الفتوحات الربانية في تفسير الآيات القرآنية تفسير الآيتين (6-7) من سورة البقرة بسم الله، ...

منذ 2021-07-05
الفتوحات الربانية في تفسير الآيات القرآنية
تفسير الآيتين (6-7) من سورة البقرة


بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.



وبعد: فقد يسر الله تعالى نشر مقال في تفسير الآيات (1-5) من سورة البقرة، وقد احتوى ذلك المقال على عدد من المباحث المتعلقة بسورة البقرة، وبيان فضائلها وخصائصها.

الفتوحات الربانية في تفسير الآيات القرآنية: سورة البقرة الآيات (1-5)



أما المقال الحالي فهو يتحدث عن تفسير الآيتين (6-7) من سورة البقرة، ويتكون مما يلي:

♦ الآيتان (6-7) من سورة البقرة.

♦ معاني الكلمات وتفسير الآيتين (6-7) من سورة البقرة.

♦ وقفات تدبرية مع الآيتين (6-7) من سورة البقرة.

♦ المراجع.



وفيما يلي تفصيل المحتويات السابقة:

♦ الآيتان (6-7) من سورة البقرة:

قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [سورة البقرة 6-7].



♦ معاني الكلمات وتفسير الآيتين (6-7) من سورة البقرة [1].

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 6].



معاني الكلمات:

إِنَّ: حرف للتأْكيد، ونفي الإنكار والشك، تنصب الاسم وترفع الخبر، وتقع في ابتداء الكلام، مثل قوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [سورة هود 41]، وما في حكم ابتداء الكلام، مثل قوله تعالى: ﴿ أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [سورة يونس 62].



الَّذِينَ: اسم موصول.

كَفَرُوا: الكفر: ضد الإيمان، ويكون بالقول أو العمل أو الاعتقاد أو الترك[2].

سَوَاءٌ: لا فرق.

عَلَيْهِمْ: على: حرف جر؛ والهاء ضمير متّصل في محلّ جرّ بحرف الجرّ؛ والميم حرف للجمع.

أَأَنذَرْتَهُمْ: أخوَّفتهم وحذرتهم.

أَمْ: حرف عطف للتسوية.

لَمْ: حرف نفي.

تُنذِرْهُمْ: تخوِّفهم وتحذرهم.

لَا: حرف نفي.

يُؤْمِنُونَ: الإيمان: جميع الطاعات الباطنة والظاهرة[3]، وهو قول وعمل واعتقاد[4].



﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 6].

التفسير:

أي: إنَّ الذين كفروا، يتساوى في حقِّهم كِلا الأمرين، الإنذارُ وعدمه، فهم في كِلا الحالين لا يؤمنون بما جِئتَهم به- يا أيُّها الرسولُ- من الحقِّ[5]، والمقصود بهذه الآية فئة من الكفار لا يردعهم عن الكفر رادع، ولا ينجع فيهم وعظ[6] حتى يموتوا على الكفر؛ نسأل الله تعالى السلامة والعافية، وأن يثبتنا على الحق حتى نلقاه.



﴿ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ﴾ [البقرة: 7].

معاني الكلمات:

خَتَمَ: الختم: تغطية الشيء بإحكام حتى لا يدخُلَه شيء آخر.



الله: علم على الرب تبارك وتعالى المعبود بحق دون سواه، وهو أخص أسماء الله تعالى، ولا يسمى به غيره سبحانه؛ وهو اسم جامع يدل على جميع أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العلى، وأكثر أهل العلم على أنه اسم الله الأعظم[7].



عَلَى: حرف جر.

قُلُوبِهمْ: إدراك قلوبهم، وفهمها لما يصلحهم ويزكيهم.

وَعَلَى: الواو: حرف عطف؛ و(على): حرف جر.

سَمْعِهِمْ: إدراك سمعهم، وفهمهم لما يصلحهم ويزكيهم.

وَعَلَى: الواو: حرف عطف؛ و(على): حرف جر.

أَبْصَارِهِمْ: إدراك أبصارهم، وفهمهم لما يرون من الدلائل والبراهين والآيات.

غِشَاوَةٌ: غطاء.

وَلَهُمْ: الواو: حرف عطف؛ و(اللام): حرف جر؛ والهاء: ضمير متصل؛ والميم: للجمع.

عَذَابٌ: عقاب ونكال.

عظِيمٌ: شديد مؤلم موجع.



التفسير:

﴿ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ﴾ [البقرة: 7].

﴿ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ﴾

أي: طَبَع اللهُ عليها، فلا يَنتفعون بهُدى [7] مجازاة لكفرهم[8].



﴿ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾

أي: عليها غِطاء، فلا يُبصرون هُدًى[9].



﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ﴾

أي: لهم عذاب شديد مؤلم موجع في نار جهنم[10].



♦ وقفات تدبرية مع الآيتين (6-7) من سورة البقرة.



♦ أن تتابع الذنوب سبب الختم على القلب للأدلة التالية:

عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدَ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ" [أخرجه مسلم (144)] [11].



وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ، سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾" [أخرجه الترمذي (3334)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي].



وفي الحديثين السابقين يُخبر "صلى الله عليه وسلم أنّ الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الخَتْم من قبل الله عز وجلّ والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مَسْلك، ولا للكفر منها مَخْلَص، فذلك هو الطَّبع والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ﴾ [سورة البقرة 7]" [12].



♦ على المسلم أن يتفقَّدَ قلبَه؛ فهو محلُّ الوعي، ومَن لا يشعُر بالخوف عند الموعظة، ولا بالإقبال على الله تعالى، فإنَّ فيه شَبهًا من الكفَّار الذين لا يتَّعظون بالمواعظ، ولا يُؤمِنون عند الدَّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، كما قال سبحانه عنهم: ﴿ خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ﴾ [سورة البقرة 7] [13].



♦ في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ﴾ [سورة البقرة 6-7]، تسليةٌ للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ ولأتباعه المؤمنين حين يردُّهم الكفَّار، ولا يَقبلون دعوتَهم [14].



♦ عذاب النار عذابٌ عظيم شديد مؤلم، ولولا أنها حفت بالشهوات ما تجرأ أحد على عمل ما يكون سببا في دخولها؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ لِجِبْرِيلَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا. فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا. ثُمَّ حَفَّهَا بِالْمَكَارِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا. فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَلَّا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. قَالَ: فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ النَّارَ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا. فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلَهَا. فَحَفَّهَا بِالشَّهَوَاتِ، ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا. فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَلَّا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا" [أخرجه أبو داود (4744)، وقال عنه الألباني: حسن صحيح]، فعلينا الابتعاد عن الشَّهوات المحرمة؛ لأنَّها الطَّريق إلى النَّار، والصَّبرِ على الطاعات؛ لأنَّها الطَّريق إلى الجنَّة[15].



والله تعالى أعلم.



اللَّهُمَّ إنِّا نسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، اللَّهُمَّ إنِّا نسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، اللَّهُمَّ إنِّا نسْأَلُكَ الْجَنَّةَ؛ اللَّهُمَّ أَجِرْنَا مِنَ النَّارِ، اللَّهُمَّ أَجِرْنَا مِنَ النَّارِ، اللَّهُمَّ أَجِرْنَا مِنَ النَّارِ [16].



والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


[1] يُنظر: ((موقع قاموس ومعجم المعاني))، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (ص: 3).

[2] يُنظر: ((الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل، وكشف شبهات المعاصرين)) لمحمد آل خضير (1 /127).

[3] يُنظر: ((نواقض الإيمان الاعتقادية، وضوابط التكفير عند السلف)) لمحمد الوهيبي (1 /33).

[4] يُنظر: ((الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل، وكشف شبهات المعاصرين)) لمحمد آل خضير (1 /127).

[5] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1 /262-264)، ((تفسير ابن كثير)) (1 /173)، ((تفسير السعدي)) (ص: 41، 42)، ((التفسير المحرر)) للدرر السنية (تفسير الآيات 6-7 من سورة البقرة).

[6] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 41).

[7] يُنظر: ((اسم الله الأعظم في النصوص النبوية وأقوال أهل العلم)) بموقع الإسلام سؤال وجواب.
"طَبَع اللهُ عليها، فلا يَنتفعون بهُدى" يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/265-267)، ((تفسير ابن كثير)) (1/174-175)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/38)، ((التفسير المحرر)) للدرر السنية (تفسير الآيات 6-7 من سورة البقرة).

[8] قال القرطبيُّ رحمه الله تعالى: "الأمَّة مجمِعة على أنَّ الله تعالى قد وصف نفْسَه بالختم والطَّبع على قلوبِ الكافرين؛ مجازاةً لكفرهم، كما قال تعالى: ﴿ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ [النساء: 155] ((تفسير القرطبي)) (1/ 187).

[9] - يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1 /269-272)، ((تفسير ابن كثير)) (1 /175)، ((التفسير المحرر)) للدرر السنية (تفسير الآيات 6-7 من سورة البقرة).

[10] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 42)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1 /37)، ((التفسير المحرر)) للدرر السنية (تفسير الآيات 6-7 من سورة البقرة)، ((التفسير الميسر)) لمجمع المدينة لطباعة المصحف الشريف (ص: 3).

[11] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1 /260-261).

[12] هذا حديث مهم في باب دفع الفتن، والحفاظ على سلامة القلب من الأمراض والعلل، "قسَّم فيه النبي صلى الله عليه وسلم القلوب عند عرض فتن الشبهات والشهوات عليها إلى قسمين:

1- قلب أبيض، قد أشرق فيه نور الإيمان، وأزهر فيه مصباحه، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وكرهَها، فازداد نوره وإشراقه وقوَّته، حتى يصير "أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ"، وهذا هو قلب المؤمن العامر بحبِّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه كالصفا أي: كالحجر الأملس في صلابته وتماسُكه وصفائه ونقاوته وعدم علوق شيءٍ به، فلا تضرُّه فتنةٌ، ولا تستهويه معصيةٌ، ولا يرضى بديلًا عمَّا ظفر به من حلاوة الإيمان في قلبه؛ فاللهم اجعلنا جميعا من أصحاب هذه القلوب السليمة البيضاء النقية.

2- قلب إذا عُرضت عليه فتنة أُشْرِبها، كما يشرب السِّفِنْج الماء، فتُنكَت فيه نكتة سوداء، فلا يزال يُشرب كل فتنة تعرض عليه، حتى يكون مُرْبَادًّا، وهو بياضٌ قليل مع سواد كثير، فإذا انساق العبد أكثرَ فأكثر وراء أهوائه، اختفى أثرُ البياض، واسودَّ القلب وأظلم، وهناك وصفٌ آخر لهذا القلب، وهو الكوز المُجَخِّي، أي: الإناء المائل المنكوس، وهذا الميل كان في بدايته قليلًا بحسَب ما تسرَّب إليه من الفتن، ثمَّ ازداد ميلًا حتى انقلب وانتكس، ولا يخفى أنَّ الإناء كلَّما مال عن استقامته انسكب منه ما كان فيه بمقدار الميل، حتى إذا انتكس انسكب كلُّ ما فيه، ولم يَعُدْ قابلًا لأنْ يمتلئ بشيءٍ على الإطلاق حتى يعود إلى عدالته، فما فائدة الكأس إذا انسكب منه الماء الزلال ولم يبق فيه إلَّا الهواء؟ وهنا تتجلَّى البلاغة النبوية في صورة بهية، بحيث تترسَّخ في النفس صورة الكأس المقلوب الذي لا يُنتفع منه بشيءٍ، فهو كالعدم وإن كان موجودًا، والهواء الذي فيه كالهوى المستقرِّ في القلب المنكوس الذي لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلَّا ما أُشرب من هواه، وهذا شرُّ القلوب وأخبثُها، فإنه يشتبه عليه الخير والشر، ويرى المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والحق باطلًا والباطل حقًّا" [يُنظر: ((إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان) لابن القيم، (ص: 15-16)، ((منهاج الإسلام في تزكية النفس)) لأنس كرزون (2/ 523)].

[13] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1 /38)، ((التفسير المحرر)) للدرر السنية (تفسير الآيات 6-7 من سورة البقرة).

[14] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1 /38)، ((التفسير المحرر)) للدرر السنية (تفسير الآيات 6-7 من سورة البقرة).

[15] يُنظر: ((شرح حديث: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ لِجِبْرِيلَ:...")) بالموسوعة الحديثية للدرر السنية.

[16] عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَتِ الْجَنَّةُ: اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ. وَمَنِ اسْتَجَارَ مِنَ النَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَتِ النَّارُ: اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنَ النَّارِ" [أخرجه الترمذي (2572)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي].
  • 0
  • 0
  • 73

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً