ذكر الإمام الثقة أبو عمرو بن السماك (مات سنة 344 هـ) قصّة في جزء له، بإسناده عن واصل (1) ...

منذ 2023-01-19
ذكر الإمام الثقة أبو عمرو بن السماك (مات سنة 344 هـ) قصّة في جزء له، بإسناده عن واصل (1) قال:

(أُسِر غلامٌ من بني بطارقة الروم، وكان غلامًا جميلًا، فلما صاروا إلى دار السلام [يعني: بغداد]، وقع إلى الخليفة، وذلك في ولاية بني أمية، فسماه بشيرًا، وأَمر به إلى الكُتَّاب، فكتب وقرأ القرآن، وروى الشعرَ، وقاسَ وطلب الأحاديث وحجَّ.
فلما بلغ واجتمع، أتاه الشيطان فوسوس إليه، وذكَّره النصرانية دينَ آبائه؛ فهرب مرتدًّا من دار الإسلام إلى أرض الروم .. للذي سبق له في أم الكتاب.
فأتي به ملك الطاغية [يعني أحضروه إلى ملك الروم]، فسأله عن حاله، وما كان فيه، وما الذي دعاه إلى الدخول في النصرانية؟
فأخبره برغبته فيه.
فعظم [بشيرٌ المرتدُّ] في عين الملك [النصراني]؛ فرأَّسَه وصيَّره بطريقًا من بطارقته، وأقطعه قرًى كثيرةً؛ فهي اليوم تعرف به، يقال لها: قرى بشير.

وكان من قضاء الله وقدره أنه أُسِر ثلاثون رجلا من المسلمين؛ فلما دخلوا على بشير، ساءلهم رجلًا رجلًا عن دينهم.

وكان فيهم شيخ من أهل دمشق يقال له: واصل؛ فساءله بشير؛ فأبى الشيخ أن يرد عليه شيئًا..

■ فقال بشير: ما لك لا تجيبني؟
= قال الشيخ: لست أجيبك اليوم بشيء!
■ قال بشير للشيخ: (إني سائلك غدًا فأعد جوابا)، وأمره بالانصراف.

فلما كان من الغد بعث بشيرٌ؛ فأُدخِل الشيخُ إليه..
■ فقال بشير: الحمد لله الذي كان قبل أن يكون شيءٌ، وخلق سبع سماوات طباقًا بلا عونٍ كان معه من خلقه؛ فعجبا لكم معاشر العرب حين تقولون: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}!

فسكت الشيخ ..
■ فقال له بشير: ما لك لا تجيبني؟

= فقال الشيخ: كيف أجيبك وأنا أسيرٌ في يدك؛ فإن أجبتك بما تهوى أسخطت عليَّ ربي، وهلكتُ في ديني، وإن أجبتك بما لا تهوى خفتُ على نفسي؟
فأعطني عهد الله وميثاقه وما أخذ النبيون على الأمم: أنك لا تغدر بي ولا تمحل بي، ولا تبغ بي باغية سوءٍ، وأنك إذا سمعتَ الحقَّ تنقاد له.

■ فقال بشير: فلك علي عهد الله وميثاقه وما أخذ الله عز وجل على النبيين، وما أخذ النبيون على الأمم: أني لا أغدر بك، ولا أمحل بك، ولا أبغي بك باغية سوء، وأني إذا سمعتُ الحقَّ انقدتُ إليه.

= قال الشيخ: أما ما وصفتَ من صفة الله عز وجل؛ فقد أحسنتَ الصفة، وأما ما لم يبلغ علمك ولم يستحكم عليه رأيك أكثر، والله أعظم وأكبر مما وصفتَ؛ فلا يصف الواصفون صفته.

وأما ما ذكرتَ من هذين الرجلين [يعني آدم وعيسى عليهما السلام]؛ فقد أسأت الصفة! ألم يكونا يأكلان الطعام ويشربان ويبولان ويتغوطان وينامان ويستيقظان ويفرحان ويحزنان؟

■ قال بشير: بلى.
= قال: فلم فرقتم بينهما؟
■ قال بشير: لأن عيسى ابن مريم عليه السلام كان له روحان اثنتان في جسد واحد: روح يَعلَمُ بها الغيوب وما في قعر البحار وما ينحاث من ورق الأشجار، وروح يُبرِئ بها الأكمهَ والأبرصَ ويحيي بها الموتى.
= قال الشيخ: روحان اثنتان في جسد واحد؟!

■ قال بشير: نعم.
= قال الشيخ: فهل كانت القوية تعرف موضع الضعيفة بينهما أم لا؟
■ قال بشير: قاتلك الله! ماذا تريد أن تقول إن قلتُ إنها لا تعلم؟ وماذا تريد إن قلتُ إنها تعلم؟

= قال الشيخ: إن قلتَ إنها تعلم، قلتُ: فما يُغني عنها قوَّتها حين لا تَطرد هذه الآفات عنها؟! [يعني البول والغائط وما سبق].
وإن قلتَ إنها لا تعلم، قلتُ: فكيف تعلم الغيوبَ ولا تعلم موضعَ روحٍ معها في جسدٍ واحدٍ؟!
■ فسكت بشير!
= قال الشيخ: أسألك بالله! هل عبدتم الصليبَ مثلًا لعيسى بن مريم أنه صلب؟

■ قال بشير: نعم.
= قال الشيخ: فبرضًى كان منه أم بسخطٍ؟
■ قال بشير: هذه أخت تلك! ماذا تريد أن تقول؟
= قال الشيخ: إن قلتَ برضًى منه، قلتُ: ماذا نقمتم؟ أعطوا ما سَألوا وأرادوا؟
وإن قلت: بسخط، قلتُ: فلم تعبدون ما لا يَمنع نفسه؟

= ثم قال: الشيخ لبشير: نشدتك بالله! هل كان عيسى يأكل الطعام ويشرب ويصوم ويصلي ويبول ويتغوط وينام ويستيقظ ويفرح ويحزن؟
■ قال: نعم.
= قال الشيخ: نشدتك بالله! لمن كان يصوم ويصلي؟
■ قال: لله عز وجل.
= ثم قال الشيخ لبشير: والضارِّ النافعِ [يحلف بالله]، ما ينبغي لمثلك أن يعيش في النصرانية!
■ قال بشير: أراك رجلا قد تعلمت الكلام، وأنا رجل صاحب سيف، ولكن غدا آتيك بمن يخزيك الله على يديه!
ثم أمره بالانصراف.
فلما كان من غد، بعث بشير إلى الشيخ، فلما دخل عليه إذا عنده قس عظيم اللحية.
■ قال بشير للقس: إن هذا رجل من العرب له علم وعقل، وله أصل في العرب، وقد أحب الدخول في ديننا؛ فكلمه حتى تنصره..
فسجد القس لبشير..
# وقال القس لبشير: قديما أتيتَ إلى الخير، وهذا أفضل مما أتيت إلي.
# ثم أقبل القس على الشيخ فقال: أيها الشيخ! ما أنت بالكبير الذي قد ذهب عقله وتفرق عنه حلمه ولا أنت بالصغير الذي لم يستكمل عقله ولم يبلغ حلمه، غدًا أغطِّسك في المعمودية غطسة تخرج منها كيوم ولدتك أمك!

= قال الشيخ: وما هذه المعمودية؟
# قال القس: ماء مقدس.
= قال الشيخ: من قدسه؟
# قال القس: قدسته أنا والأساقفة قبلي.
= قال الشيخ: فهل كان لكم ذنوب وخطايا؟
# قال القس: نعم؛ غير أنها كثيرة.
= قال الشيخ: فهل يقدِّس الماءَ من لا يقدِّس نفسه؟ [يعني: لا تقدرون على تطهير أنفسكم بأنفسكم، فكيف تقدسون الماء]؟
# قال: فسكت القس؛ ثم قال: إني لم أقدسه أنا!
= قال الشيخ: فكيف كانت القصة إذن؟
# قال القس: إنما كانت سنة من عيسى بن مريم.
= قال الشيخ: فكيف كان الأمر؟
# قال القس: إن يحيى بن زكريا أغطس عيسى ابن مريم -عليهم السلام- بالأردن غطسة، ومسح برأسه ودعا له بالبركة.

= قال الشيخ: فاحتاج عيسى إلى يحيى يمسح رأسه ويدعو له بالبركة؟! فاعبدوا يحيى، فيحيى خير لكم من عيسى إذن؟
# فسكت القس..
■ فاستلقى بشير على فراشه، وأدخل كمَّه في فيهِ وجعل يضحك؛ قال للقس: قم أخزاك الله، دعوتك لتنصره فإذا أنت قد أسلمت!

قال: ثم إن أمر الشيخ بلغ الملك؛ فبعث إليه..

فقال الملك للشيخ: ما هذا الذي قد بلغني عنك وعن تنقصك ديننا ووقيعتك؟
= قال الشيخ: إن لي دينا كنت ساكتا عنه، فلما سئلت عنه لم أجد بدا من الذب عنه.
قال الملك: فهل في يدك حجج؟
= قال الشيخ: نعم! ادع إليَّ من شئتَ يحاججني؛ فإن كان الحق في يدي؛ فلم تلومني عن الذب عن الحق؟ وإن كان الحق في يديك، رجعتُ إلى الحق.

فدعا الملك بعظيم النصرانية؛ فلما دخل عليه سجد له الملك ومن عنده أجمعون.
= قال الشيخ: أيها الملك، من هذا؟
قال الملك: هذا رأس النصرانية، هذا الذي تأخذ النصرانية دينها عنه.

= قال الشيخ: فهل له من ولد، أم هل له من امرأة، أم هل له من عقب؟
قال الملك: ما لك أخزاك الله! هذا أزكى وأطهر أن يدنَّس بالحيض! هذا أزكى وأطهر من ذلك.

= قال الشيخ: فأنتم تكرهون لآدميٍّ يكون منه ما يكون من بني آدم من الغائط والبول والنوم والسهر، وما بأحدكم من ذكر النساء، وتزعمون أنَّ رب العالمين سكن في ظلمة الأحشاء وضِيق الرَّحم ودنِّس بالحيض؟

# قال القس: هذا شيطان من شياطين العرب رمى به البحر إليكم؛ فأخرجوه من حيث جاء.

= فأقبل الشيخ على القس، فقال:
عبدتم عيسى ابن مريم أنه لا أب له؛ فهذا آدم لا أب له ولا أم، خلقه الله عز وجل بيده وأسجد له ملائكته؛ فضموا آدم مع عيسى حتى يكون لكم إلهان اثنان!؟
فإن كنتم إنما عبدتموه لأنه أحيا الموتى؛ فهذا حزقيل تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل، لا ننكره نحن ولا أنتم، مرَّ بميت فدعا الله عز وجل له فأحياه حتى كلمه؛ فضُمُّوا حزقيل مع عيسى حتى يكون لكم حزقيلُ ثالث ثلاثة!
وإن كنتم إنما عبدتموه لأنه أراكم العجَب، فهذا يوشع بن نون قاتلَ قومَه، حتى غربت الشمس؛ قال لها: ارجعي بإذن الله؛ فرجعت اثني عشر برجا؛ فضُمُّوا يوشع بن نون مع عيسى يكون لكم رابع أربعة!

وإن كنتم إنما عبدتموه لأنه عُرج به إلى السماء، فمن ملائكة الله عز وجل مع كل نفس؛ اثنان بالليل واثنان بالنهار يعرجون إلى السماء، ما لو ذهبنا نعدهم لالتبس علينا عقولنا واختلط علينا ديننا وما ازددنا في ديننا إلا تحيرا!؟
= ثم قال الشيخ: أيها القس: أخبرني عن رجل حل به موت، أيكون أهون عليه أو القتل؟
# قال القس: القتل.
= قال الشيخ: فلم لم يَقتل عيسى أمَّه، عذَّبها بنزع النفس؟ إن قلتَ إنه قتلها؛ فما برَّ أمَّه مَن قتلَها!؟ وإن قلتَ إنه لم يقتلها؛ ما بر أمَّه مَن عذَّبها بنزع النفس؟!

# قال القس: اذهبوا به إلى الكنيسة العظمى، فإنه لا يدخلها أحد إلا تنصر!
قال الملك: اذهبوا به.
= قال الشيخ: لماذا يُذهَب بي ولا حجة علي دحضت؟
قال الملك: لن يضرك، إنما هو بيت من بيوت ربك عز وجل، تذكر الله عز وجل فيه.
= قال الشيخ: إن كان هكذا فلا بأس.

قال: فذهبوا به؛ فلما دخل الكنيسة، وضع أصبعيه في أذنيه ورفع صوته بالأذان؛ فجزعوا لذلك جزعا شديدا وضربوه ولبَّبوه وجاءوا به إلى الملك؛ فقالوا: أيها الملك! أحلَّ بنفسه القتل!
فقال له الملك: لم أحللت بنفسك القتل؟
= فقال الشيخ: أيها الملك، أين ذُهِب بي.
قال الملك: ذهبوا بك إلى بيت من بيوت الله عز وجل لتذكر فيه ربك عز وجل!
= قال الشيخ: فقد دخلتُ وذكرتُ ربي بلساني وعظَّمتُه بقلبي، فإن كان كلما ذكر الله في كنائسكم يصغر دينكم؛ فزادكم الله صغارا!
قال الملك: صدق، ولا سبيل لكم عليه.

قالوا: أيها الملك! لا نرضى حتى تقتله.
= قال الشيخ: إنكم متى قتلتموني، فبلغ ذلك ملكنا؛ وضع يده في قتل القسيسين والأساقفة، وخرَّب الكنائسَ وكسر الصلبان ومنع النواقيس.
قال: فإنه يفعل؟
= قال: نعم! فلا تشكوا!
ففكروا في ذلك؛ فتركوه.

= قال الشيخ: أيها الملك! ما عاب أهلُ الكتابِ على أهل الأوثان؟
قال الملك: بما عبدوا ما عملوا بأيديهم.
= قال الشيخ: فهل أنتم تعبدون ما عملتم بأيديكم، هذا الذي في كنائسكم؟ فإن كان في الإنجيل؛ فلا كلام لنا فيه، وإن لم يكن في الإنجيل فلم تَشبَّه دينَك بدين أهل الأوثان؟

قال الملك: صدق؛ هل تجدون في الإنجيل؟
# قال القس: لا.
قال الملك: فلم تَشبَّه ديني بدين أهل الأوثان؟
فأمر بنقض الكنائس؛ فجعلوا ينقضونها ويبكون.

# قال القس: إن هذا لشيطان من شياطين العرب، رمى به البحر إليكم؛ فأخرجوه من حيث جاء؛ فلا يقطر من دمه قطرة في بلادكم؛ فيفسد عليكم دينكم؛ فوكلوا به رجالًا؛ فأخرجوه إلى بلاد دمشق، ووضع الملك يده في قتل القسيسين والأساقفة والبطارقة حتى هربوا إلى الشام لأنهم لم يجدوا أحدًا يحاجه) انتهى.

ما بين المعقوفات زيادتي، وأضفت كلمات كـ(الشيخ) (الملك) لتوضيح القائل، بلا معقوفات، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________________________
(1) هو إن شاء الله: ابن عبد الرحمن البصري، كما استظهر الشيخ نظام يعقوبي، في تحقيقه للجزء المنقول عنه.
أقول: توفي عام 152، وهو من تلامذة الحسن البصري ومحمد بن سيرين، ومن مشايخ حماد بن سلمة ووكيع ويحيى القطان وابن مهدي والطبقة، ووثقه أحمد بن حنبل، وقال شعبة: هو أصدق الناس، وقال أبو داود: كان يختم في ليلتين، فهو من العلماء العباد الصادقين.
  • 0
  • 0
  • 27

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً