المعايشة الإيمانية لاسم الله الرَّزاق الحمد لله رب العالمين ... خلق الأرض وبارك فيها،وقدر فيها ...

منذ 2022-08-28
المعايشة الإيمانية لاسم الله الرَّزاق

الحمد لله رب العالمين ... خلق الأرض وبارك فيها،وقدر فيها أقواتها ،واحد لا شريك له،ولا شيء مثله ، ولاشيء يعجزه،ولا إله غيره ،فقال تعالي }قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ۚ ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10){فصلت.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير... يُطعِم ولا يُطعَم ،خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤنة .. قال تعالي }قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ..(14){ [الأنعام].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ)...ربي الأمة علي الثقة فيما عند الله تعالي من فضل ورزق ...فعن أبي أُمامةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبيَّ (ﷺ) قال: "إِنَّ رُوحَ القُدسِ نَفَثَ فِي رُوعي أَنَّ نفسًا لنْ تموتَ حتى تستكمِلَ أَجلَها وتستوعبَ رِزْقَها، فاتقوا اللهَ وأجْمِلُوا فِي الطلبِ، ولا يحمِلَنَّ أحدَكُم استبطاءُ الرِّزقِ أَنْ يطلبَهُ بمعصيةِ اللهِ، فإنَّ الله تعالى لا يُنالُ ما عندَهُ إلا بطاعتِهِ"[ رواه أبو نعيم في حلية الأولياء وصححه الألباني.].
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً إلي يوم الدين ....
أما بعد .. فيا أيها المؤمنون ..
إن العلمَ بالله أحَدُ أركانِ الإيمان، بل هو أصلُها وما بعدَها تبَعٌ لها، ومعرِفَةُ أسماء الله وصفاتِه أفضلُ وأوجَب ما اكتسبَته القلوب وحصَّلته النفوسُ وأدركته العقول.
قال ابن القيّم رحمه الله:أطيَبُ ما في الدنيا معرفتُه سبحانه ومحبَّته.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي (ﷺ) قال: « إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ » رواه البخاري ومسلم
قال أهل العلم: أحصاها يعني: علمها وآمن بها وعمل بمدلولها.
وأسماء الله سبحانَه أحسَنُ الأسماء، وصفاته أكمَلُ الصفاتِ، قال تعالي}لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ(11){[الشورى].
وحقيقٌ بكلِّ مسلمٍ معرفتُها وفهم معانيها، والعمل وفقها، والدعاء بها.
إن معرفة أسماء الله جل جلاله الواردة في الكتاب والسنة ،وما تتضمنه من معاني جليلة ،وأسرار بديعة ،لهي من أعظم الأسباب التي تعين على زيادة إيمان العبد ، وتقوية يقينه بالله تبارك وتعالى.
فمن أسماء الله الحسني اسم الله الرزاق، فإن تعرفتَ على اسم الله الرزاق ستحبه وتعيش معه ،وتدعو به فيحقق لكَ الرزاق مطلبك ، لذلك كان موضوعنا (المعايشة الإيمانية لاسم الله الرزاق) وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ....
1ـ الرزاق في القرآن الكريم والسنة النبوية.
2ـ من معاني الرزاق.
3ـ الحقائق الإيمانية لقضية الرزق
4ـ الأسباب التي تستجلب الرزق.
5ـ آثار الإيمان باسم الله الرزاق .
6ـ الخاتمة .
============================
العنصر الأول : الرزاق في القرآن الكريم والسنة النبوية :ـ
ورد اسم الله الرزاق مفردًا مرة واحدة في قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} [الذاريات]
وورد بصيغة الجمع خمس مرات منها قول الله تعالى{وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(114)} [المائدة] .
وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ۚ قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(11)} [الجمعة] .
وقال تعالي } قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(39){ سبأ
وورد قول النبي (ﷺ) لإثبات هذا الاسم في الحديث أنه قال: (إن اللهَ هو المسعر القابض الباسط الرازق) [صححه الألباني]
العنصر الثاني : من معاني الرزاق:ـ
الرَّزَّاقُ في اللغة مِنْ صيغِ المبالغةِ على وزن فعَّال منِ اسم الفاعل الرازِق، فعلُه رَزَقَ يَرْزقُ رِزْقًا، والمصدر الرِّزْقُ وهو ما يُنتَفعُ به والجمع أرزاق.
وحقيقةُ الرِّزْقِ هو العطاءُ المتجدّدُ الذي يأخذُهُ صاحبُه في كلِّ تقديرٍ يوميٍّ أو سَنويٍّ أو عُمُريٍّ فينال ما قُسِم له في التقديرِ الأزلي والميثاقي.
وقال تعالى: } يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ(3){ [فاطر].
فالله سبحانه قَدَّرَ خلْقَهم ورِزْقَهُم معًا قبلَ وجودِهم، وكتبَ أرزَاقَهُمْ فِي الدُّنيا والآخرِة قبل إنشائِهم، فالرّزقُ وصفٌ عامٌّ يتعلقُ بعمومِ الكونِ فِي عالمِ الملكِ والملكوتِ.
وقال ابنُ تيميةَ: "والرِّزق اسمٌ لكل ما يَغتذِى به الإنسانُ، وذلك يعمُّ رزقَ الدُّنيا ورزقَ الآخِرَةِ، فلا بُدَّ لكل مخلوقٍ من الرِّزقِ، قال اللهُ تعالى:} وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6){[هود].
وقال ابن جرير: هو المتكفل بأقواتهم قال تعالي{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80)} [الشعراء]
وقال القرطبيُّ: "والفَرْق بين القُوتِ والرِّزق، أَنَّ القُوتَ ما به قَوامُ البنْيةِ مما يُؤكلُ ويَقعُ به الاغتذاءُ.
والرِّزقُ كلُّ ما يَدْخُل تحت مِلْكِ العبدِ: مما يُؤكلُ ومما لا يُؤكلُ، وهو مراتبُ أعلاها ما يُغذي.
وقد حَصَر رسولُ الله (ﷺ):وجوهَ الانتفاعِ في الرِّزق في قوله (ﷺ): }يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ{[رواه مسلم].
وفي معنى اللِّباسِ يَدخُلُ المركوبُ وغيرُ ذلك مما يَنْتَفعُ به الإنسانُ، والقوتُ رِزْقٌ مخصوصٌ، وهو المضمونُ من الرِّزقِ الذي لا يَقطعُه عجزٌ، ولا يجلبُه كيْسٌ، فلا ينقطعُ هذا الرزقُ إلا بانقطاعِ الحياةِ"
قال الخطابي: "هو المُتكفِّلُ بالرِّزقِ، والقائمُ على كلِّ نفسٍ بما يُقيمُها مِنْ قُوتِها، وَسِعَ الخَلْقَ كلَّهم رزقُهُ ورحمتُهُ، فلم يختصَّ بذلك مؤمنًا دون كافرٍ، ولا وليًّا دُونَ عدُوٍّ.
فالرَّزَّاقُ سبحانه هو الذي يتولى تنفيذَ العطاء الذي قدَّرَهُ لأرزاقِ الخلائق لحظةً بلحظةٍ فهو كثيرُ الإنفاقِ، وهو المفيضُ بالأرزاق رِزْقًا بعد رزقٍ، مبالغةً في الإرْزاقِ وما يتعلَّقُ بقسْمَةِ الأرزاق وترتيبِ أسبابها في المخلوقاتِ.
الفرق بين اسم الله الرازق واسم الله الرزاق !!
الرازق سبحانه هو الذي يرزق الخلائق أجمعين وهو الذي قدر أرزاقهم قبل خلق العالمين وهو الذي تكفل باستكمالها ولو بعد حين فلن تموت نفس إلا باستكمال رزقها .
إذن فالرازقُ فيه معنى الرزق المطلق، فهو يفيد ثبوت صفة الرزق لله عز وجل.
أما الرزَّاق فتفيد التكثير، أنه يرزق رزقا بعد رزق.
سُئل احد السلف: لما سمي الله خير الرْازقين؟
فأجاب: لأنه إذا كفر به عبده لم يقطع رزقه عنه، وهو كافر به.
سبحان الله عطائه ورزقه مستمر حتى لمن يكفر به ويعطيه نعيمه في الدنيا، بعكس ابن آدم لو كان الرزق بيده لقطعه إذا لم يرق مزاجه له أو كرهه أو إذا نسيه والله سبحانه وتعالى لايغفل ولاينسى ولاتأخذه سِنة (وهي غفوه صغيره) عن الخلق فأمور الكون كلها بيده سبحانه وتعالي.
روي عن نبي الله سليمان عليه السلام أنه رأى نملة تجر حبة قمح وبجهد إلى بيتها فقال لها سليمان عليه السلام: كم يكيفيك من حبوب القمح لمدة سنة ؟
قالت النملة: حبيتن
قال سليمان عليه السلام: سوف أضعك في صندوق وأجعل لك حبتين لمدة سنة بدل بحثك عن حبوب القمح، وأغلق عليها الصندوق وجعل لها حبتين وجاء لها بعد سنة فوجد النملة أكلت حبة وتركت الحبة الثانية فاستغرب وغضب نبي الله سليمان عليه السلام وقال للنملة: لماذا تكذبين علي؟
تقولين تكفيني حبتين في السنة وأنتِ خلال سنة أكلتي حبة واحده فقط، قالت النملة: كانت تكفيني حبتين وكان الله لا ينساني ويرزقني، أما عندما أقفلت علي الصندوق ولم استطع أن أخرج فأكلت حبة وأدخرت حبة ثانية لأعيش بها قدر المستطاع حتى لا أموت، وخشيت أن تنساني.
العنصر الثالث : الحقائق الإيمانية لقضية الرزق :ـ
لقد وضع الله تعالي سننا وقوانينا تحكم حياة الناس،وتنظم حركة الكون ، وهناك قوانين تخص
قضية الرزق والتي تجعل الإنسان منضبطا ومنسجما ومنتظما مع الكون ،وهذه القوانين تسمي
حقائق إيمانية ....فمن هذه الحقائق ..
الحقيقة الأولي : الرزق مكتوب ومضمون ومحدد:ـ
فالرزقُ مكتوبٌ في السماءِ وهو وَعْدُ اللهِ وحُكمُه في القضاءِ قبل أن يكونَ واقعًا مقدورًا في
الأرضِ. وهو سبحانه وتعالي يتولى تنفيذَ المقدَّرِ في عطاءِ الرِّزْقِ المَقسومِ، والذي يخرجُه في السماواتِ والأرضِ، فإخراجُه في السماواتِ يعني: أنه مقضيٌّ مكتوبٌ، وإخراجه في الأرض يعني أنه سَينفُذُ لا محالةَ؛ ولذلك قال الله تعالى في شأن الهدهد الموحد ومخاطبته سيدنا سليمان عليه السلام قال تعالي{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ(25)} [النمل] الخبء: أي الشيء الخفي المخبوء.
فهنا أدرك الهدهد أن الرزق مكتوبٌ في السماء قبل أن يكون واقعًا مقدرًا في الأرض.
قال تعالي } هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا ۚ وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13){ غافر .
ويقول تعالى: }وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) { [الذاريات].
وحول هذه الآيات قصة عجيبة مع الأصمعي رحمه الله تعالي ..
روى البيهقي في (شُعب الإيمان) وأورد ابن قدامة في كتابه (التوابين) عن الأصمعي قال: أقبلت ذات يوم من المسجد الجامع بالبصرة، فبينا أنا في بعض سككها إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلد سيفه وبيده قوس، فدنا وسلم وقال لي: ممن الرجل؟
قلت: من بني الأصمع، قال: أنت الأصمعي؟
قلت: نعم، قال: ومن أين أقبلت؟
قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟
قلت: نعم، قال: اتلُ علي شيئاً منه، فقلت له: انزل عن قعودك، فنزل وابتدأت بسورة الذاريات، فلما انتهيت إلى قوله تعالى: (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) .
قال: يا أصمعي هذا كلام الرحمن؟!
قلت: إي والذي بعث محمداً بالحق إنه لكلامه أنزله على نبيه محمد (ﷺ)، فقال لي: حسبك، ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها، وقال: أعني على تفريقها، ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وجعلهما تحت الرحل، وولى مدبراً نحو البادية، وهو يقول:
(وفي السماء رزقكم وما توعدون) فأقبلت على نفسي باللوم، وقلت: لم تنتبه لما انتبه له الأعرابي فلما حججت مع الرشيد دخلت مكة، فبينا أنا أطوف بالكعبة إذ هتف بي هاتف بصوت دقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي نحيلاً مصفاراً! فسلم علي وأخذ بيدي وأجلسني من وراء المقام وقال لي: اتل كلام الرحمن، فأخذت في سورة الذاريات فلما انتهيت إلى قوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) صاح الأعرابي: وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، ثم قال: وهل غير هذا؟
قلت: نعم يقول الله عز وجل: { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) { [الذاريات].
فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله من الذي أغضب الجليل حتى حلف!
ألم يصدقوه حتى ألجؤوه إلى اليمين؟! قالها ثلاثاً وخرجت فيها روحه.
فالرزق أولا مكتوب في اللوح المحفوظ ثم بعد ذلك ينزل في السموات لتعرفه الملائكة وتنزل به إلى صاحب الرزق في الأرض فينفذ على صاحبه.
فالرزق معلوم ومحدد عند الله تعالي ، قال تعالي}وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21){ الحجر .
فالرزق يسوقُه اله تعالي إلى الضَّعيفِ الذي لا حيلة له، ولا مُتَكَسَّبَ فيه، كما يسوقُه إلى الجَلْدِ القويِّ ذي المِرَّةِ السَّويِّ، قال سُبْحانَهُ:}وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ (60){[العنكبوت].
وقد أكد النبي (ﷺ) أن الرزق مكتوب ومضمون ومحدد ، فعن أبي عبدالرحمن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله (ﷺ) وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة ، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلماتٍ: بكَتْبِ رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيدٌ، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) رواه البخاري ومسلم.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبيَّ (ﷺ) قال:(كَتب اللهُ مقاديرَ الخلائق قبل أن يَخلق السماواتِ والأرضَ بخمسين ألف سَنة قال: وعرشه على الماء))[مسلم].
وبين أيضا أنه ما كُتب للعبد مِن رِزق وأجل،لا بد أن يستكمله قبل أن يموت؛ عن جابر رضي الله عنه؛ أن النبي (ﷺ) قال: (لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَفِرُّ مِنَ المَوْتِ، لأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كما يُدْرِكُهُ المَوْتُ)[ حلية الأولياء وصححه الألباني [
الحقيقة الثانية : الرزق مقسوم وفق حكمته سبحانه وتعالي :ـ
الأرزاقُ مقسُومةٌ وفق حكمته تعالي، ولَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَو يُؤخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ.
فعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه؛ أنه قال: "قَالَتْ أُمُّ حَبيبَةَ زَوْجُ النبيِّ (ﷺ): اللَّهُمَّ أَمْتعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ الله (ﷺ) ، وَبأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبأَخي مُعَاوْيَةَ، فَقَالَ النبيُّ (ﷺ): "قَدْ سَألْتِ اللَه لآجَالٍ مَضْرُوبَة، وأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ، أَوْ يُؤَخِّرَ شيْئًا عَنْ حِلِّهِ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَّابٍ في النَّارِ أَوْ عَذَابٍ في الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وأَفْضَلَ" رواه مسلم
وقد قسم الله الأرزاق علي عباده بالعدل حسب حكمته تعالي، وتفضل علىهم بنعم لا تعد ولا تحصى، ثم فاوت بينهم في الرزق ، فمثلاً الأستاذ في الجامعة نصابه ثلاث ساعات، ومعلم ابتدائي بقرية كاد يُسحق من الفقر والقهر والجهد والاثنين تابعون إلى مؤسسة واحدة ؛ هذا أستاذ جامعة وهذا معلم ابتدائي .
وأيضا في مجال الطب هذا أكبر جراح في العالم دخله اليومي بمئات الألوف؛ وهذا ممرض يومي في مستشفى معاشه لا يكفيه يومين؛ كلاهما يعمل في حقل الطب.
وأيضا في مجال التجارة ، نجد بائع متجول يقضي يومه تحت حر الشمس أو برودة الجو ، ويرجع إلي بيته آخر النهار بجنيهات معدودة، وفي نفس المجال نجد أكبر مستورد كل صفقة عنده بخمس ستة ملايين أرباحها؛ كلاهما يعمل في حقل التجارة .
ونجد أيضا : امرأة جميلة جداً وامرأة دميمة جداً هذه يأتيها آلاف الخطاب وهذه لا يطرق بابها أحد.
يوجد تفاوت في الجمال والمال وتفاوت في الذكاء، تفاوت في العمر، تفاوت في الغنى، طفل يولد ابن ملك ،الدنيا كلها له وطفل لا يأكل قطعة لحم ولايجد شيئا، بل يخرج للعمل الشاق وهو في طفولته .
قال تعالي }كُلًّا نُمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21){الإسراء.
وهذا التفاوت لحكم عظيمة، جهلها كثير ممن لم تتنور بصائرهم بنور الوحي، ومن هذه الحكم ما يلي:
أولاً: لو كان الناس على مستوى واحد في رزقهم وإمكاناتهم لما قامت الحياة ،ولتعطلت كثيرمن الأعمال، وقد أشار الله سبحانه إلى هذه الحكمة بقوله تعالى}أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32){ الزخرف .
قال السدي وابن زيد: يسخر الأغنياء الفقراء فيكون بعضهم سبباً لمعاش بعض.
ثانياً: الابتلاء والاختبار، ليظهر الشاكر من الكافر، والصادق من الكاذب، فالغني مبتلى بالغنى، والفقير مبتلى بالفقر.
أما الغني فهل يؤدي شكر نعمة الله عليه وينفق المال وفق أمر الله له؟
وأما الفقير فهل يصبر ويحمد الله على ما هو فيه دون حسد لغيره وتضجر من قدر الله وحكمته؟ وبذلك ترفع درجتهما إن صبرا، ويعذب من سخط منهما ولم يرض بقسمة الله.
ثالثاً: أن الله تعالى يعطي ويمنع بما يصلح عباده، قال تعالى:}وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ(27){ [الشورى].
وقد استشهد الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية بالحديث الذي أخرجه الطبراني والديلمي في الفردوس وأبو نعيم في الحلية من حديث أنس وعمر رضي الله عنهما أن رسول الله (ﷺ) قال: "أتاني جبريل، فقال: يا محمد، ربك يقرأ عليك السلام، ويقول: إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى ولو أفقرته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا القلة ولو أغنيته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالسقم ولو أصححته لكفر، وإن من عبادي من لا يصح إيمانه إلا بالصحة ولو أسقمته لكفر".
الحقيقة الثالثة : الرزق مكفول فلم الهم؟
هناك أصل مهم من أصول الإيمان وهو أن يعلم الجميع أن رزق الله تعالى الذي قدره لا يفوت العبد، بل لا بد من تحصيله، وقد قال في ذلك رسول الله (ﷺ)}:ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا شيئا مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه، وإن الروح الأمين قد ألقى في رُوعي أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقَها {.
فلو أن الناس عملوا بذلك وآمنوا به لما كان هناك سرقة ولا نهب، ولا غصب ولا اختلاس، ولا تحايل على قضية الرزق، فما قدر الله تعالى لعباده آتٍ لا محالة، وما لم يقدر فلن يستطيعَه العبدُ ولو بذل في سبيل ذلك الدنيا وما فيها.
لذلك نهي الله تعالي أولائك الذين يقتلون أولادهم بغير حق لا لشيء إلا الخوف أن يأكلوا من
طعامهم فيقللوا عليهم أرزاقهم، فقال سبحانه وتعالي: } وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً (31){ [الإسراء].
ويحكي أنه جلس إبراهيم بن ادهم رحمه الله يوما ووضع بين يديه بعضا من قطع اللحم المشوي فجاءت قطة فخطفت قطعة من اللحم وهربت،فقام وراءها وأخذ يراقبها فوجد القطة قد وضعت قطعة اللحم في مكان مهجور أمام جحر في باطن الأرض وانصرفت فازداد عجبه وظل يراقب الموقف باهتمام وفجأة خرج ثعبان أعمى ، يخرج من الجحر في باطن الأرض ويجر قطعة اللحم إلى داخل الجحر مرة أخرى،فرفع الرجل رأسه إلى السماء وقال سبحانك يا من سخرت الأعداء يرزق بعضهم بعضا.
ورأى إبراهيم بن أدهم رجلا مهموماً: فقال له: أيها الرجل إني أسألك عن ثلاث تجيبني قال الرجل: نعم. فقال له إبراهيم: هل يجري في هذا الكون شيء لا يريده الله؟ قال: لا
قال إبراهيم: أينقص من رزقك شيء قدره الله لك؟ قال: لا
قال إبراهيم: أينقص من أجلك لحظة كتبها الله في الحياة؟ قال: لا
فقال له إبراهيم: فعلام الهم إذن؟
ولذا قال ابن عطاء الله السكندري : إياك والهم بعد التدبير فما قام به غيرك عنك لا تنشغل به أنت.
فينبغي علي الإنسان أن لا يهتم للشيء أكثر مما ينبغي.
الحقيقة الرابعة: الأصل في الرزق أنه لا يأتي وحده ولكن يُسعي إليه :ـ
إن الله تعالي جعل من السنن الكونية ، الأخذ بالأسباب ،وطلب الرزق من عند الله سبحانه وتعالى بأسبابه المباحة قال تعالى: } إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ۖ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17){ العنكبوت.
قال تعالى: }لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ۚ (198){ البقرة .
أي أن تطلبوا الرزق والفضل من الله سبحانه وتعالى، فعلى المسلم أن يجدَّ ويجتهد في طلب
الرزق ليغني نفسه عن الناس وليغني من تلزمه نفقته، وليتصدق ولينفق في وجوه الخير إذا رزقه الله مالاً فنعم المال الطيب للرجل الطيب، ووجوه طلب الرزق كثيرة والحمد لله وميسرة:
ومنها البيع والشراء والمتاجرات والمؤجرات في حدود ما شرع الله سبحانه وتعالى، فالتجارة النزيهة هي خير المكاسب، والحمد لله الأصل في المعاملات الحلَّ والإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه: قال تعالي } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ۚ (29){ النساء.
فالتجارة هي خير المكاسب بأن يبيع الإنسان ويشتري طلباً للربح، وكذلك من وجوه الكسب المباحة أن يتعلم الإنسان المهن والحرف التي يكتسب من وراءها من الصناعة وغير ذلك من المهن التي يستفيد منها أموال مباحة، وكان نبي الله داوود عليه السلام يصنع الدروع ويبيعها ويأكل من ثمنها ولهذا جاء في الحديث:" إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده ".
إن أطيب ما يأكل المؤمن من كسب يده، وإن داود عليه السلام كان يأكل من كسب يده مع أنه نبي وملك لكنه لا يأكل إلا من كده ومن عمل يده فكذلك المؤمن يطلب الحرف والصناعات والمهارات التي يعيش من وراءها ويستغني من مردودها، فيتعلم ما يدر عليه من الرزق مما أباح الله سبحانه وتعالى، يتعلم الهندسة، يتعلم الطب، يتعلم الحدادة ،يتعلم كل ما فيه نفعٌ وفيه مردود حلال ليحصل على الرزق، وكذلك من وجوه الاكتساب الاحتراف ،والكد باليد .
ولقد قطع الإسلام كل الطرق أمام المتسول والبطال حتي لا يركن لشيئ مثل أن يركن بحجة العبادة ، أو يركن معتمدا علي مال الزكاة .
فعن أنس رضي الله عنه ( أنَّ رجلاً من الأنصار أتى النبي (ﷺ) يسأله فقال صلَّى الله عليه وسلَّم أَمَا في بيتك شيء؟ قال الرَّجل: بلى، حِلْسٌ[كساء يلبس، ويفرش على الأرض، ويجلس عليه.]
نلبس بعضَه، ونبسط بعضه، وقَعْبٌ[الإناء] نشربُ فيه من الماء، قال (ﷺ) (ائتني بهما) ، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله (ﷺ) بيده، وقال: مَن يشتري هذين؟، فقال رجل: أنا آخذهما بدِرهم، قال (ﷺ) مَن يَزيد على درهم؟ مرَّتين أو ثلاثًا، قال رجل: أنا آخذهما بدِرهمين، فأعطاهما إيَّاه وأخذ الدِّرهمين، وأعطاهما الأنصاريَّ، وقال: (اشترِ بأحدهما طعامًا، فانبذه إلى أهلك، واشترِ بالآخرِ قَدُومًا فأتِني به).
فأتاه به، فشدَّ فيه رسولُ (ﷺ) عودًا بيده، ثم قال له: (اذهبْ فاحتطب وبِعْ، ولا أرينَّك خمسةَ عشرَ يومًا) ، فذهَبَ الرجل يحتطبُ ويبيع، فجاء وقد أصاب عَشرةَ دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا، فقال رسول الله (ﷺ) هذا خيرٌ لك مِن أن تجيءَ المسألةُ نُكتةً في وجهك يومَ القيامة؛ إنَّ المسألة لا تصلح إلاَّ لثلاثة: لذي فَقر مُدقِع، أو لذي غُرْم مُفظِع، أو لذي دمٍ مُوجِع.
رواه أبو داود برقم ، واللفظ له، ، وابن ماجه ، والنسائي ، وأحمد .
وقال عليه الصلاة والسلام: لئن يذهب أحدكم بأحبله إلى الجبل فيحتطب ويبيع خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه .
ولقد رأى الفاروقُ عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قومًا قابعين في رُكن المسجد بعدَ صلاة الجمعة، فسألهم: من أنتم؟
قالوا: نحن المُتوَكِّلون على الله، فعَلاهم عمر رضي الله عنه بدِرَّته ونَهَرَهم، وقال: لا يَقعُدنَّ أحدُكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علِمَ أن السماءَ لا تُمطِرُ ذهبًا ولا فضّة، وإن الله يقول:}فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10){ الجمعة.
وروى ابن أبي الدنيا في "التوكل" بسنده عن معاوية بن قرة، أن عمر بن الخطاب، لقي ناسا من أهل اليمن، فقال : من أنتم؟
قالوا : نحن المتوكلون. قال : بل أنتم المتكلون، إنما « المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض، ويتوكل على الله ».
وكان سفيانُ الثوريّ رحمه الله يمُرُّ ببعض الناس وهم جلوسٌ بالمسجدِ الحرام، فيقول: ما يُجلِسُكم؟ قالوا: فما نصنَع؟!
قال: اطلُبوا من فضلِ الله، ولا تكونوا عيالاً على المسلمين.
ويُروى عن" شقيق البلخي" وهو من أهل العبادة والزهد أنه ودَّع أستاذه " الشيخ إبراهيم بن أدهم" لسفره في تجارة عزم عليها.
وأثناء سيره في الطريق رأى طائراً أعمى كسير الجناح، فوقف يتأمل الطائر ويفكر كيف يجد رزقه في هذا المكان المنقطع.
فلم يمضِ وقت طويل حتى جاء طائر آخر فأطعم الطائر كسير الجناح. تعجب شقيق من هذا المشهد وأثر فيه ،فقال في نفسه: إذا كان الله تعالى يرزق هذا الطائر من غير حول منه ولا قوة ولم يهمله فلماذا أذهب إلى التجارة و لماذا العناء و السفر وأنا في هذا السن؟!
سأرجع وحتماً سيرزقني الله ، وفعلاً عاد إلى بيته ولم يكمل السفر ،وحين وصل زار شيخه فقال له الشيخ : لماذا عدت يا شقيق.. الم تذهب للتجارة ؟
فقص عليه القصة بأنه رأى في طريقه طائرا أعمى وكسيح و أخذ يفكر كيف يأكل هذا الطائر ويشرب؟
وبعد قليل جاء طائر آخر يحمل حباً وأطعم الطائر الأعمى ثم سقاه، فقلت طالما ربنا عز وجل رزق الطائر الأعمى الكسيح سأرجع إلى بيتي وسط أولادي وارجع لأهلي وبلدي وربي سيرزقني.
هنا قال له الشيخ إبراهيم: سبحان الله يا شقيق! ولماذا رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى العاجز الذي ينتظر عون غيره ولا تكن أنت الطائر الآخر الذي يسعى ويكدح ويعود بثمرة ذلك على من حوله ؟!
أما علمت أن النبي (ﷺ) قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى) .
إنتبه شقيق إلى خطأه فقَبل يد الشيخ وقال: أنت أستاذنا يا أبا إسحاق، ثم تركه ليذهب مجدداً لطلب الرزق.
فالمؤمنين ليسوا عالة على غيرهم تشغلهم عبادتهم عن العمل والكسب ، وليسوا طلاب دنيا وعبيد مال تحجزهم مصالحهم وتلهيهم تجارتهم عن أداء حقوق الله تعالى قال تعالي } ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك{القصص.
ودخل عبد الله بن عمر رضي الله عنه السوق ، فأقيمت الصلاة فأغلق التجار حوانيتهم ودخلوا المسجد فقال : فيهم نزلت : }رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله .. {.النور
وقال مطرف الوراق : " كانوا يبيعون ويشترون ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة ".
وأيضا لم يجعل النبي (ﷺ) لمتبطل كسول حقا في الصدقات ، فيحكي أنه جاء رجلان إلى النبي (ﷺ) يسألانه من الزكاة فنظر إليهما فوجد أنهما قويان فقال عليه الصلاة والسلام: إن شئتما أعطيتكما غير أنه لا حظ فيها لغني ولا لذي مرة قوي ، لا حظ فيها لغني (يعني الزكاة) ولا حظ فيها لذي مرة (يعني قوة) لذي مرة قوي لأن الأول غنيٌ بماله والثاني غنيٌ بقوته.
فقال رسول الله (ﷺ):" لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" أخرجه أبو داود والترمذي.
فالإسلام الحنيف ليس فيه عطالة ، فالإسلام دين الجد والاجتهاد ، حيث يأمرنا بالضرب في الأرض ، قال تعالي (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ) يعني يسافرون (يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) يطلبون الرزق.
الحقيقة الخامسة: الرزق ليس مقصورا علي المال والأعراض المادية :ــ
الكثير من الناس ينظرون إلى الرزق نظرة ضيقة قاصرة فهم يتصورون أنه المال فحسب!! كلا !
فالرزق ليس هو المال فقط ، ورِزْقُ الله لعبادِهِ نوعانِ:
1- رزقٌ عامٌّ شملَ البرَّ والفاجِرَ، والأولينَ والآخرينَ؛ وهو رِزْقُ الأبدان.
2- ورزقٌ خاصٌّ؛ وهو (رِزْقُ) القلوبِ، وتغذيتُها بالعِلمِ والإيمانِ.
وقال ابن منظور في لسان العرب الرزق: هو ما تقوم به حياة كل كائن حي مادي كان أو معنوي.
فالإيمان رزق ،وحب النبي رزق ،وحب الصحابة رزق ،والعلم رزق ،والخُلقُ رزق ،والزوجة الصالحة رزق، والحب في الله رزق ، والمال رزق ، وما أنت فيه الآن رزق، وصيامك للنهار رزق ، وقيامك الليل رزق ، إلى غير ذلك......
والرّزاق بكل هذه الأرزاق هو الله سبحانه وتعالي ..
جاء رجل إلى يونس بن عبيد رحمه الله: فشكى إليه ضيقاً من حاله ومعاشه واغتمامه بذلك.
فقال: أيسرك أن تفقد بصرك بمائة ألف؟ قال: لا.
قال: فبسمعك؟ قال: لا.
قال: فبلسانك؟ قال: لا.
قال: فبعقلك؟ قال: لا.
وذكره نعم الله عليه، ثم قال يونس: أرى أن عندك مئات الآلاف وأنت تشكو الحاجة؟!.
ومن أعظم الرزق في الدنيا رزق الأخلاق، يقول النبي (ﷺ): (إن الله قسم بينكُم أخلاقكُم كما قسم بينكُم أرزاقكُم وإن الله عز وجل يعُطى الدنيا من يُحب ومن لايُحب ولا يُعطى الإيمان إلا من أحب) [صححه الألباني]
وأعظمُ رزقٍ يَرْزُقُ اللهُ به عِبادَهُ هو (الجَنَّةُ) التي أَعدَّها اللهُ لعبادِهِ الصالحين، وخلق فيها ما لا عينٌ رأَتْ، ولا أُذنٌ سمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ.
وكلُّ رزقٍ يَعِدُ اللهُ به عبادَهُ الصالحين فِي القرآن فغالبًا ما يُراد به الجَنَّةُ كقوله تعالى:} لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4){ [سبأ].
وقوله تعالي: }وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(58){ [الحج].
وقوله سبحانه:}وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11){[الطلاق].
فهو أحسنُ الرِّزقِ وأكملُه وأفضلُه وأكرمهُ، لا ينقطعُ ولا يزولُ قال تعالي } إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54){ [ص].
الحقيقة السادسة: الرزق يبارك فيه بالطاعة ويمحق بالمعصية:ـ
الرزق يُبارك فيه بالطاعة ويُمحق بالمعصية.
الرزق يُبارك فيه بالطاعة، ويُمحق بالمعصية، فتذهب بركته وإن كان كثيرا ظاهرًا؛ لأن ما عند الله تعالى لا ينال إلا بطاعته؛ يقول النبي (ﷺ) ( أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم) [صححه الألباني].
وكما أن تقوى الله مجلبة للرزق، فترك التقوى مجلبة للفقر، فما استجلب رزق بمثل ترك المعاصي، وقد ضرب الله الأمثال لذلك في القرآن؛ قال تعالى:}وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112){ [النحل].
فمن استعجل الرزقَ بالحرام مُنِع الحلالَ .
ذكر صاحب المستطرف وعبارته: ودخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه المسجد وقال لرجل كان واقفا على باب المسجد: أمسك عليّ بغلتي، فأخذ الرجل لجامها، ومضى وترك البغلة، فخرج علي وفي يده درهمان ليكافىء بها الرجل على إمساكه بغلته فوجد البغلة واقفة بغير لجام، فركبها ومضى، ودفع لغلامه درهمين يشتري بهما لجاما، فوجد الغلام اللجام في السوق قد باعه السارق بدرهمين، فقال علي رضي الله عنه: إن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر، ولا يزداد على ما قدر له. انتهى.
لقد تساهل الكثير في الكسب وتحصيل المال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ﷺ) قال:(يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم الحرام)؛ رواه البخاري.
فتساهلوا في الغش والخداع، وفرحوا بالرشوة والغلول وأكل مال اليتيم والسرقة، ونشطوا في بيع المحرمات والإعانة عليها ونشرها، وتسابقوا في الأعمال المحرمة،حتي رأينا الرجل يبيع ذمته ودينه بعرض من الدنيا ،ورأينا المرأة تعرض جسدها لإغراء الشباب ، كل ذلك بحجة طلب الرزق، وكأن الرزق لا يكون إلا بطريق الحرام، وضعف يقينهم في أن الرزق من الله، وأنه لن يبارك في مال ورزق جاء من الحرام.
ومن ظنّ أن الرزق يأتي بحيلةٍ فقد كذّبته نفسه وهو آثم
قال رسول الله (ﷺ) مبينًا قاعدة عظيمة من قواعد الكسب وطلب الرزق: فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ): " مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ " رواه الترمذي .
الحقيقة السابعة: من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه :ـ
من ترك المال الحرام من أجل الله تعالي عوضه الله خيرا منه ، قال: رسول الله (ﷺ) : (إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا للهِ إلاَّ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ))[ مسند الإمام أحمد].
ذكر الحافظ ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة في ترجمة القاضي أبي بكر محمد بن عبد الباقي البزاز المتوفى في سنة (535 هـ):
((قال الشيخ الصالح أبو القاسم الخزاز البغدادي: سمعت القاضي أبا بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد البزاز الأنصاري يقول: كنت مجاورا بمكة حرسها الله تعالى فأصابني يوما من الأيام جوع شديد لم أجد شيئا أدفع به عني الجوع، فوجدت كيسا من إبريسم مشدودا بشُرّابة من إبريسم أيضا (الإبْرَيْسَم : أحسن الحرير)، فأخذته وجئت به إلى بيتي، فحللته فوجدت فيه عقدا من لؤلؤ لم أر مثله.
فخرجت فإذا بشيخ ينادي عليه، ومعه خرقة فيها خمس مئة دينار وهو يقول: هذا لمن يردّ علينا الكيس الذي فيه اللؤلؤ، فقلت: أنا محتاج، وأنا جائع، فآخذ هذا الذهب فأنتفع به، وأردّ عليه الكيس.
فقلت له: تعال إليّ فأخذته وجئت به إلى بيتي، فأعطاني علامة الكيس، وعلامة الشرّابة، وعلامة اللؤلؤ وعدده، والخيط الذي هو مشدود به، فأخرجته ودفعته إليه، فسلّم إليّ خمس مئة دينار، فما أخذتها، وقلت: يجب علي أن أعيده إليك، ولا آخذ له جزاء، فقال لي: لا بدّ أن تأخذ وألحّ عليّ كثيرا، فلم أقبل ذلك منه، فتركني ومضى.
وأما ما كان مني، فإني خرجت من مكة وركبت البحر، فانكسر المركب وغرق الناس، وهلكت أموالهم، وسلمت أنا على قطعة من المركب، فبقيت مدة في البحر لا أدري أين أذهب، فوصلت إلى جزيرة فيها قوم، فقعدت في بعض المساجد، فسمعوني أقرأ، فلم يبق في تلك الجزيرة أحد إلا جاء إليّ وقال: علمني القرآن، فحصل لي من أولائك القوم الشيء الكثير من المال.
ثم إني رأيت في ذلك المسجد أوراقا من مصحف، فأخذتها أقرأ فيها، فقالوا لي: تحسن تكتب؟ فقلت: نعم. فقالوا: علمنا الخط، فجاءوا بأولادهم من الصبيان والشباب، فكنت أعلمهم، فحصل لي أيضا من ذلك شيء كثير، فقالوا لي بعد ذلك: عندنا صبية يتيمة ولها شيء من الدنيا نريد أن تتزوج بها، فامتنعت، فقالوا: لابدّ وألزموني فأجبتهم إلى ذلك.
فلما زفوها إليّ مددت عيني أنظر إليها، فوجدت ذلك العقد بعينه معلقا في عنقها، فما كان لي حينئذ شغل إلا النظر إليه، فقالوا: يا شيخ! كسرت قلب هذه اليتيمة من نظرك إلى هذا العقد، ولم تنظر إليها، فقصصت عليهم قصة العقد، فصاحوا وصرخوا بالتهليل والتكبير حتى بلغ إلى جميع أهل الجزيرة، فقلت: ما بكم؟
فقالوا: ذلك الشيخ الذي أخذ منك العقد أبو هذه الصبية، وكان يقول: ما وجدت في الدنيا مسلما
[المراد أمينا وعفيفا يعرف أحكام اللقطة] إلا هذا الذي ردّ عليّ هذا العقد، وكان يدعو ويقول: اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزوجه ابنتي، والآن قد حصلتْ، فبقيت معها مدة ورزقت منها بولدين، ثم إنها ماتت فورثت العقد أنا وولداي، ثم مات الولدان، فحصل العقد لي، فبعته بمئة ألف دينار، وهذا المال الذي ترونه معي من بقايا ذلك المال)).
الحقيقة الثامنة : المالك الحقيقي للمال هو الله تعالي ونحن مستخلفون فيه :ـ
المالك الحقيقي للمال والأرض هو الله تعالي ،والإنسان ما هو إلا مستخلف فيه ،لذلك ينبغي علي الإنسان أن يحسن استخدامه وتوظيفه فلا يتصرف وفق رغبات وشهواتها فيسرف في الإنفاق ليرضي متطلبات نفسه ونزواتها ويبخل بالمال حرصا عليه عندما تستلزمه الضرورات التي ليس لمفسه إليها حاجة أو حظ ونسي أن هذا المال ليس ماله وأنه فقط مستخلف فيه وأن المستخلف في شيئ ملزم التصرف فيه وفق ضوابط وأوامر من استخلفه ولا يجوز له أن يجتهد خارج هذه الأوامر والضوابط وإلا أصبح خائنا للأمانه فيقع تحت طائلة الآية الكريمة } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28){ الأنفال .
فيؤكد المولي عز وجل هذه الحقيقة بكلمات واضحة مباشرة فيقول سبحانه وتعالي}آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7){الحديد
ويقول تعالي }وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ۚ(33){ النور.
ومن هنا جاءت النصوص توضح المنهج الوسط في التعامل مع المال بما يحقق الاستخلاف ويؤدي إلي مرضاة الله تعالي وفي نفس الوقت تحذر من الخروج علي هذا المنهج فيقول تعالي مبيحاَ لعباده الزينة والطيبات من الرزق ولكن في غير سرف ولا تقتير } يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32){ الأعراف.
ويقول تعالي }وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29){ الإسراء.
ويقول تعالي أيضا : }وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا(67){ الفرقان .
ويقول تعالي في معرض أداء الحقوق } وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27){ الإسراء.
والتبذير هو الإنفاق في غير المشروع ،أما الإسراف فهو الإنفاق في المشروع ولكن بزياة كبيرة عن الحد المعقول وكلاهما حرام .
وَقَالَ النَّبِى (ﷺ): (كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَالْبَسُوا، وَتَصَدَّقُوا فِى غَيْرِ إِسْرَافٍ، وَلا مَخِيلَةٍ) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ.
ورغم ذلك نجد البعض من أصحاب الثراء الفاحش ينفقون المال علي موائد القمار وعلي حفلات المُجون والرقص ، وهناك من المسلمين من يكاد يموت جوعا أو مرضا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
وفي هؤلاء وأمثالهم يقول النبي (ﷺ) فعن خولة الأنصارية رضي الله عنها، قالت : قال رسول الله (ﷺ):(إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق ،فلهم النار يوم القيامة ( . رواه البخاري .
وليعلم المسلم أيضا أن نعم الله عز وجل لا يمتلكها أحد ، وإنما هي بمثابة الجوار، ليتمتع بها بما يرض الله عز وجل ، فإذا أحسن الإنسان جوار النعم لازمته، وبارك الله له فيها ، وإذا أساء جوارها فارقته ،وأثم إثما كبيرا .
فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول دخلَ عليَّ رسولُ اللهِ (ﷺ) فَرأى كِسْرَةً مُلْقَاةً فَمَشَى إليها فأخذَها ثُمَّ مسحَها فَأكلَها ثُمَّ قال لي يا عائشةُ أَحْسِنِي جِوَارَ نِعَمِ اللهِ تَعالَى فإنَّها قَلَّ ما نَفَرَتْ من أهلِ بَيْتٍ فَكَادَتْ أنْ تَرْجِعَ إليهِمْ"[أخرجه ابن ماجه ، وابن أبي الدنيا في الشكر والطبراني في المعجم الأوسط].
ويقول الله تعالي}وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7){إبراهيم
ولابد أن نعلم أنَّ صلاح الأمة بالتزام هذه التعاليم وهلاكها في انحرافها عن هذه التعاليم
فعن عبد الله بن عمرو في الحديث المرفوع }صَلاحُ أَوَّلِ هَذِهِ الأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ ، وَيَهْلِكُ آخِرُهَا بِالْبُخْلِ وَالأَمَلِ { .رواه الطبراني في الأوسط.
ومن أهم الأشياء التي يوقن بها المسلم أن كل هذه النعم لا تصحبه في رحلته إلي الدار الآخرة ، وهي أهم رحلة لأنه من خلالها يتحدد مصير الإنسان إما نعيم مقيم ، وإما عذاب أليم ، وقدأخبرالنبي (ﷺ) بذلك فعن أنس رضي الله عنه عن رسولِ اللَّهِ (ﷺ) قَالَ: يتْبعُ الميْتَ ثلاثَةٌ: أهلُهُ ومالُه وعمَلُه، فيرْجِع اثنانِ ويبْقَى واحِدٌ: يرجعُ أهلُهُ ومالُهُ، ويبقَى عملُهُ" متفقٌ عَلَيهِ. الحقيقة التاسعة : كثرة المال أو قلته ليس دليلا علي رضا الله تعالي أو سخطه :ـ
كثرة الرزق لا تدل على محبة الله، ولا قلته دليل علي سخطه تعالي.
فالله سبحانه يرزق الجميع، ولكنه قد يزيد أهل الضلال والجهل في الرزق، ويوسع عليهم في الدنيا، وقد يقتر على أهل الإيمان، فلا يظن أن العطاء والزيادة دليل المحبة والاصطفاء!.
بل إنه بين أنه لولا أن يكفر الناس جميعًا لأراهم الله تعالى عطاياه لأهل الكفر، فقال جل ذكره:
قال تعالي }وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ(33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا ۚ وَإِنْ كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) }[الزخرف].
وقال الله تعالي: }أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ (56){ [المؤمنون].
وقال تعالى: }قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَداًّ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ سَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً (75){ [مريم].
وقد حكى لنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حال النبي (ﷺ) ، وقد دخل عليه في غرفته، وهو على حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وإن عند رجليه قَرَظًا مصبوبًا، وعند رأسه أهب معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت، فقال (ﷺ) : " ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله، فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة"؟
والله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب. ولا يعطي الإيمان إلا من يحب.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "ولا تظن أن عطاءه كل ما أعطى لكرامة عبده عليه، ولا منعه كل ما يمنعه لهوان عبده عليه، ولكن عطاءه ومنعه ابتلاء وامتحان، يمتحن بهما عباده، قال الله تعالى:}فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16){ [الفجر].
كلا أي ليس كل من أعطيته ونعمته، وخولته فقد أكرمته، وما ذاك لكرامته علي، ولكنه ابتلاء وامتحان له أيشكرني، فأعطيه فوق ذلك، أم يكفرني فأسلبه إياه، وأخول فيه غيره.
وليس كل من ابتليته، فضيقت عليه رزقه، وجعلته بقدر لا يفضل عنه، فذلك من هوانه، ولكنه ابتلاء وامتحان مني له أيصبر، فأعطيه أضعاف أضعاف ما فاته من سعة الرزق، أم يتسخط فيكون حظه السخط، فرد الله سبحانه على من ظن أن سعة الرزق إكرام، وأن الفقر إهانة، فقال: "لم أبتل عبدي بالغنى لكرامته علي، ولم أبتله بالفقر لهوانه علي"
فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره، فإنه سبحانه يوسع على الكافر لا لكرامته، ويقتر على المؤمن لا لإهانته، إنما يكرم من يكرمه بمعرفته ومحبته وطاعته، ويهين من يهينه بالإعراض عنه ومعصيته، فله الحمد على هذا، وعلى هذا، وهو الغني الحميد". انتهى.
وقد بين المولي تبارك وتعالي أن ما يعطي للكفار والعصاة علي كفرهم إنما هو علي سبيل الإملاء والإستدراج فقال تعالي { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(178)}آل عمران.
فهو إذن ليس رضا ولكن إملاء واستدرج وغمسا في الإثم فقال تعالي { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)}الأنعام
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي (ﷺ) قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج» ، ثم تلا رسول الله (ﷺ) قول الله تعالي:{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44)} الأنعام.
فالأمر كله ابتلاء واختبار للناس فيقول الله تعالي { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} الكهف.
الحقيقة العاشرة : السعي علي الرزق وطلب المال لا يتعارض مع أداء الواجبات ـ
في خضم السعي علي الرزق وطلب المال يجب أن لا ينسي الإنسان واجباته المطلوبه منه وهي،
واجبه نحو ربه من أداء الفرائض والنوافل، وواجبه نحو نفسه بالترقي بها في جميع جوانب الحياة ، وواجبه نحو أهله وكل من يعول بالنفقة والرعاية والتربية علي منهج الإسلام، وواجبه نحو دينه ووطنه.
وقد بين الله تعالي في كتابه الكريم أن الغاية الأولي من وجوده في هذا الكون وهي العبادة وعمارة الكون وتحقيق الخلافة في الأرض ، فتبارك الذي أتقَنَ كلَّ شيءٍ في مُلكِهِ، وجعل رِزْقَ الخلائقِ عليه، ضَمِنَ رزقَهُم وسيؤدِّيه لهم كما وَعَدَ، وكل ذلك ليركنوا إليه ويعبدوه وحدَه لا شريكَ له.
قال تعالى: }وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ(58){ الذاريات .
ولقد أمر نبيه صلي الله عليه وسلم قال الله عز وجل:}وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132){( طه){.
تكّفل الله تعالي لنا بالرزق وأمرنا أن نسعى للدار الآخرة، فقال تعالي}وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ (41) وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهَىٰ (42) { (النجم)
وربما يتعذر الإنسان بالعمل من أجل لقمة العيش ويقصر في عبادته بحجة البحث عن الرزق ويعطي لنفسه المبررات لذلك وقد نهي الإسلام الحنيف عن ذلك.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (ﷺ) قال:( إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : يَا ابْنَ آدَمَ ! تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى ، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ ، وَإِلاَّ تَفْعَلْ مَلَأْتُ يَدَيْكَ شُغْلاً ، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ ) رواه الترمذي
وقد ورد في الحديث القدسي : (عبدي خلقتك لعبادتي فلا تلعب وقسمت لك رزقك فلا تتعب ، إن قل فلا تحزن ،وإن كثر فلا تفرح، إن أنت رضيت بما قسمته لك أرحت بدنك وعقلك وكنت عندي محمودا ، وإن لم ترضي بما قسمته لك أتعبت بدنك وعقلك وكنت عندي مذموما ، وعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحوش في الفلاة ثم لا يصيبك منها إلا ما كتبته لك ) .
نري البعض بذل كل مجهوداته فيما ضمن له ، أمَّا ما كلفوا به نراهم يقصرون فيه وهذا من الخلل في العقيدة .
إذاً أَقبِلوا على ما كُلِّفتم ودعوا ما ضُمِن لكم، فمما رُوي عن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام
أنه كان يَقول لأتباعه : " لا تغتمُّوا لبطونكم ".
ويقول ابن عطاء رحمه الله تعالي :(اجتهادك فيما ضمن لك وتقصيرك فيما طلب منك دليل على انطماس بصيرتك).
العنصر الرابع : الأسباب التي تستجلب الرزق:ـ
1ـ الإيمان والتقوي :ـ
التقوي هي تجنب المحارم خشية من الله تعالي وخشية من النار ،قال تعالى: } وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(3){ [الطلاق].
وفي هذا بيانُ أنَّ الذي قَدَّره من الرزق على العمومِ والإجمالِ سيتولَّاه في الخلقِ على مَدَارِ الوقتِ والتفصيلِ فهو سبحانه الرَّزَّاقُ الخلَّاقُ القَديرُ المقتَدر.
وقال تعالى}وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96){ [الأعراف]
2ـ الاستقامة علي منهج الله تعالي :ـ
الاستقامة هي مردود الإيمان والتقوي ،فالذي آمن واتقي من شأنه أن يستقيم ومع الإستقامة يكون الخير ، قال تعالي } وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16){ الجن.
ويقول تعالي } وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ۚ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66){ المائدة .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ): " حَدٌّ يُقَامُ فِي الأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا " رواه النسائي .
3ـ الاستغفار والتوبة :ـ
قال تعالي{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً (12)} [نوح]
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قَال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ): ( مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا ، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا ، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ) رواه أبو داود وابن ماجه ، وأحمد في "المسند" ، والطبراني في "المعجم الأوسط" ، والبيهقي في "السنن الكبرى"، وغيرهم .
ذكر الإمام القرطبي رحمه الله:أن رجلاً جاء إلى التابعي الجليل الحسن البصري يشكو إليه الجدب والقحط فأجابه قائلاً يا هذا: "استغفر الله "، ثم جاءه رجلُ آخر يشكو الحاجة والفقر فقال له يا هذا: "استغفر الله"، ثم جاءه ثالثُ يشكو قلة الولد فقال له:" استغفر الله"، فعجب القوم من إجابته...وقالوا: لقد أتاك رجال يشكون أنواعاً من البلاء فأمرتهم كلهم بالاستغفار.. كيف ذلك. فقال لهم وهو يرشدهم إلى الفقه الإيماني والفهم القرآني والهدي النبوي..
ألم تقرؤوا قول الله تعالى: } فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14){ ﴾ [نوح]
4ـ التبكير في طلب الرزق :ـ
يقول النبي(ﷺ) : (اللهم بارك لأمتى في بكورها) [صحيح]
ووقت البكور هو وقت ما بعد الفجر.
5ـ اجتناب المعاصي :ـ
إن للمعاصي نذير شؤم علي الفرد والمجتمع فبسببها يُحرم الرزق وينحول الأمة من أمن إلي خوف ومن عافية إلي مرض ، ومن رغد إلي جوع، فقال الله سبحانه وتعالي: }ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(41){ [الروم].
وفي المسند: قال رسول الله (ﷺ) "إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه"،
فالمعصية تؤدي إلي ضنك العيش فى الدنيا والعمى والحسرة يوم القيامة: قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)}(طه).
وقال سبحانه وتعالي :}إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلاَ يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20){ [القلم].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (ﷺ):{يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم} (رواه ابن ماجه وهو صحيح. السلسلة الصحيحة).
مازالت نعمة إلا بذنب ، ولا حلت نقمة إلا بذنب كما قال علي رضي الله عنه ( ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة )
ورحم الله القائل :ـ
إذا كنت فى نعمة فأرعها فإن المعاصي تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد فرب العباد سريع النقم
وإياك والظلم مهما استطعت فظلم العباد شديد الوخم
و سافر بقلبك بين الورى لتبصر أثار من قد ظلم.
كانت عادة النساء في السلف، كان الرجل إذا خرج من منزله تقول له امرأته أو ابنته:إياك وكسب الحرام، فإنا نصبر على الجوع والضر ولا نصبر على النار.
6ـ صدق التوكل علي الله تعالي :
قال تعالي{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)}[الطلاق]
قال الشافعي رحمه الله:
توكلتُ فِي رزقي على الله خالقـي وأيقنتُ أن الله لا شـك رازقـي
ومـا يكُ من رزقـي فليس يفوتني ولو كان في قاع البحـار العوامق
سيـأتي بـه الله العظيـم بفضلـه ولو لم يكن مني اللسـانُ بنـاطق
ففي أي شيء تذهب النفس حسرة وقد قسم الرحمـن رزق الخلائق؟
عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً"،رواه الترمذي،وقال:
حديث حسن.
ألا ما أحوجنا إلى صدق التوكل على الله والرضا بما قسم وقدر!
7ـ المتابعة بين الحج والعمرة :ـ
المتابعة بين الحج والعمرة ، فإنها سبب للرزق ،فعن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله (ﷺ) تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة " رواه الترمذي.
8ـ الإنفاق في سبيل الله :ـ
أنفق يُنفق عليك. قال تعالى: }وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(39){ [سبأ]
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أنه قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ (ﷺ) عَلَى بِلَالٍ وَعِنْدَهُ صُبْرَةٌ مِنْ تَمْرٍ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا بِلَالُ؟
" قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادَّخَرْتُهُ لَكَ وَلِضِيفَانِكَ. فَقَالَ:أَمَا تَخْشَى أَنْ يَفُورَ لَهُ بُخَارٌ فِي جَهَنَّمَ؟
أَنْفِقْ بِلَالُ، وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا"
[رواه الطبراني وأحمد والبيهقي والبزار والحديث صححه الألباني].
وكذلك الإنفاق على من تفرغ لطلب العلم الشرعي: النفقة على طلبة العلم سبب للرزق،
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: (كَانَ أَخَوَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ (ﷺ) ،فَكَانَ أَحَدُهُمَا يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْآخَرُ يَحْتَرِفُ، فَشَكَا الْمُحْتَرِفُ أَخَاهُ إِلَى النَّبِيِّ (ﷺ) ، فَقَالَ: ((لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ)) [ الترمذي ]
9ـ صلة الرحم:ـ
صلة الرحم سببٌ لسعة الرزق ،لك أقارب، لك أخوات، لك بنات، لك عمات، لك خالات في
أي مكان، أنت حينما تصلهم، وتعطيهم، وتأخذ بيدهم، وتتولى شئونهم، وترعاهم ،وتهديهم إلى الله عز وجل يزداد رزقك
فعن أَنَس بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) قَالَ: ((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)).[ البخاري ، مسلم ، أبو داود ، أحمد ]
10ـ إكرام الضعفاء والإحسان إليهم:ـ
عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَى سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى مَنْ دُونَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ (ﷺ): «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ» (رواه البخاري)،
11ـ الهجرة في سبيل الله :ـ
يترك مكان الضيق إلى غيره ما فيه سعة في الرزق ولكن بضوابط الهجرة، وليس كما يحدث الآن بأن يهاجر أحدهم بالسنوات تاركا زوجته وأولاده بحجة تأمين المستقبل. مما يفتح أبواب الابتلاءات والفتن والفواحش على الزوجات.
قال الله تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (100)} [النساء]
12ـ الدعاء باسم الله الرزاق
كان من دعائه (ﷺ) (أن كان يقول اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً ) [رواه مسلم] .
أعطهم قدر احتياجهم لا توسع عليهم فيطغوا ولا تقدر عليهم فيضيق عليهم فيجزعوا وإنما أعطهم ما يكفيهم وقنعهم بذلك.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أعوذ بك من البخل والفقر، وعذاب القبر).
وعن أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ) (تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ الْفَقْرِ، وَالْقِلَّةِ، وَالذِّلَّةِ، وَأَنْ تَظْلِمَ، أَوْ تُظْلَمَ). [النسائي ، أبو داود ، ابن ماجه ، أحمد ]
وكان النبي (ﷺ) يعلم أصحابه هذا الدعاء، فكان الرجل إذا أسلم علمه النبي (ﷺ) الصلاة.
ثم أمره أن يدعو بهذه الكلمات (اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني.) [رواه مسلم]

العنصر الخامس : أثر الإيمان باسم الله الرزاق :ـ
أولا : اليقين بالله تعالي:
فمعايشة اسم الله تعالي الرزاق يغرس في نفس المؤمن اليقين والإطمئنان بأن الله هو المتفرد بالرزق وحده لا شريك له، قال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(24)} [سبأ].
فمما رُوي أنه جاء رجل إلى الإمام الحسن البصري رحمه الله وسأله: ما سر زهدك في الدنيا ياإمام؟ فقال أربعة أشياء:
علمتُ أن رزقي لايأخذه غيري فاطمأن قلبي.
وعلمتُ أن عملي لايقوم به غيري فاشتغلت به وحدي.
وعلمتُ أن الله مطلع عليّ فاستحييت أن يراني على معصية.
وعلمتُ أن الموت ينتظرني فاعددت الزاد للقاء ربي.
ويحكي أيضا أنه ..جلس رجلان قد ذهب بصرهما على طريق أم جعفر زبيدة العباسية لمعرفتهما بكرمها.
فكان أحدهما يقول: اللهم ارزقني من فضلك..
وكان الآخر يقول: اللهم ارزقني من فضل أم جعفر.
وكانت أم جعفر تعلم ذلك منهما وتسمع، فكانت ترسل لمن طلب فضل الله درهمين، ولمن طلب فضلها دجاجة مشوية في جوفها عشرة دنانير.
وكان صاحب الدجاجة يبيع دجاجته لصاحب الدرهمين، بدرهمين كل يوم، وهو لا يعلم ما في جوفها من دنانير.
وأقام على ذلك عشرة أيام متوالية، ثم أقبلت أم جعفر عليهما، وقالت لطالب فضلها: أما أغناك فضلنا؟
قال: وما هو؟
قالت مائة دينار في عشرة أيام.
قال: لا، بل دجاجة كنت أبيعها لصاحبي بدرهمين.
فقالت: هذا طلب من فضلنا فحرمه الله، وذاك طلب من فضل الله فأعطاه الله وأغناه.
وجاء رجل إلى حاتم الأصم، فقال من أين تأكل، فقال من خزائنه فقال الرجل أيلقي الله عليك الخبز من السماء، فما هذا الكلام؟
قال: " لو لم تكن الأرض له لألقى علي من السماء الخبز، يرزقني من الأرض " .
ثانيا : الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس:ـ
إذا علمت أن الله وحده هو الرزَّاق تفرده بالقصد ولا تسأل أحداً سواه، تكسب العزة والكرامة والطمأنينة والحظوة عند الله عز وجل.
قيل لإنسان آخر من أين تأكل قيل من خزائن مَلِكِ لا تدخلها اللصوص ولا يأكلها السوس، خزائن الله عز وجل مفتوحة وخزائنه مملوءة وخزائنه فيها كل شيء، حيث يقول الله تعالى:}وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21){ ( الحجر).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ) فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَنَّهُ قَالَ: " ( يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ) رواه مسلم.
قال ابن رجب: المراد كمال قدرة الله وكمال ملكه، وأن ملكه وخزائنه لا تنفد ولا تنقص بالعطاء، وإن في هذا لحثًا على إنزال الحوائج بالله وسؤاله إياها.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) قَالَ : " يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، وَقَالَ : أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَدِهِ ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ " الصحيحين.

وصدق القائل
وكيف أخاف الفقر والله رازقي **** ورازق هذا الخلق في العسر واليسر
تكفّل بالأرزاق للخلـق كلهم **** وللضب في البيداء والحوت في البحر

لذلك كان حال السلف الثقة الدائمة فيما عند الله تعالي واليأس فيما عند الناس ،
حكوا أنَّ رجلاً من السَّلف همَّ بالسفر، فكره جيرانه سفره، فقالوا لزوجته لِمَ ترضين بسفره ولم يدع لك نفقة؟
فقالت: زوجي منذ عرفته عرفته أَكالاً وما عرفته رزاقاً، ولي رب رزاق، يذهب الأكال ويبقى الرزاق.
فمن الأخطاء الشائعة أن" يُقال فلان مُعيل" (أي عنده عائلة كبيرة)، والصواب فلان مُعال وليس مُعيل،[المُعيل هو الله عز وجل، والناس كلهم على مائدة الرحمن].
لقد كان إيمان السلف بأن الله هو الرزاق عظيمًا، فلم يلتفتوا لأحد سوى الله في أرزاقهم، وكانوا بما في يد الله أوثق مما في أيديهم.
ولذا قال الحسن: "إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عز وجل"، وروي عن ابن مسعود قال: (إن أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا: ليس في البيت دقيق)،
وقال الإمام أحمد: "أسرّ أيامي إليّ يوم أُصبح وليس عندي شيء".
وقيل لأبي حازم الزاهد: ما مالُك؟
قال: لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس.
وقيل: أما تخاف الفقر؟!
فقال: أخاف الفقر ومولاي له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟!
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: "من وثق بالله في رزقه زاد في حسن خلقه، وأعقبه الحلم، وسختْ نفسه، وقلّت وساوسه في صلاته".
ثالثا : العزة والتعفف عما في أيدي الناس :ــ
الإيمان باسم الله الرزاق يورث العبد عزة وعفة ومهابة ، وذلك امتثالا لهدي النبي(ﷺ) فعن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أن رسول الله (ﷺ) قال : «.. ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله» ( أخرجه الشيخان ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي) .
قال أعرابي لأهل البصرة: من سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بم سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دنياهم.
وما أحسن قول بعض السلف في وصف الدنيا:
وما هي إلا جيفة مستحيلة *** عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها *** وإن تجتذبها نازعتك كلابها
قال عطاء: جاءني طاووس رحمه الله فقال لي: "يا عطاء إياك أن ترفع حوائجك إلى من أغلق دونك بابه، وجعل دونك حجابًا. وعليك بطلب حوائجك إلى من بابه مفتوح لك إلى يوم القيامة، طلب منك أن تدعوه ووعدك الإجابة". (تهذيب حلية الأولياء)
دخل سليمان بن عبد الملك إلى بيت الله الحرام وفيه علم من أعلام المسلمين وإمام من أئمة الدين عطاء بن أبي رباح رحمه الله برحمته الواسعة، هذا الإمام الذي كان ينادي المنادي في الحج ويقول: لا يفتي الناس إلا عطاء لعلمه وفضله، كان عطاء في ذلك المسجد يومها فأخذه سليمان وطاف معه، ثم قال: يا عطاء ! سلني حاجتك؟ ما هي حاجتك؟
قال: يا أمير المؤمنين! إني لأستحي أن أسأل أحداً في بيت الله جل جلاله إني لأستحي أي من الله ، فلما خرجا من المسجد قال: يا عطاء ! سلني حاجتك؟
قال: يا أمير المؤمنين! أن يغفر الله ذنبي، قال: ليس ذلك بيدي، قال: ماذا تريد أن أسألك؟
قال: سلني حاجتك من الدنيا، قال: يا أمير المؤمنين! إني لم أسألها من يملكها أفأسألها من لا يملكها! فلما أصَّر عليه، قال أطلب منك الجنة، قال هذه ليست لي، قال إذاً ليس لي عندك حاجة.
هذا العِزّ عزة التعفف، فما أجمل أن يعطي الغني الفقير، والأجمل من ذلك أن يتعفف الفقير عن مال الغني وأن يقول الحمد لله.
قال بعض العلماء: " كما أن الله لا شريك له في خلقه، لا شريك له في رزقه، كما أنه لا إله إلا الله، أيضاً لا رازق إلا الله.
رابعا: عدم الشكوي لغير الله تعالي :ـ
الإيمان باسم الله الرزاق يجعل الإنسان دائما لا يلتفت إلي مخلوق ولا يشكو له حاله ، وإنما علمه بالله تعالي يجعله دائما يرفع شكواه وحاله إلي الله تعالي ، لأن الأصل أن الشكوى إلى المخلوق تنافي كمال الصبر؛ لأن فيها رجاء للمخلوق، وقد يكون فيها شيء من التسخط من قدر الله، فالمشروع للعبد أن يجعل شكواه إلى الله وحده.
قال ابن تيمية: والصبر الجميل صبر بلا شكوى قال يعقوب عليه الصلاة والسلام "إنما أشكو بثي وحزني الى الله "مع قوله" فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون".
فالشكوى الى الله لا تنافي الصبر الجميل، فكان من دعاء النبي (ﷺ) " اللهم اليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي الله إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك لك العتبى حتى ترضى".
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في صلاة الفجر "إنما أشكو بثي وحزني الى الله" ويبكي حتى يسمع نشيجه من آخر الصفوف، بخلاف الشكوى إلى المخلوق.
والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه، كما قال تعالى فإذا فرغت فانصب والى ربك فارغب، وقال (ﷺ) لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله". (الفتاوى) .
وقال ابن الجوزي: وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَكْرَهُونَ الشَّكْوَى إِلَى الْخَلْقِ، وَالشَّكْوَى وَإِنْ كَانَ فِيهَا رَاحَةٌ إِلا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ضَعْفٍ وَذُلٍّ وَالصَّبْرُ عَنْهَا دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةٍ وَعِزٍّ. اهـ.
يُحكى عن حماد بن مسلمة أنه قال، كان في جواري امرأة أرملة لها أيتام، وكانت ليلة ذات مطر، فسمعت صوتها، تقول يا رفيق أُرفق بحالي، قال فخطر ببالي أنها أصابتها فاقة، فصبرتُ حتى احتبس المطر، فحملتُ معي عشرة دنانير، وقرعت عليها الباب، فقالت: حماد بن مسلمة؟
" يبدو أنه معروف بالصلاح " فقلت نعم حماد، كيف الحال، فقلت في خير وعافية، احتبس المطر ودفئ الصبيان، فقال خذي هذه الدنانير وأصلحي بها بعضَ شأنك..
عندها فتاةٌ صغيرة، صاحت هذه الفتاةُ، لا نريد يا حماد أن تكون بيننا وبين الله، ثم قالت لأمها لما رفعت صوتك بإظهار السر علمت أن الله يؤدبنا بإظهار الرفق على يد مخلوق.
الخاتمة :
إذا علم المسلم هذه الحقائق الإيمانية لقضية الرزق ، وعلم أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين أفرده بالسؤال والقصد، فلا ينتظر العبد الرزق إلا منه، ولا يتوكل فيه إلا عليه، وإذا علم أن الله وحده هو الرزاق أفرده بالدعاء وسؤال الرزق، ولا يسأل أحدًا سواه، وحينها يكتسب العزة والكرامة والطمأنينة.
فاللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، واجعل أوسع أرزاقنا عند ضعفنا وكبر سننا، اللهم لا تحوجنا إلا إليك، ولا تذلنا إلا بين يديك، وصب علينا الرزق صبًّا، ولا تجعل معيشتنا كدًّا، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك، اللهم ارزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، آمين.. آمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.ِ

=========================
  • 0
  • 0
  • 394

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً