فصل: شروط العمل الحسن، وتقبيح الرياء وَالضَّعِيفُ فِيكُمْ الْقَوِيُّ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ لَهُ ...

منذ 2021-01-03
فصل: شروط العمل الحسن، وتقبيح الرياء
وَالضَّعِيفُ فِيكُمْ الْقَوِيُّ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ لَهُ الْحَقَّ؛ أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت اللَّهَ فَإِذَا عَصَيْت اللَّهَ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا كَانَتْ جَمِيعُ الْحَسَنَاتِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ شَيْئَيْنِ: أَنْ يُرَادَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ؛ وَأَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِلشَّرِيعَةِ. فَهَذَا فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ؛ فِي الْكَلِمِ الطَّيِّبِ؛ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فِي الْأُمُورِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْأُمُورِ الْعِبَادِيَّةِ. وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ أَوَّلَ ثَلَاثَةٍ تُسْجَرُ بِهِمْ جَهَنَّمُ: رَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ وَأَقْرَأهُ لِيَقُولَ النَّاسُ: هُوَ عَالِمٌ وَقَارِئٌ. وَرَجُلٌ قَاتَلَ وَجَاهَدَ لِيَقُولَ النَّاسُ: هُوَ شُجَاعٌ وَجَرِيءٌ. وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ وَأَعْطَى لِيَقُولَ النَّاسُ: جَوَادٌ سَخِيٌّ} فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ هُمْ بِإِزَاءِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ بَعْدَ النَّبِيِّينَ مِنْ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ فَإِنَّ مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَعَلَّمَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ كَانَ صِدِّيقًا؛ وَمَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَقُتِلَ كَانَ شَهِيدًا وَمَنْ تَصَدَّقَ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ كَانَ صَالِحًا؛ وَلِهَذَا يَسْأَلُ الْمُفْرِطُ فِي مَالِهِ الرَّجْعَةَ وَقْتَ الْمَوْتِ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ أُعْطِيَ مَالًا فَلَمْ يَحُجَّ مِنْهُ وَلَمْ يُزَكِّ سَأَلَ الرَّجْعَةَ وَقْتَ الْمَوْتِ وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} . فَهَذِهِ الْأُمُورُ الْعِلْمِيَّةُ الْكَلَامِيَّةُ يَحْتَاجُ الْمُخْبِرُ بِهَا أَنْ يَكُونَ مَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ: حَقًّا صَوَابًا. وَمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ. فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمُوَافِقُ لِلسُّنَّةِ وَالشَّرِيعَةِ؛ الْمُتَّبِعُ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ كَمَا أَنَّ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَتَعَبَّدُ الْعِبَادُ بِهَا إذَا كَانَتْ مِمَّا شَرَعَهُ اللَّهُ وَأَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ: كَانَتْ حَقًّا صَوَابًا مُوَافِقًا لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ. وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ مِنْ الْقِسْمَيْنِ كَانَ مِنْ الْبَاطِلِ وَالْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ وَالْجَهْلِ وَإِنْ كَانَ يُسَمِّيهِ مَنْ يُسَمِّيهِ عُلُومًا وَمَعْقُولَاتٍ؛ وَعِبَادَاتٍ وَمُجَاهَدَاتٍ؛ وَأَذْوَاقًا وَمَقَامَاتٍ. وَيَحْتَاجُ أَيْضًا أَنْ يُؤْمَرَ بِذَلِكَ لِأَمْرِ اللَّهِ؛ وَيَنْهَى عَنْهُ لِنَهْيِ اللَّهِ؛ وَيُخْبِرَ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ وَإِيمَانٌ وَهُدًى كَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ. كَمَا تَحْتَاجُ الْعِبَادَةُ أَنْ يَقْصِدَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ. فَإِذَا قِيلَ ذَلِكَ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْحَمِيَّةِ؛ أَوْ لِإِظْهَارِ الْعِلْمِ وَالْفَضِيلَةِ؛ أَوْ لِطَلَبِ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ: كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَاتِلِ شَجَاعَةً وَحَمِيَّةً وَرِيَاءً. وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ لَك مَا وَقَعَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَقَالِ؛ وَأَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالْحَالِ. فَكَثِيرًا مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَقْوَالِ مَا هُوَ خِلَافُ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَوِفَاقِهَا. وَكَثِيرًا مَا يَتَعَبَّدُ هَؤُلَاءِ بِعِبَادَاتِ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهَا؛ بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهَا أَوْ مَا يَتَضَمَّنُ مَشْرُوعًا مَحْظُورًا. وَكَثِيرًا مَا يُقَاتِلُ هَؤُلَاءِ قِتَالًا مُخَالِفًا لِلْقِتَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ؛ أَوْ مُتَضَمِّنًا لِمَأْمُورِ مَحْظُورٍ. ثُمَّ كُلٌّ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ: الْمَأْمُورُ؛ وَالْمَحْظُورُ؛ وَالْمُشْتَمِلُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ: قَدْ يَكُونُ لِصَاحِبِهِ نِيَّةٌ حَسَنَةٌ؛ وَقَدْ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ وَقَدْ يَجْتَمِعُ لَهُ هَذَا وَهَذَا. فَهَذِهِ تِسْعَةُ أَقْسَامٍ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ؛ وَفِي الْأَمْوَالِ الْمُنْفَقَةِ عَلَيْهَا مِنْ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ: الْفَيْءُ وَغَيْرُهُ وَالْأَمْوَالُ الْمَوْقُوفَةُ؛ وَالْأَمْوَالُ الْمُوصَى بِهَا وَالْمَنْذُورَةُ؛ وَأَنْوَاعُ الْعَطَايَا وَالصَّدَقَاتِ وَالصِّلَاتِ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ لُبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَخَلْطِ عَمَلٍ صَالِحٍ وَآخَرَ سَيْءٍ. وَالسَّيِّئُ مِنْ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ صَاحِبُهُ مُخْطِئًا أَوْ نَاسِيًا مَغْفُورًا لَهُ. كَالْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ الَّذِي لَهُ أَجْرٌ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ وَقَدْ يَكُونُ صَغِيرًا مُكَفَّرًا بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَقَدْ يَكُونُ مَغْفُورًا بِتَوْبَةِ أَوْ بِحَسَنَاتِ تَمْحُو السَّيِّئَاتِ؛ أَوْ مُكَفَّرًا بِمَصَائِبِ الدُّنْيَا وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ إلَّا أَنَّ دِينَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إرَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ غَيْرَهُ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} . وَالْإِسْلَامُ يَجْمَعُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ؛ فَلَا يَكُونُ مُتَكَبِّرًا. وَالثَّانِي الْإِخْلَاصُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} فَلَا يَكُونُ مُشْرِكًا وَهُوَ: أَنْ يَسْلَمَ الْعَبْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} {إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} . وَالْإِسْلَامُ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا مُعَدَّى بِحَرْفِ اللَّامِ؛ مِثْلَ مَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ؛ وَمِثْلَ قَوْله تَعَالَى {وَأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} وَمَثَلَ قَوْله تَعَالَى {قَالَتْ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَمِثْلَ قَوْلِهِ: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} وَمَثَلَ قَوْلِهِ: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ} . وَيُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا مَقْرُونًا بِالْإِحْسَانِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} فَقَدْ أَنْكَرَ أَنَّ يَكُونَ دِينٌ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الدِّينِ؛ وَهُوَ إسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ مَعَ الْإِحْسَانِ وَأَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. أَثْبَتَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ الْجَامِعَةُ وَالْقَضِيَّةُ الْعَامَّةُ رَدًّا لِمَا زَعَمَ مَنْ زَعَمَهُ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا مُتَهَوِّدٌ أَوْ مُتَنَصِّرٌ. وَهَذَانِ الْوَصْفَانِ - وَهُمَا إسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ؛ وَالْإِحْسَانُ - هُمَا الْأَصْلَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ وَهَمَا: كَوْنُ الْعَمَلِ خَالِصًا لِلَّهِ صَوَابًا: مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ وَالشَّرِيعَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ إسْلَامَ الْوَجْهِ لِلَّهِ هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ لِلَّهِ؛ كَمَا
قَالَ بَعْضُهُمْ:
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًا لَسْت مُحْصِيهِ ... رَبَّ الْعِبَادِ إلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَلُ
وَقَدْ اسْتَعْمَلَ هُنَا أَرْبَعَةَ أَلْفَاظٍ: إسْلَامُ الْوَجْهِ؛ وَإِقَامَةُ الْوَجْهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . وَقَوْلُهُ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وَتَوْجِيهُ الْوَجْهِ كَقَوْلِ الْخَلِيلِ: {إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . وَكَذَلِكَ كَانَ {النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ فِي صَلَاتِهِ: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ {النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَقُولُ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْت نَفَسِي إلَيْك وَوَجَّهْت وَجْهِي إلَيْك} . فَالْوَجْهُ يَتَنَاوَلُ الْمُتَوَجِّهَ وَالْمُتَوَجَّهَ إلَيْهِ وَيَتَنَاوَلُ الْمُتَوَجَّهَ نَفْسَهُ كَمَا يُقَالُ: أَيُّ وَجْهٍ تُرِيدُ؟ أَيْ: أَيُّ وُجْهَةٍ وَنَاحِيَةٍ تَقْصِدُ: وَذَلِكَ أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ. فَحَيْثُ تَوَجَّهَ الْإِنْسَانُ تَوَجَّهَ وَجْهُهُ؛ وَوَجْهُهُ مُسْتَلْزِمٌ لِتَوَجُّهِهِ؛ وَهَذَا فِي بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ جَمِيعًا. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ. وَالْبَاطِنُ هُوَ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ هُوَ الْكَمَالُ وَالشِّعَارُ فَإِذَا تَوَجَّهَ قَلْبُهُ إلَى شَيْءٍ تَبِعَهُ وَجْهُهُ الظَّاهِرُ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَصْدُهُ وَمُرَادُهُ وَتَوَجُّهُهُ إلَى اللَّهِ فَهَذَا صَلَاحُ إرَادَتِهِ وَقَصْدُهُ
فَإِذَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ مُحْسِنًا فَقَدْ اجْتَمَعَ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ صَالِحًا وَلَا يُشْرِكُ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا. وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الْإِحْسَانُ: وَهُوَ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ وَهُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاَلَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِسُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ؛ فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَنْ أَخْلَصَ قَصْدَهُ لِلَّهِ وَكَانَ مُحْسِنًا فِي عَمَلِهِ فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلثَّوَابِ سَالِمٌ مِنْ الْعِقَابِ. وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ يَجْمَعُونَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ؛ كَقَوْلِ الْفُضَيْل ابْنِ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قَالَ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ فَقِيلَ: يَا أَبَا عَلِيٍّ مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ فَقَالَ: إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ. وَإِذَا كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا. وَالْخَالِصُ: أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ شَاهِينَ واللالكائي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَا يُقْبَلُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ إلَّا بِنِيَّةِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ إلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ. وَرَوَيَا عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مِثْلَهُ وَلَفْظُهُ: " لَا يَصْلُحُ " مَكَانَ يُقْبَلُ. وَهَذَا فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مُجَرَّدَ الْقَوْلِ كَافِيًا فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ إذْ الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٍ؛ لَا بُدَّ مِنْ هَذَيْنِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَبَيَّنَّا أَنَّ مُجَرَّدَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ
مَعَ الْبُغْضِ وَالِاسْتِكْبَارِ لَا يَكُونُ إيمَانًا - بِاتِّفَاقِ الْمُؤْمِنِينَ - حَتَّى يَقْتَرِنَ بِالتَّصْدِيقِ عَمَلٌ. وَأَصْلُ الْعَمَلِ عَمَلُ الْقَلْبِ وَهُوَ الْحُبُّ وَالتَّعْظِيمُ الْمُنَافِي لِلْبُغْضِ وَالِاسْتِكْبَارِ ثُمَّ قَالُوا: وَلَا يُقْبَلُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ إلَّا بِنِيَّةِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْقَوْلَ وَالْعَمَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَقْبَلْهُ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ قَالُوا: وَلَا يُقْبَلُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ إلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ؛ وَهِيَ الشَّرِيعَةُ وَهِيَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ وَالنِّيَّةَ الَّذِي لَا يَكُونُ مَسْنُونًا مَشْرُوعًا قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ: يَكُونُ بِدْعَةً لَيْسَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ فَلَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ؛ وَلَا يَصْلُحُ: مِثْلَ أَعْمَالِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَفْظُ " السُّنَّةِ " فِي كَلَامِ السَّلَفِ يَتَنَاوَلُ السُّنَّةَ فِي الْعِبَادَاتِ وَفِي الِاعْتِقَادَاتِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي السُّنَّةِ يَقْصِدُونَ الْكَلَامَ فِي الِاعْتِقَادَاتِ وَهَذَا كَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وأبي بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ. وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَصَلَوَاتُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
[ابن تيمية ,مجموع الفتاوى ,28/]
  • 1
  • 0
  • 20

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً