الحنين إلى مصر عشر سنوات من الغربة قضاها موسى في صحراء مدين الواسعة بين جبالها ورمالها وخشونة ...
منذ 2017-08-12
الحنين إلى مصر
عشر سنوات من الغربة قضاها موسى في صحراء مدين الواسعة بين جبالها ورمالها وخشونة عيشها، يعتني بأسرته الصغيرة وماشيته طوال النهار، وفي الليل يختلي بنفسه ليقف متفكراً في بديع خلق الله، متعبداً له على دين وشريعة جده الأكبر إبراهيم عليه السلام.
مرَّت الآن عشرة أعوام بحلوها ومرها، أتم بهن العقد الرابع من عمره، وقد قضى بذلك حِجَج حَميه بالزيادة، وها هو الآن يفكر في الاستجابة لمشاعر الشوق التي تدفعه منذ فترة لأخذ قرار العودة إلى مصر، بعدما وفى ما عليه.
ولست أُقَدِر كيف يجعله مثل هذا الخاطر يغامر تلك المغامرة، ويخوض هذه المخاطرة، متناسياً ولو للحظات النفس التي قتلها هناك، بل ومتناسياً فرعون الذي كان يتآمر مع الملأ من قومه ليقتلوه؟! لعله ظن أن تلك السنوات العشر قادرة على تبديل الناس وطمس الوجوه، وبالتالي لن يعرفه أحد من الملأ إن عاد إلى مصر؟!، أو لعل ازدياد الميل الفطري لمجاورة الأهل والعشيرة، والحنين الزائد لبلد المنشأ والمولد - حتى وإن كان أهلها ظالمون - جعله لا يطيق المقام في الغربة ؟!
كل هذه الاحتمالات واردة .. وقد صدق الشاعر إذ يقول:
بلاد ألفناها على كل حالة
وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن
وتستعذب الأرض التي لا هوى بها
ولا ماؤها عذب ولكنها وطن !
المهم أن الحنين إلى مصر زاد في قلبه، وحلم العودة إلى حضن أسرته وإخوته يزداد يوماً بعد يوم، فحسم أمره واستأذن من صهره -والد زوجته- في أن يعود لمصر بزوجته وولده(1)، ليستقر فيها.
فأذن لهم الشيخ الكبير على مضض؛ لما لمسه من موسى من تصميم وعزم جاد على العودة إلى مصر.
جمع موسى أشتات متاعه مع زوجته وهيأ رحله، وعندما تحيّن وقت صفاء ووضوح نجوم السماء، ودّعوا الشيخ .. فبارك ترحالهم ودعا لهم بخير .. وانصرفوا..
الطريق إلى مصر
ها هو ذا عائد إلى مصر وقد سار بأهله نحو الجنوب على هَدي النجوم، حتى وصلوا عند طور سيناء، فلما حل عليهم الليل بظلامه، تلبدت السماء بالغمام، واستترت نجومها خلف السحاب الداكن !
فضل موسى الطريق لعدم رؤية النجوم التي كان يهتدي بها في طريقه(2)، ثم بدأت السماء تمطر مطراً شديداً، واشتد البرد القارص !
فتوقف موسى عن السير، وأناخ النوق بجانب صخرة بوادي طوى، وجلس بمن معه ليستريحوا هناك إلى أن تصفو السماء، أو يبيتوا في أماكنهم إلى أن يشرق النهار ويبصر طريقه فيرتحل؛ لذا حاول أن يشعل لهم ناراً يستدفئون بها إلى أن يتخذ القرار المناسب بالرحيل أو المبيت، فظل يحاول أن يشعل النار فلم تشتعل !!
فألم به الهم – كحال أي إنسان حل عليه الظلام وليس معه ما يستضيء به - ولكن عناية الله أدركته ..
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان !
فبينما هو يحاول أن يشعل النار، إذا به يرى ناراً مشتعلة بجانب جبل الطور، فقرر أن ينطلق إليها وحده، وأن يدع أهله حيث هم، ﴿ فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ﴾ طه:10
وفي قوله المتكرر لأهله: «امْكُثُوا»، «امْكُثُوا»(1) - هو تأكيد لهم بأن يظلوا مكانهم، وألا يتحولوا عنه، لأنه لا يدرى من يكون عند النار، فلربما كانوا ركباً مسافراً، أو قطّاع طريق؛ إذاً فمن الحكمة أن يذهب وحده، ويتحسس أمرهم وخبرهم، من غير أن يقحم أهله ويدفع بهم إلى هذا المصير المجهول، ثم أشرك زوجته بأدبه العالي فيم يفكر ويخطط له فقال:
﴿ سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ النمل:7
﴿ لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ﴾ طه:10
فهو يريد أن يأتي بقبس مشتعل من هذه النار ليستدفئوا به إن قررا المبيت، أو يهتدوا به في طريقهم إن قررا الارتحال ..
اتكأ موسى على عصاه، وذهب إلى حيث يرى النار ..
ولكن العجيب أن موسى عليه السلام عندما اقترب من النار لم يجد عندها أحداً من الناس،، ووجد النار تزداد اشتعالاً رغم هبوب الرياح ونزول الأمطار!
فأبطأ خُطواته واتجه نجوها وهو يدقِّق النظر ..
فلما صار قاب قوسين أو أدنى أدرك أن توهجها ليس ناراً، بل وميض فسفوري مُشِع يَسير بداخل أفرعها سير الدماء في الشرايين !
- ﴿ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ النمل:7
فاستوقفته هذه الكلمات التي زادت المكان هيبة وخشوعاً وتلفَّت حَوله مضطرباً، فلم يرى شيئاً !
عشر سنوات من الغربة قضاها موسى في صحراء مدين الواسعة بين جبالها ورمالها وخشونة عيشها، يعتني بأسرته الصغيرة وماشيته طوال النهار، وفي الليل يختلي بنفسه ليقف متفكراً في بديع خلق الله، متعبداً له على دين وشريعة جده الأكبر إبراهيم عليه السلام.
مرَّت الآن عشرة أعوام بحلوها ومرها، أتم بهن العقد الرابع من عمره، وقد قضى بذلك حِجَج حَميه بالزيادة، وها هو الآن يفكر في الاستجابة لمشاعر الشوق التي تدفعه منذ فترة لأخذ قرار العودة إلى مصر، بعدما وفى ما عليه.
ولست أُقَدِر كيف يجعله مثل هذا الخاطر يغامر تلك المغامرة، ويخوض هذه المخاطرة، متناسياً ولو للحظات النفس التي قتلها هناك، بل ومتناسياً فرعون الذي كان يتآمر مع الملأ من قومه ليقتلوه؟! لعله ظن أن تلك السنوات العشر قادرة على تبديل الناس وطمس الوجوه، وبالتالي لن يعرفه أحد من الملأ إن عاد إلى مصر؟!، أو لعل ازدياد الميل الفطري لمجاورة الأهل والعشيرة، والحنين الزائد لبلد المنشأ والمولد - حتى وإن كان أهلها ظالمون - جعله لا يطيق المقام في الغربة ؟!
كل هذه الاحتمالات واردة .. وقد صدق الشاعر إذ يقول:
بلاد ألفناها على كل حالة
وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن
وتستعذب الأرض التي لا هوى بها
ولا ماؤها عذب ولكنها وطن !
المهم أن الحنين إلى مصر زاد في قلبه، وحلم العودة إلى حضن أسرته وإخوته يزداد يوماً بعد يوم، فحسم أمره واستأذن من صهره -والد زوجته- في أن يعود لمصر بزوجته وولده(1)، ليستقر فيها.
فأذن لهم الشيخ الكبير على مضض؛ لما لمسه من موسى من تصميم وعزم جاد على العودة إلى مصر.
جمع موسى أشتات متاعه مع زوجته وهيأ رحله، وعندما تحيّن وقت صفاء ووضوح نجوم السماء، ودّعوا الشيخ .. فبارك ترحالهم ودعا لهم بخير .. وانصرفوا..
الطريق إلى مصر
ها هو ذا عائد إلى مصر وقد سار بأهله نحو الجنوب على هَدي النجوم، حتى وصلوا عند طور سيناء، فلما حل عليهم الليل بظلامه، تلبدت السماء بالغمام، واستترت نجومها خلف السحاب الداكن !
فضل موسى الطريق لعدم رؤية النجوم التي كان يهتدي بها في طريقه(2)، ثم بدأت السماء تمطر مطراً شديداً، واشتد البرد القارص !
فتوقف موسى عن السير، وأناخ النوق بجانب صخرة بوادي طوى، وجلس بمن معه ليستريحوا هناك إلى أن تصفو السماء، أو يبيتوا في أماكنهم إلى أن يشرق النهار ويبصر طريقه فيرتحل؛ لذا حاول أن يشعل لهم ناراً يستدفئون بها إلى أن يتخذ القرار المناسب بالرحيل أو المبيت، فظل يحاول أن يشعل النار فلم تشتعل !!
فألم به الهم – كحال أي إنسان حل عليه الظلام وليس معه ما يستضيء به - ولكن عناية الله أدركته ..
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان !
فبينما هو يحاول أن يشعل النار، إذا به يرى ناراً مشتعلة بجانب جبل الطور، فقرر أن ينطلق إليها وحده، وأن يدع أهله حيث هم، ﴿ فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ﴾ طه:10
وفي قوله المتكرر لأهله: «امْكُثُوا»، «امْكُثُوا»(1) - هو تأكيد لهم بأن يظلوا مكانهم، وألا يتحولوا عنه، لأنه لا يدرى من يكون عند النار، فلربما كانوا ركباً مسافراً، أو قطّاع طريق؛ إذاً فمن الحكمة أن يذهب وحده، ويتحسس أمرهم وخبرهم، من غير أن يقحم أهله ويدفع بهم إلى هذا المصير المجهول، ثم أشرك زوجته بأدبه العالي فيم يفكر ويخطط له فقال:
﴿ سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ النمل:7
﴿ لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ﴾ طه:10
فهو يريد أن يأتي بقبس مشتعل من هذه النار ليستدفئوا به إن قررا المبيت، أو يهتدوا به في طريقهم إن قررا الارتحال ..
اتكأ موسى على عصاه، وذهب إلى حيث يرى النار ..
ولكن العجيب أن موسى عليه السلام عندما اقترب من النار لم يجد عندها أحداً من الناس،، ووجد النار تزداد اشتعالاً رغم هبوب الرياح ونزول الأمطار!
فأبطأ خُطواته واتجه نجوها وهو يدقِّق النظر ..
فلما صار قاب قوسين أو أدنى أدرك أن توهجها ليس ناراً، بل وميض فسفوري مُشِع يَسير بداخل أفرعها سير الدماء في الشرايين !
- ﴿ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ النمل:7
فاستوقفته هذه الكلمات التي زادت المكان هيبة وخشوعاً وتلفَّت حَوله مضطرباً، فلم يرى شيئاً !