصدق التابعين أويس القرني بارا بأمه، وكان بره بأمه سببا في عدم رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم، فلقد أدرك رحمه الله زمان رسول والله ولكنه لم يره، لأنه لم يخرج من بلدته بسبب بره بأمه إلى أن توفيت، فلقد قدم بره بأمه على نيل درجة الصحبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأراد كهمس العابد: قتل عقرب، فدخلت جحر فأدخل أصابعه خلفها فلدغته، فقيل له بذلك، قال: خفت أن تخرج، فتجيء إلى أمي تلدغها، وكان علي بن الحسن: لا يأكل مع والديه فقيل له في ذلك فقال: لأنه ربما يكون بين يدي لقمة أطيب مما يكون بين أيديهما وهما يتمنيان ذلك، فإذا أكلت بخست بحقهما، وكان محمد بن المنكدر يضع خده على الأرض، ثم يقول لأمه: ضعي قدمك على خدي، وكان محمد بن سيرين إذا اشترى لوالدته ثوباً اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد صبغ لها ثياباً، وما رفع صوته عليها، كان يكلمها كالمصغي إليها، ومن رآه عند أمه لا يعرفه ظن أن به مرضاً من خفض كلامه عندها، وعن عبد الله بن عون: أن أمه نادته فأجابها فعلا صوته صوتها فأعتق رقبتين. وقيل إن بندار جمع حديث البصرة، ولم يرحل براً بأمه، ثم رحل بعدها.
وقال عليٌّ رضي الله عنه: بر الوالدين من كرم الطبائع، وقال الفضيل بن عياض تمام المروءة: من بر والديه، ووصل رحمه، وأكرم إخوانه.
وسئل الحسن عن الوالد والوالدة فقال: حق الوالد أعظم، وبر الوالدة ألزم.
هكذا كان حال سلفنا الصالحين مع والديهم، فلقد ضربوا أروع الأمثلة وأسمى النماذج، وبدلوا الغالي والنفيس من أجل البر بوالديهم، فتعالوا بنا إلى الاقتداء بهم، لعله يصيبنا بعض ما أصابهم.

إذا كان ما ذكرته هو البر وحال السلف معه، فتعالوا نتكلم عن العقوق وحال الخلف معه، والمقصود بالعقوق هو كل فعل أو قول يتأذى به الوالدان من ولدهما، ولقد انتشرت هذه المعصية بشكل كبير في الآونة الأخيرة، ولها مظاهر عدة منها: رفع الصوت على الوالدين في الكلام وإسكاتهما، ومنها التفوّه بكلمات بذيئةٍ وسيئة معهما، والنظر إليهما بغضبٍ أو ازدراءٍ واستهانةٍ، وذكر عيوبهما وإحراجهما أمام الناس وخاصة عند كبرهما، ومنها ترك الإنفاق عليهما عند كبرهما، ومنَّة الابن على والديه، وذكرُ إحسانه إليهما أمام الناس، ومنها أيضا ترك مساعدتهما، وعدم الجلوس معهما وقت الحاجة، والتأخر في قضاء حوائجهما، وقلة زيارتهما، وعدم الاهتمام برأيهما أو استشارتهما في الأمور، مما يشعرهما باستغناء الولد عنهما، ومن مظاهر العقوق للوالدين ترك الدعاء والاستغفار لهما بعد وفاتهما، وعدم تقديم الصدقة عنهما، وعدم إكرام أصدقائهما، وقطع صلة سائر أقاربهما، وكذلك ارتكاب الأعمال التي تتنافى مع الأخلاق الكريمة معهما، وهجرهما وإيداعهما في دار العجزة، ومنها أيضا التأمر وإكثار الطلب عليهم، كأمر الوالدة بتنظيف البيت، وغسل اللباس، وغيره خاصة إذا كانت كبيرة أو مريضة، لكن إذا قامت بذلك برغبتها وهي غير عاجزة أو مريضة فلا بأس في ذلك، مع تذكّر الدعاء لها وشكرها وإعانتها، ومنها الإعراض عنهما، ومقاطعتهما بالكلام، والإكثار من مجادلتهما أو تكذيبهما، واصطناع المشاكل أمامهما، وكذلك أن يجعل الولد نفسه نداً ومساوياً لأبيه وأمه، فيتكبر عليهما، ويعطي لنفسه الحق بأن يرفع صوته على والديه، ومن أهمها أيضا تقديم أوامر الزوجة على أوامر الوالدين، وكذلك التزوج بامرأة تشترط أن تكون في بيت مستقل مع يسر الحال في بيت الوالدين، وكذلك منع الوالدين من القوم لزيارة أحفادهم، ومنها أن يسب الرجل والد الرجل، فيسب الثاني والد الأول، فيكون سببا في لعن والديه، وغير ذلك كثير.
ولا يخفى علينا مفاسد العقوق للوالدين، فمفاسده كثيرة منها: حلول مقت الله وغضبه على العبد لأن العقوق من كبائر الذنوب، فقد قال صلى الله عليه وسلم:" أَلا أُنَبِّئُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبائِرِ، قُلْنا: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ، وكانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فقالَ: ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ، ألا وقَوْلُ الزُّورِ، وشَهادَةُ الزُّورِ فَما زالَ يقولُها، حتَّى قُلتُ: لا يَسْكُتُ"، ومنها الضيق وانعدام الطمأنينة بالعيش، واستياء حال الأسرة بسبب عقوقه، وكذلك استصغار الناس له، وذلك لأنه لم يكن فيه خيراً لأقرب أهله، فلا يرجو الناس منه خيراً قط.، ومنها أيضا انعدام النجاح والفلاح في حياته الدنيا، خاصةً في التعامل مع الناس، وذلك لأن الناس ينفرون ويبتعدون عمّن يُنكر الجميل، ومن يتجاهلهم، ولا يهتم بمصالحهم، ويتعامل معهم بأنانية، فمن كانت القسوة في قلبه لم يهنأ في حياته، وكذلك دعاء الوالدين على ولدهم، ومعلوم أن دعوتهما مستجابةٌ، فقد ورد في الحديث قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ثلاث دعواتٍ مستجاباتٌ دعوةُ المظلومِ ودعوةُ المسافرِ ودعوةُ الوَالِد على وَلدهِ"، وغير ذلك كثير.
ولقد تواترت آثار السلف في النهي عن هذه المعصية، فقد قال بعض الصحابة: ترك الدعاء للوالدين يضيق العيش على الولد، وقال كعب: إن الله ليعجل هلاك العبد إذا كان عاقاً لوالديه ليعجل له العذاب، وإن الله ليزيد في عمر العبد إذا كان باراً ليزيد براً وخيرا، وقال أبوبكر بن أبي مريم قرأت في التوراة: من يضرب أباه يقتل.
هذه جملة مختصرة عن حال البر والعقوق للوالدين، وصورهما في عهد السلف وعهد الخلف.
كتبه الفقير إلى عفو ربه الطالب:
عبدالله بن أحمد بوقليع.

5fd3a7de126de

  • 1
  • 0
  • 296

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً