على عتبات شهر رمضان المبارك... نتأمَّل الحمد لله فرض علينا صيام <a ...

منذ 2022-02-26
على عتبات شهر رمضان المبارك... نتأمَّل
الحمد لله فرض علينا صيام ‌شهر رمضان، وأكرمنا فيه بنزول القرآن، وجعله موسما للطاعة والبر والإحسان، وبابا واسعا يلجه طلاب الجنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يغفر ذنوب من صدق من التائبين، ويرفع درجة المخلص من الصائمين، سبحانه فرض الصيام لتحقيق التقوى، وتطهير النفوس من آثار المعاصي والبلوى، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، خير من صام وصلى، وأصدق من تضرع ودعا، -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله سبحانه، إذ بها يحصل القرب من الباري جل شأنه، ويثقل الميزان، ويعلو القدر ويعظم الجاه والشأن، ((فاتقوا الله يا اولي الالباب لعلكم تفلحون))، واعلموا -رحمكم الله- أن الله سبحانه وتعالى جعل من الأزمان مواسم للطاعات، واصطفى فيها أياما وليالي وساعات، وأودعها صنوفا من الفضائل والنفحات، فضلا منه وإحسانا، وكرما على عباده وامتنانا، ألا وإن من أعظم هذه المواسم شهر رمضان بأيامه ولياليه العظام، شهر الصيام والقيام، شهر الطمأنينة والراحة النفسية، شهر محاسبة النفس وإيقاظ الضمير، والعطف على اليتيم والمسكين والفقير، فيه تتخلص النفوس من النزعات الذاتية، وتسيطر الإرادة على شهوات النفس الإنسانية، إنه فرصة كل تائب، وعبرة كل آيب، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))، ولو لم يكن من فضل الله علينا في رمضان، غير تشريفنا بإنزال القرآن، لكان كافيا لتقديره وإدراك ما له من العظمة والشأن، قال تعالى: ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان))، وقال تعالى: ((قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم))، فيا لها من نعمة ما أعظمها، ومنة ما أجلها وأكملها، لذا فلا غرو أن تستقبل الأمة هذا الزائر المحبوب بفرح غامر، وسرور ظاهر، وبهجة بك يا رمضان، إن يوم إقبالك لهو يوم تتفتح له قلوبنا وصدورنا، فنستقبلك بملء النفس غبطة واستبشارا وأملا، فأنت تصلح السلوك قولا وعملا، فكم تاقت لك أرواح أهل الإيمان، وهفت لاستقبال بشراك الآذان، وهمت سحائبك الندية هتانة بالرحمة والغفران، في رحابك تورق الأيادي وتفيض النفوس برا وإحسانا، وتنتعش الأرواح إخلاصا وإيمانا، وما هي إلا أيام قليلة ويهل بالبشر هلالك، وتعمر بالطاعة لياليك وأيامك، نسأل الله تعالى أن يبارك في قدومها وورودها، وأن يجعل لنا وللمسلمين الحظ الأوفر من يمنها وسعودها، اللهم نسألك بلطفك العظيم، وبإحسانك الواسع العميم، بلوغ شهر رمضان الكريم، ونسألك فيه التمام والقبول والرضوان والتكريم.

أيها المسلمون: بلوغ شهر رمضان نعمة كبرى، ومنزلة عالية جلى، يقدرها حق قدرها الصالحون، ويؤدي واجبها أصحاب الهمم المشمرون، وإن من شكر هذه النعمة جميل استشعارها، ومن أداء الواجب لهذه الفرصة حسن استغلالها، إن العمل الجاد لا يكون على تمامه، ولا يقوم به صاحبه على كماله، إلا حين يتهيأ له تمام التهيؤ، فيستثير همة النفس إلى الطاعات، ويقسم في ضروب الخير الأيام والليالي والساعات، مستغلا على أكمل وجه أبرك الأوقات، وإذا كان المرء عدو ما جهل، فإن من واجب المسلم لتحقيق غاية هذه العبادة في أكمل صورها، إدراك معنى الصيام والمقاصد التي شرع من أجلها، فالصيام شرع لتربية النفس على الفضائل، وكبح جماحها عن الرذائل، فيه صبر على حمأة الظمأ ومرارة الجوع، ومجاهدة النفس في زجر الهوى، وتذكير بحال المساكين والمقترين، يستوي في الصيام المعدم والموسر، فكلهم صائم لربه، مستغفر لذنبه، يمسكون عن الطعام في زمن واحد، ويفطرون في آن واحد، يتساوون طيلة نهارهم بالجوع والظمأ، ليتحقق قول الله في الجميع: ((إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ))، هذا وإن مما يقدر عليه كل صائم، ويستطيعه كل ذاكر وقائم، التوبة والاستغفار، والندم على ما فرط في جنب الكريم الغفار، والصوم طاعة من الطاعات، لا تقبل إلا من المخبتين التائبين التقاة، قال تعالى حاثا عباده على التوبة: ((يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير))، والأيام صحائف الأعمار، والسعيد من يخلدها بأحسن الأعمال، وراحة النفس في قلة الآثام، ومن عرف ربه اشتغل بطاعته عن هوى نفسه، وفي هذا الشهر المبارك يكثر المسلم من العبادات، ويوسع على الآخرين ببذل المعروف وتفريج الكربات، فإن استطعت -يا رعاك الله- ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل، ففي كل ليلة يفتح باب الإجابة من السماء، وفي كل ليلة لله من النار عتقاء، فاظفر بذلك لئلا يكون حظك من الصيام الجوع والظمأ، وخزائن الوهاب ملأى، فسل من جود الكريم، واطلب رحمة الرحيم، فهذا شهر الإجابة، وموسم الرجوع والإنابة، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء.

أيها المسلمون: ما أجمل ذلك الأب الذي استعد لرمضان مع أسرته ببرنامج حافل بالطاعة، يستغل أجواءه الإيمانية لتهذيبهم قدر الاستطاعة، ينوع لهم فيه النافع من البرامج، ليستقيموا بها على أقوم المناهج، ينتقلون فيها بين صلاة وصيام، وذكر ودعاء وقيام، وزيارة للأقارب والأرحام، دون أن يكون نشاط منها على حساب الآخر، بل كل شيء في وقته المعلوم، وإذا كان شهر رمضان المبارك هو شهر القرآن، شهر النور الذي لا تنطفئ مصابيحه، والذكر الذي لا يسأم منه بكثرة تردده، والجليس الذي لا يمله الأتقياء، والغذاء الذي لا يشبع منه العلماء، فما أشرق بيتا يضيء أيامه ولياليه بحلقة قرآنية، يتربى فيها أفراد الأسرة على آدابه الربانية، لينشؤوا نشأة صالحة إيمانية؛ عملا بقول الحبيب المصطفى، والرسول المجتبى -صلى الله عليه وسلم- : ((علموا أولادكم القرآن؛ فإنه أول ما ينبغي أن يتعلم من علم الله هو))، إن القرآن هو الدواء والشفاء، للمؤمنين البررة الأتقياء، قال تعالى: ((قل هو للذين ءامنوا هدى وشفاء))، يهتدي به من أدام تلاوته بالليل والنهار، والرحمة تغشى أسرة قامت به في دجى الأسحار.

أيها المؤمنون: إن من الخطأ الواضح أن يكون المرء الذي لا يملك إلا كفافا من المال، لا يحسن ترشيد مصروفاته ونفقاته، فإذا أقبل رمضان كلف ميزانيته فوق طاقتها، أو ركب لذلك الديون متجاهلا سوء عاقبتها، ثم يأتيه العيد سالكا هذا المنهج، وسائرا في إنفاقه بهذا الأسلوب الأعوج، فأين هو في شهر القرآن، من قول الواحد الديان: ((ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا))؟، وفي مقابل هذا الخطأ خطأ آخر؛ فمن الناس من بسط الله له في الرزق، ولكنه نسي بإسرافه ما وجب في ماله من حق، متجاهلا المحتاجين من الخلق، فأين هو في شهر الإحسان، مما أمر الله به في محكم القرآن حين قال سبحانه وتعالى: ((وآتوهم من مال الله الذي آتاكم))؟، فالمال مال الله، والخلق عبيده وعياله، ومن واساهم ناله خيره ونواله، قال تعالى: ((آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير))، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضاعف إنفاقه في رمضان، ويكثر من الجود والإحسان، بالرغم من أنه كان أجود بالخير من الريح المرسلة، لا يرد محتاجا ولا ذا مسألة، فعن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: ((كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود ما يكون في رمضان))، وإذا كان الإنفاق على المحتاجين من أجل الطاعات، فإن الإسراف من أخطر الموبقات، إنه يحرم صاحبه محبة الله، ويبعده عن رحمته ورضاه، قال تعالى: ((يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين))، إن الإسراف مخالفة صريحة لتعاليم الدين، وأوامر رب العالمين، لذا كان فاعله من إخوان الشياطين، قال سبحانه وتعالى: ((وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا)).

فاتقوا الله -عباد الله-، واستقبلوا رمضان بالإكثار من الطاعات وفق منهج مثمر خلاق، واجعلوه فرصة للتحلي بمكارم الأخلاق، واحرصوا فيه على ترشيد الإنفاق، تتجنبوا بذلك الفقر والإملاق.

إن المتأمل في حكم الصوم وفوائده، ومقاصده وعوائده، يجد أن للتكافل الاجتماعي مكانا بارزا فيها، ومحلا عاليا منها، فرمضان في تأريخ الأمة وفلسفتها شهر الجود والإنفاق، شهر الرحمة والإحسان، شهر النفوس الكريمة السخية، والأكف الباذلة الندية، فليكن لكم فيه -إخوة الإيمان- السهم الرابح، ومن حسناته الميزان الوافر الراجح، قولوا لدعاة التكافل: مرحبا وأهلا وسهلا، ولا يترددن أحدكم في مساعدة المعوزين واليتامى، ومن ذا الذي يبخل على نفسه بثواب يحصل له بلا عناء، إذ يكتب الأجر العظيم لمن فطر صائما ولو على شربة ماء، فعن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب في آخر يوم من شعبان فقال: ((يا أيها الناس: قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيام نهاره فريضة وقيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن، من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتقا لرقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء))، قالوا: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم عليه، فقال -صلى الله عليه وسلم- : ((يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على تمرة، أو على شربة ماء، أو مذقة لبن، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، واستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، وأما اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الجنة وتعوذون من النار، ومن سقى صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة))، وبعد أن سمعتم هذا الحديث النبوي الشريف: أليس هذا الشهر حريا بأن يتنافس فيه المتنافسون؟ وجديرا بأن يتسابق لأجله المتسابقون؟!.

ألا فاتقوا الله -عباد الله-، واجعلوا من رمضان منطلقا لتكافلكم، وبداية صادقة لتعاونكم وتآزركم، تسعد بذلك مجتمعاتكم، وتصلح أحوالكم، ويبارك الله في أرزاقكم وأعماركم.

هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين، وقائد الغر المحجلين، فقد أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في محكم كتابه حيث قال عز قائلا عليما: (( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما )).

اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

6162a40e66a69

  • 0
  • 0
  • 1,150

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً