...- زهديات لاحبابها . . . . . . . . وَشَوَّقَتْ بِسُرُورِهَا إِلَى السُّرُورِ، ...

منذ 2021-08-02
...-
زهديات لاحبابها
.
.
.
.
.
.
.
.
وَشَوَّقَتْ بِسُرُورِهَا إِلَى السُّرُورِ، فَذَمَّهَا قَوْمٌ عِنْدَ النَّدَامَةِ، وَحَمِدَهَا آخَرُونَ، حَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا، وَذَكَّرَتْهُمْ فَذُكِّرُوا؟ فَيَا أَيُّهَا الْمُغْتَرُّ بِالدُّنْيَا، الْمُغْتَرُّ بِغُرُورِهَا، مَتَى اسْتَلَامَتْ إِلَيْكَ الدُّنْيَا؟ بَلْ مَتَى غَرَّتْكَ؟ أَبِمَضَاجِعِ آبَائِكَ مِنَ الثَّرَى؟ أَمْ بِمَصَارِعِ أُمَّهَاتِكَ مِنَ الْبِلَى؟ كَمْ قَدْ قَلَّبْتَ بِكَفَّيْكَ، وَمَرَّضْتَ بِيَدَيْكَ تَطْلُبُ لَهُ الشِّفَاءَ، وَتَسْأَلُ لَهُ الْأَطِبَّاءَ، فَلَمْ تَظْفَرْ بِحَاجَتِكَ، وَلَمْ تُسْعَفْ بِطَلِبَتِكَ، قَدْ مَثَّلَتْ لَكَ الدُّنْيَا بِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَكَ غَدًا، وَلَا يُغْنِي عَنْكَ بُكَاؤُكَ، وَلَا يَنْفَعُكَ أَحِبَّاؤُكَ.
فَبَيَّنَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الدُّنْيَا لَا تُذَمُّ مُطْلَقًا، وَأَنَّهَا تُحْمَدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، وَأَنَّ فِيهَا مَسَاجِدَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَهْبِطَ الْوَحْيِ، وَهِيَ دَارُ التِّجَارَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، اكْتَسَبُوا مِنْهَا الرَّحْمَةَ، وَرَبِحُوا بِهَا الْجَنَّةَ، فَهِيَ نِعْمَ الدَّارُ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهَا تَغُرُّ وَتَخْدَعُ، فَإِنَّهَا تُنَادِي بِمَوَاعِظِهَا، وَتَنْصَحَ بِعِبَرِهَا، وَتُبْدِي عُيُوبَهَا بِمَا تُرِي أَهْلَهَا مِنْ مُصَارِعِ الْهَلْكَى، وَتَقَلُّبِ الْأَحْوَالِ مِنَ الصِّحَّةِ إِلَى السَّقَمِ، وَمِنَ الشَّبِيبَةِ إِلَى الْهَرَمِ، وَمِنَ الْغِنَى إِلَى الْفَقْرِ، وَمِنَ الْعِزِّ إِلَى الذُّلِّ، وَلَكِنَّ مُحِبَّهَا قَدْ أَصَمَّهُ وَأَعْمَاهُ حُبُّهَا، فَهُوَ لَا يَسْمَعُ نِدَاءَهَا، كَمَا قِيلَ:
قَدْ نَادَتِ الدُّنْيَا عَلَى نَفْسِهَا ... لَوْ كَانَ فِي الْعَالَمِ مَنْ يَسْمَعُ
كَمْ وَاثِقٍ بِالْعُمْرِ أَفْنَيْتُهُ ... وَجَامِعٍ بَدَّدْتُ مَا يَجْمَعُ
* وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: لَوْ يَسْمَعُ الْخَلَائِقَ صَوْتَ النِّيَاحَةِ عَلَى الدُّنْيَا فِي الْغَيْبِ مِنْ أَلْسِنَةِ الْفَنَاءِ، لَتَسَاقَطَتِ الْقُلُوبُ مِنْهُمْ حُزْنًا.
* وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الدُّنْيَا أَمْثَالٌ تَضْرِبُهَا الْأَيَّامُ لِلْأَنَامِ، وَعِلْمُ الزَّمَانِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تُرْجُمَانِ، وَبِحُبِّ الدُّنْيَا صُمَّتْ أَسْمَاعُ الْقُلُوبِ عَنِ الْمَوَاعِظِ، وَمَا أَحَثَّ السَّائِقَ لَوْ شَعَرَ الْخَلَائِقُ.
وَأَهْلُ الزُّهْدِ فِي فُضُولِ الدُّنْيَا أَقْسَامٌ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ، فَيُمْسِكُهُ
.
وَدَخَلُوا عَلَى بَعْضِ الصَّالِحِينَ، فَقَلَّبُوا بَصَرَهُمْ فِي بَيْتِهِ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا نَرَى بَيْتَكَ بَيْتَ رَجُلٍ مُرْتَحِلٍ، فَقَالَ: أَمُرْتَحِلٌ؟ لَا أَرْتَحِلُ وَلَكِنْ أُطْرَدُ طَرْدًا.
* وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: إِنَّ الدُّنْيَا قَدِ ارْتَحَلَتْ مُدْبِرَةً، وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدِ ارْتَحَلَتْ مُقْبِلَةً، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا بِنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلَ.
*قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: عَجِبْتُ مِمَّنِ الدُّنْيَا مُوَلِّيَةٌ عَنْهُ، وَالْآخِرَةُ مُقْبِلَةٌ إِلَيْهِ يَشْغَلُ بِالْمُدْبِرَةِ، وَيُعْرِضُ عَنِ الْمُقْبِلَةِ.
*وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ قَرَارِكُمْ، كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْفَنَاءَ، وَكَتَبَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِهَا مِنْهَا الظَّعْنَ، فَكَمْ مِنْ عَامِرٍ مُوثَقٍ عَنْ قَلِيلٍ يَخْرَبُ، وَكَمْ مِنْ مُقِيمٍ مُغْتَبَطٍ عَمَّا قَلِيلٍ يَظْعَنُ، فَأَحْسِنُوا - رَحِمَكُمُ اللَّهُ - مِنْهَا الرِّحْلَةَ بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ النُّقْلَةِ، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى. وَإِذَا لَمْ تَكُنِ الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِ دَارَ إِقَامَةٍ، وَلَا وَطَنًا، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ حَالُهُ فِيهَا عَلَى أَحَدِ حَالَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَأَنَّهُ غَرِيبٌ مُقِيمٌ فِي بَلَدِ غُرْبَةٍ، هَمُّهُ التَّزَوُّدُ لِلرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِهِ، أَوْ يَكُونَ كَأَنَّهُ مُسَافِرٌ غَيْرُ مُقِيمٍ الْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ لَيْلُهُ وَنَهَارُهُ، يَسِيرُ إِلَى بَلَدِ الْإِقَامَةِ، فَلِهَذَا وَصَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ عُمَرَ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ. فَأَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْرُكَ الْمُؤْمِنُ نَفْسَهُ كَأَنَّهُ غَرِيبٌ فِي الدُّنْيَا يَتَخَيَّلُ الْإِقَامَةَ، لَكِنْ فِي بَلَدِ غُرْبَةٍ، فَهُوَ غَيْرُ مُتَعَلِّقِ الْقَلْبِ بِبَلَدِ الْغُرْبَةِ، بَلْ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِوَطَنِهِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُقِيمٌ فِي الدُّنْيَا لِيَقْضِيَ مَرَمَّةَ جِهَازِهِ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِهِ.
* قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا مَهْمُومٌ حَزِينٌ، هَمُّهُ مَرَمَّةُ جِهَازِهِ. وَمَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ، فَلَا هَمَّ لَهُ إِلَّا فِي التَّزَوُّدِ بِمَا يَنْفَعُهُ عِنْدَ عَوْدِهِ إِلَى
.
أَنْ يَكُونَ بَلَاغُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ.
* قِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ قَالَ: مَا ظَنُّكَ بِرَجُلٍ يَرْتَحِلُ كُلَّ يَوْمِ مَرْحَلَةٍ إِلَى الْآخِرَةِ؟ .
* وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا أَنْتِ أَيَّامٌ مَجْمُوعَةٌ، كُلَّمَا مَضَى يَوْمٌ مَضَى بَعْضُكِ.
* وَقَالَ: ابْنَ آدَمَ إِنَّمَا أَنْتَ بَيْنَ مَطِيَّتَيْنِ يُوضِعَانِكَ، يُوضِعُكَ النَّهَارُ إِلَى اللَّيْلِ، وَاللَّيْلُ إِلَى النَّهَارِ، حَتَّى يُسْلِمَانِكَ إِلَى الْآخِرَةِ، فَمَنْ أَعْظَمُ مِنْكَ يَابْنَ آدَمَ خَطَرًا.
* وَقَالَ: الْمَوْتُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيكُمْ وَالدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ وَرَائِكُمْ.
* قَالَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ: إِنَّمَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مَرَاحِلُ يَنْزِلُهَا النَّاسُ مَرْحَلَةً مَرْحَلَةً حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ بِهِمْ إِلَى آخِرِ سَفَرِهِمْ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُقَدِّمَ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ زَادًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا، فَافْعَلْ، فَإِنَّ انْقِطَاعَ السَّفَرِ عَنْ قَرِيبٍ مَا هُوَ، وَالْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَتَزَوَّدْ لِسَفَرِكَ، وَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ مِنْ أَمْرِكَ، فَكَأَنَّكَ بِالْأَمْرِ قَدْ بَغَتُّكَ.
* وَكَتَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَخٍ لَهُ: يَا أَخِي يُخَيَّلُ لَكَ أَنَّكَ مُقِيمٌ، بَلْ أَنْتَ دَائِبُ السَّيْرِ، تُسَاقُ مَعَ ذَلِكَ سَوْقًا حَثِيثًا، الْمَوْتُ مَوَجَّهٌ إِلَيْكَ، وَالدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ وَرَائِكَ، وَمَا مَضَى مِنْ عُمْرِكَ، فَلَيْسَ بِكَارٍّ عَلَيْكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ.
سَبِيلُكَ فِي الدُّنْيَا سَبِيلُ مُسَافِرٍ ... وَلَا بُدَّ مِنْ زَادٍ لِكُلِّ مُسَافِرِ
وَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ حَمْلِ عُدَّةٍ ... وَلَا سِيَّمَا إِنْ خَافَ صَوْلَةَ قَاهِرِ
* قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: كَيْفَ يَفْرَحُ بِالدُّنْيَا مَنْ يَوْمُهُ يَهْدِمُ شَهْرَهُ، وَشَهْرُهُ يَهْدِمُ
.
سَنَتَهُ، وَسَنَتُهُ تَهْدِمُ عُمْرَهُ، كَيْفَ يَفْرَحُ مَنْ يَقُودُهُ عُمْرُهُ إِلَى أَجْلِهِ، وَتَقُودُهُ حَيَاتُهُ إِلَى مَوْتِهِ. *وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ لِرَجُلٍ: كَمْ أَتَتْ عَلَيْكَ؟ قَالَ: سِتُّونَ سَنَةً، قَالَ: فَأَنْتَ مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً تَسِيرُ إِلَى رَبِّكَ يُوشِكُ أَنْ تَبْلُغَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَقَالَ الْفُضَيْلُ: أَتَعْرِفُ تَفْسِيرَهُ تَقُولُ: أَنَا لِلَّهِ عَبْدٌ وَإِلَيْهِ رَاجِعٌ، فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لِلَّهِ عَبْدٌ، وَأَنَّهُ إِلَيْهِ رَاجِعٌ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَمِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مَسْئُولٌ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَسْئُولٌ، فَلْيُعِدَّ لِلسُّؤَالِ جَوَابًا، فَقَالَ الرَّجُلُ: فَمَا الْحِيلَةُ؟ قَالَ يَسِيرَةٌ، قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: تُحْسِنُ فِيمَا بَقِيَ يُغْفَرُ لَكَ مَا مَضَى، فَإِنَّكَ إِنْ أَسَأْتَ فِيمَا بَقِيَ، أُخِذْتَ بِمَا مَضَى وَبِمَا بَقِيَ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى يَقُولُ بَعْضُهُمْ:
وَإِنَّ امْرَأً قَدْ سَارَ سِتِّينَ حِجَّةٍ ... إِلَى مَنْهَلٍ مِنْ وَرْدِهِ لِقَرِيبُ
* قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ كَانَتِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ مَطَايَاهُ، سَارَتْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَسِرْ، وَفِي هَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
وَمَا هَذِهِ الْأَيَّامُ إِلَّا مَرَاحِلُ ... يَحُثُّ بِهَا دَاعٍ إِلَى الْمَوْتِ قَاصِدُ
وَأَعْجَبُ شَيْءٍ - لَوْ تَأَمَّلْتَ - أَنَّهَا ... مَنَازِلُ تُطْوَى وَالْمُسَافِرُ قَاعِدُ
* وَقَالَ آخَرُ:
أَيَا وَيْحَ نَفْسِي مِنْ نَهَارٍ يَقُودُهَا ... إِلَى عَسْكَرِ الْمَوْتَى وَلَيْلٍ يَذُودُهَا
* قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَزَلِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ سَرِيعَيْنِ فِي نَقْصِ الْأَعْمَارِ، وَتَقْرِيبِ الْآجَالِ، هَيْهَاتَ قَدْ صَحِبَا نُوحًا وَعَادًا وَثَمُودًا وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا، فَأَصْبَحُوا أَقْدَمُوا عَلَى رَبِّهِمْ، وَوَرَدُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَأَصْبَحَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ غَضَّيْنِ جَدِيدَيْنِ، لَمْ يُبْلِهِمَا مَا مَرَّا بِهِ، مُسْتَعِدَّيْنِ لِمَنْ بَقِيَ بِمِثْلِ مَا أَصَابَا بِهِ مَنْ مَضَى.
.
* قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ قَالَ: التَّوَكُّلُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: أَوَّلُهَا: تَرْكُ الشِّكَايَةِ، وَالثَّانِيَةُ: الرِّضَا، وَالثَّالِثَةُ: الْمَحَبَّةُ، فَتَرْكُ الشِّكَايَةِ دَرَجَةُ الصَّبْرِ، وَالرِّضَا سُكُونُ الْقَلْبِ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ، وَهِيَ أَرْفَعُ مِنَ الْأُولَى، وَالْمَحَبَّةُ أَنْ يَكُونَ حُبُّهُ لِمَا يَصْنَعُ اللَّهُ بِهِ، فَالْأُولَى لِلزَّاهِدِينَ، وَالثَّانِيَةُ لِلصَّادِقِينَ، وَالثَّالِثَةُ لِلْمُرْسَلِينَ. انْتَهَى.
فَالْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ إِنْ صَبَرَ عَلَى مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الرِّزْقِ أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ صَابِرٌ، وَإِنْ رَضِيَ بِمَا يُقَدَّرُ لَهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَهُوَ الرَّاضِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ اخْتِيَارٌ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا رِضًا إِلَّا فِيمَا يُقَدَّرُ لَهُ، فَهُوَ دَرَجَةٌ الْمُحِبِّينَ الْعَارِفِينَ، كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يَقُولُ أَصْبَحْتُ وَمَا لِي سُرُورٌ إِلَّا فِي مَوَاضِعِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ.
1-732-
* قال يحيى بنُ معاذ: لو يسمع الخلائقُ صوتَ النِّياحةِ على الدُّنيا في الغيبِ من ألسنةِ الفناءِ، لتساقطت القلوبُ منهم حُزناً .
* وقال بعضُ الحكماء: الدُّنيا أمثالٌ تضرِبُها الأيَّامُ للأنام، وعلمُ الزَّمان لا يحتاجُ إلى تَرجُمان، وبحبِّ الدُّنيا صُمَّتْ أسماعُ القلوب عنِ المواعظ، وما أحثَّ السائقَ لو شعرَ الخلائقُ.
وأهل الزُّهد في فضول الدُّنيا أقسام: فمنهم من يحصلُ له، فيمسكه ويتقرَّبُ به إلى الله، كما كان كثيرٌ مِنَ الصَّحابة وغيرهم.
* قال أبو سليمان: كان عثمان وعبد الرحمان بن عوف خازنين من خزان الله في أرضه، يُنفقان في طاعته، وكانت معاملتُهما لله بقلوبِهما (2) .
ومنهم من يُخرجه مِنْ يده، ولا يُمسكه، وهؤلاء نوعان: منهم من يُخرجه اختياراً وطواعية، ومنهم من يُخرجهُ ونفسه تأبى إخراجه، ولكن يُجاهدُها على ذلك. وقد اختُلف في أيِّهما أفضل، فقال ابنُ السَّماك والجنيد: الأوَّل أفضلُ، لتحقُّق نفسه بمقامِ السَّخاءِ والزُّهد، وقال ابن عطاء: الثَّاني أفضل؛ لأنَّ له عملاً ومجاهدة. وفي كلام الإمام أحمد ما يدلُّ عليه أيضاً.
ومنهم من لم يحصُل له شيءٌ مِنَ الفُضولِ، وهو زاهدٌ في تحصيله، إمَّا مع قدرته، أو بدونها، والأوَّل أفضلُ مِنْ هذا، ولهذا قال كثيرٌ مِنَ السَّلفِ: إنَّ عمرَ ابن عبد العزيز كان أزهدَ مِنْ أويس ونحوه، كذا قال أبو سليمان (3) وغيرُه.
* وكان مالكُ بنُ دينار يقولُ: الناسُ يقولون: مالكٌ زاهدٌ، إنَّما الزَّاهدُ عمر ابن
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 10/56.
(2) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 9/262.
(3) أخرجه: أبو نعيم في " الحلية " 9/272.
1-733-
كمثل راكبٍ قالَ (1) في ظلِّ شجرةٍ ثم راحَ وتركها)) (2) .
* ومن وصايا المسيح - عليه السلام - لأصحابه أنَّه قال لهم: اعبُروها ولا تَعمُرُوها (3) ،
* ورُوي عنه أنَّه قال: من ذا الذي يبني على موجِ البحر داراً، تلكُمُ الدُّنيا، فلا تتَّخذوها قراراً (4) .
* ودخل رجلٌ على أبي ذرٍّ، فجعل يُقلِّب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذرٍّ، أين متاعُكم؟ قالَ: إنَّ لنا بيتاً نوجه إليه، قالَ: إنَّه لابدَّ لك من مَتاع مادمت هاهنا، قالَ: إنَّ صاحب المنْزل لا يدعُنا فيه (5) .
ودخلوا على بعض الصالحين، فقلبوا بصرهم في بيته، فقالوا له: إنَّا نرى بيتَك بيتَ رجلٍ مرتحلٍ، فقال: أمرتحلٌ؟ لا، ولكن أُطْرَدُ طرداً.
* وكان عليُّ بنُ أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: إنَّ الدُّنيا قدِ ارتحلت مدبرةً، وإنَّ الآخرة قدِ ارتحلت مقبلةً، ولكُلٍّ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنَّ اليومَ عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل (6) .
* قال بعضُ الحكماء: عجبتُ ممَّنِ الدُّنيا موليةٌ عنه، والآخرة مقبلةٌ إليه يشغتلُ بالمدبرة، ويُعرِض عن المقبلة (7) .
وقال عُمرُ بنُ عبد العزيز في خطبته: إنَّ الدُّنيا ليست بدارِ قرارِكُم، كتب الله
_________
(1) قال: من القيلولة، وهي الاستراحة نصف النهار، وإنْ لم يكن معها، يقال: قال يقيل قيلولة فهو قائل.
(2) أخرجه: الطيالسي (277) ، وأحمد 1/391 و441، وابن ماجه (4109) ، والترمذي (2377) من حديث ابن مسعود، وهو حديث صحيح.
(3) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 8/145 عن وهيب المكي قال: ((بلغني أنَّ عيسى - عليه السلام -، ... )) فذكره.
(4) أخرجه: أحمد في " الزهد " (325) عن مكحول، قال: ((وقال عيسى، ... )) فذكره.
(5) أخرجه: البيهقي في " شعب الإيمان " (10651) .
(6) أخرجه: ابن المبارك في " الزهد " (255) ، وابن أبي شيبة (34495) .
(7) أخرجه: البيهقي في " الزهد الكبير " (504) ، ولم ينسبه.
.
حتى يَكُرَّ عليك يوم التغابن.
سبيلُكَ في الدُّنيا سبِيلُ مُسافرٍ ... ولابُدَّ من زادٍ لكلِّ مسافِر
ولابدَّ للإنسان من حملِ عُدَّةٍ ... ولاسيما إنْ خافَ صولَة قاهِر
* قال بعضُ الحكماء: كيف يفرحُ بالدنيا من يومُه يَهدِمُ شهرَه، وشهرُه يهدِمُ سنَتَه، وسنته تَهدِمُ عُمُرَه، وكيف يفرح من يقوده عمرُه إلى أجله، وتقودُه حياتُه إلى موته.
* وقال الفضيلُ بنُ عياض لرجلٍ: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال فأنت منذ ستين سنة تسيرُ إلى ربِّك يُوشِكُ أنْ تَبلُغَ، فقال الرجل: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فقال الفضيلُ: أتعرف تفسيرَه تقول: أنا لله عبد وإليه راجع، فمن عَلِمَ أنَّه لله عبد، وأنَّه إليه راجع، فليعلم أنَّه موقوفٌ، ومن علم أنَّه موقوف، فليعلم أنَّه مسؤول، ومن عَلِمَ أنَّه مسؤولٌ، فليُعِدَّ للسؤال جواباً، فقال الرجل: فما الحيلةُ؟ قال: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تُحسِنُ فيما بقي يُغفَرُ لك ما مضى فإنّك إنْ أسأتَ فيما بقي، أُخِذْتَ بما مضى وبما بقي (1) ، وفي هذا يقول بعضُهم:
وإنَّ امرءاً قد سارَ سِتِّينَ حِجَّةٍ ... إلى مَنهَلٍ من وِرده لقَريبُ
* قال بعضُ الحكماء: من كانت الليالي والأيام مطاياه، سارت به وإنْ لم
يسر (2) ، وفي هذا قال بعضهم:
وما هذه الأيامُ إلاَّ مراحِلُ ... يحثُّ بها داعٍ إلى الموتِ قاصدُ
وأعجَبُ شَيءٍ - لو تأمَّلت - أنَّها ... مَنازِلُ تُطوى والمُسافِرُ قَاعِدُ (3)
_________
(1) أخرجه: أبو نعيم في " حلية الأولياء " 3/113.
(2) بنحوه أخرجه: أبو بكر الدينوري في " المجالسة " (1029) عن الحسن.

60db7cc5b3763

  • 0
  • 0
  • 12

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً