موسى وهارون داخل القصر الفرعوني وصل الرسولان إلى قصر فرعون ودخلا عليه عندما أُذن لهما بالدخول، في ...

منذ 2017-08-12
موسى وهارون داخل القصر الفرعوني
وصل الرسولان إلى قصر فرعون ودخلا عليه عندما أُذن لهما بالدخول، في مراسم كلها هيبة وإجلال فهما سيدخلان على الفرعون الإله، وسيخوضان مواجهة عنيفة مع فرعون وملئه بهذه الحقيقة الواحدة، التي واجه بها كل نبي- قبله أو بعده- عقائد الجاهلية الفاسدة..
هذه المواجهة التي لا تعني – بالنسبة لهما– إلا التمرد على النظام، والثورة على فرعون وملئه؛ فإن ربوبية الله للعالمين التي جاءا بها تعني- أول ما تعني- إبطال شرعية كل حكم يزاول السلطان على الناس بغير شريعة الله وأمره، وإعلان تحرير الإنسان من الخضوع والطاعة والتبعية والعبودية لغير الله؛ تعني تحرير الإنسان من شرع البشر، ومن هوى البشر، ومن تقاليد البشر، ومن حكم البشر للبشر؛ إلى حكم الله وحده.
مفاهيم استقاها الرجل العربي- بفطرته وسليقته- حين سمع رسول الله يدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقال: «هذا أمر تكرهه الملوك!»؛ بل وقال له رجل آخر من العرب بفطرته وسليقته: «إذن تحاربك العرب والعجم».
لقد كان هذا العربي وذاك يفهمان مدلولات لغتهم، كانا يفهمان أن شهادة أن لا إله إلا الله تعني ثورة على الحاكمين بغير شرع الله عرباً كانوا أم عجماً، فما كان أحد منهم يفهم أنه يمكن أن تجتمع في قلب واحد، ولا في أرض واحدة، شهادة أن لا إله إلا الله، مع الحكم بغير شرع الله! فيكون هناك آلهة مع الله! ما كان أحد منهم يفهم شهادة أن لا إله إلا الله كما يفهمها اليوم من يدعون أنفسهم «مسلمين» ذلك الفهم الباهت التافه الهزيل!
ولأهمية هذا اللقاء وهذه المواجهة، قد سجلها القرآن في مواضع كثيرة اختلفت بسطاً وإيجازاً ولكنها لم تختلف من حيث المحتوى والمضمون والموضوع؛ فلقد حاول فرْعون بكلِّ وسيلةٍ أن يخرج من حوار الفكْرة إلى اتِّهام الشخص، ولكن موسى - عليه السلام - استطاع في كلِّ مرَّة أن يُعيد الحوار إلى الفِكْرة، وأن يتجاوز محاولات "الشَّخصنة "حتى انتصر.
تعالوا بنا نشاهد ما حدث عن قرب ...
مناظرة موسى مع فرعون
دخل موسى وهارون إلى حيث يجلس فرعون وملؤه وحاشيته، وسط نظرات احتقار – متبادلة – من فرعون وملئه لموسى وهارون، نظرات رسمت على وجوه الحضور عدة أسئلة لعل أبرزها ما الذي جاءا في طلبه ؟!، وما الذي حدث لموسى طوال هذه الفترة من الزمن ؟!، ولماذا عاد وهو يعلم أننا سنقتله بالرجل الذي قتله ؟!، وما هذه الملابس الرديئة التي يلبسها موسى، وما هذه العصا التي يمسكها بيده ؟!!
نظرات قصدوا بها هزيمة موسى - عليه السلام - نفسياً قبل أن يبدأ بالكلام؛ وبعد لحظات الصمت المشحون بكل هذه الأسئلة، أشار فرعون بأصبعه لموسى كي يقترب، ثم بدأ بالكلام معه متجاهلاً هارون، وموجهاً كلامه لموسى فقط قائلاً: ما الذي جاء بك ؟!!
فقال موسى بكل ثبات وثقة: لم آتيك وحدي، بل جئتك أنا وأخي برسالة من السماء أمرنا الله بتبليغها لك: ﴿ إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسرائيل وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إلينا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ طه:48، فلتدع بني إسرائيل وشأنهم، لنمضي بهم إلى حيث يشاء الله، بعيداً عن محيط ملكك وسلطانك، والسلام ينتظر كل من اتبع الهدى الذي معنا، كما أن العذاب ينتظر كل من يرفضه.
ثم سأله موسى فقال:﴿ … هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ النازعات:19.
الجولة الأولى
فرد فرعون تاركاً مضمون الفكرة - وكأنه لم يسمع شيئاً - بل وكأنه لا يرى هارون واقفاً أصلاً، مشيراً بسبابة الاتهام إلى موسى قائلاً: ومن أنت حتى تجيء إلينا اليوم في صورة مبعوث سماويّ تريد هدايتنا؟ ﴿ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ الشعراء:18، ألست ربيب نعمتنا، وغذىّ فضلنا وإحساننا؟ كيف تجئ إلينا من هذا العلوّ، وتطلب إلينا هذا الطلب، الذي هو من خاصة شئوننا، ومن بعض سلطاننا في رعيتنا؟
ثم كيف تتحدث معي بهذه الجرأة وقد سبق ﴿ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ﴾ الشعراء:19 من الاعتداء بالقتل العمد على أحد رجال قصري الأبرياء ﴿ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ الشعراء:19 بنعمى وإحساني عليك !!
وظن فرعون بعلو صوته أن هذه الكلمات نزلت كالأسهم ترشق جنبات موسى لتغتاله نفسياً فموسى بالفعل ارتكَبَ هذه الأخْطاء في حياته السَّابقة، وقد وُضِع الآن في مأزق الفضل، كما وضع في مأزق "البدعة"؛ فلقد لبِث سنين من قبل في مصر ولم يجهر بمثل هذه "الأفكار الدخيلة" كما يسميها فرعون؛ وقد كانت هذه أولى مُحاولات فرعون لـ "شخصنة الموضوع".، ولكن هيهات.. هيهات .. فموسى يقف في معية الله الذي أطلق لسانه بكلمات قصيرة وبليغة جعلت اتهامات فرعون له تنقلب ضده وتشل لسانه عن فتح هذا الموضوع مرة أخرى.
فقال موسى معترفاً: ﴿ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالينَ﴾ الشعراء:20، إذ كانت هذه الفعلة التي تستنكرها وتتحاشى أن يذكرها لسانك أثر من آثار تربيتي في قصرك ومجتمعك الذي لا ترعى للدماء فيه حرمة، وأنت من رباني على هذا، ومع ذلك أنا لما قتلته خطأ وبلغني أنكم تتآمرون علىً، ما وجدت بُداً من الفرار ﴿ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾ الشعراء:21، طالباً النجاة لنفسي، هارباً من هذا الظلم الممنهج في دولتكم ﴿ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ الشعراء:21، فرأيت الهدى وأبصرت النور الذي لو بقيت فيكم أبد الدهر ما نالني أبداً.
ثم عاد موسى بالحوار إلى موضوع الرسالة التي ترفض الاستعباد وتسعى لكسب الحرية فقال: وأي نعمة تمنها عليّ في بقائي عندك؟ ﴿ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا على أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إسرائيل﴾ الشعراء:22؛ هل تربيتي عندك بعيداً عن أبويّ نعمة ؟!
لقد كانت تربيتي في بيتك وليداً من جراء استعبادك لبني إسرائيل، وقتلك لأبنائهم، مما اضطر أمي أن تلقيني في تابوت سحبه الماء إلى قصرك، فتربيت في بيتك بعيداً عن بيت أبويّ !
فهل تربيتي بعيداً عن أبويّ نعمةً تمنّ ؟! هل عطفك على فرد وإذلالك لشعب كامل نعمة تُمنّ ؟! هل هذا هو فضلك العظيم؟!
كلمات جاب صداها الرنان كل ركن من أركان قصر فرعون، قالها موسى بطريقة لبقة ذات اتزان في الصوت، وتناسق في الحركات والإشارات، فقلب الاتهامات الموجهة له إلى سكين ذبح بها غرور فرعون - من الجولة الأولى - فأصبح الطالب مطلوباً، والمدّعىِ متّهماً.
الجولة الثانية
فاضطرَّ فرعون أن يعود إلى الفكرة ولكنَّه قفز على موضوع اضطِهاده لبني إسرائيل، متجاهلاً اتهامات موسى له، ناقلاً الحوار بعيداً عن هذا المجال الذي خسره، وسأل عمَّا ظنَّ أنَّه يُمكن أن يجادل فيه فقال منكراً ومتهكماً:﴿ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾ طه :49، الذي تصفه بأنه ﴿ رَبُّ الْعَالَمِينَ !!﴾ الشعراء:16
فأعطاه موسى جوابًا واضحًا وعمليًّا، ولم يحاول تقديم "تعريف نظري"، أو أن يصِف الله بما يمكن أن يدَّعيه فرعون؛ فقال موسى: إنه رب هذا الكون الهائل الذي لا يبلغ إليه سلطانك ولا علمك﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ الشعراء:24.
فنظر فرعون لمن حوله ساخراً من كلام موسى وقال:﴿ أَلا تَسْتَمِعُونَ!!﴾ الشعراء:25، إن موسى طريح الماء أصبح رسولاً ! ثم ضحك ضحكات متصاعدة، وضحك من حوله لضحكه سخرية من موسى عليه السلام ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ﴾ الزخرف:47.
لم يعبأ موسى بضحكاتهم وسخريتهم منه وواصل حديثه الذي قطع ضحكاتهم وزلزل قلوب بعضهم فقال:﴿ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾ الشعراء:26، الذي كان يرعاكم ويرعى آباءكم قبل أن يولد فرعون! فمن كان من قبله إلا الله رب للعالمين ؟!
وكانت هذه الكلمات قاصمة لفرعون فما طاق عليها صبراً؛ فقطع فرعون صمتهم الذي تحركت فيه عقولهم وقلوبهم، وعاد إلى"شخصنة" الحوار واتِّهام المتحدث فقال: مالكم تستمعون إلى كلامه وكأنه عاقل﴿ ... إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إليكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ الشعراء:27.
ولكن يبدو أن اتهام فرعون لموسى بالجنون لم يرُق لبعضهم، فما هذا بكلام المجانين؛ فتوجهوا لموسى بأنظارهم كأنهم يقولون له: أكمل.. أكمل!
فقال موسى- عليه السلام - وهو يتصفح وجوههم ويهز عقولهم: إن ربي يملكُ فرعون وما ملك، فإن لربي مُلك ما أشرقت عليه الشمس وغربت ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ الشعراء:28، فخيم الصمت على الحضور حتى كاد دبيب النملة على الأرض أن يُسمع!
فاسترسل موسى في وصف ربه فقال: ربي الذي أوجد الوجود وخلق الخلائق، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، من حيث كبر الجسم وصغره وتوسطه ﴿ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ طه:50، فبعد أن خلق ربنا المخلوقات هدى كل مخلوق إلى ما خلقه له، فتجدون الطفل يخرج - وهو لا علم له- فيرضع من أمه بفضل هداية الله له، وتجدون النحلة تطوف لتجمع الرحيق من كل مكان ثم تعود به إلى خليتها ولا تخطئها، وتجدون الأسد الهصور رحيماً بأولاده، فهل فرعون هو الذي هدى هؤلاء إلى هذه الأعمال؟
فقطع فرعون إنصاتهم لموسى للمرة الثانية، ونقل الحديث إلى موضوع آخر، ليقطع على موسى ترتيب أفكاره ويشتت ذهنه ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾ سورة طه:51، أين ذهبت، وما قصتها ؟.
ففهم موسى - عليه السلام - أن فرعون بخبثه ولؤمه يريد أن يبعده عن غايته التي جاء من أجلها، فكانت إجابته مختصرة جداً ﴿ قَالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى﴾ طه:50، ثم توجه بنظره مرة أخرى للملأ من قوم فرعون ليعرفهم بإلهه فقال أما إلهي فهو: ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾ طه:54.
لقد فطن موسى إلى ما يريده فرعون، فصمم على هدفه ولم يلتفت للفرعيات التي حاول أن يقحمه فيها.
الجولة الثالثة
نفذ صبر فرعون، وجن جنونه، فقد استطاع موسى بأدبه الجم، وبراعته في العرض أن يوقظ ضمائرهم وينشط عقولهم، وإن كل طاغية ظالم لا يخشى شيئا كما يخشى من يقظة الشعوب، وصحوة القلوب؛ ولا يكره أحداً كما يكره الداعين إلى الوعي واليقظة، ولا ينتقم من أحد كما ينتقم من هؤلاء الذين يهزون الضمائر ويزلزلون القلوب؛ فقرر أن ينهي الحوار، وينتقِل من قوَّة المنطق – التي فشل فيها - إلى منطق القوَّة؛ فقام من على عرشه واقفاً يصرخ في موسى صرخة تهديد ووعيد هزت أركان القصر، قائلاً:﴿ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ الشعراء:29.
فقال موسى - عليه السلام - مستخدماً أسلوب الإثارة والتشويق: ﴿ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ﴾ الشعراء:30، يدل على أنني رسول من عند رب العالمين ؟!
لقد تحسس موسى نقاط الضعف عند خصمه - فرعون- قبل أن يناظره ولمس منه فضولاً زائداً، بدا واضحاً عندما عاد إلى مصر وأرسل لقصر فرعون طلباً لمقابلته وقد حظي طلبه بالقبول السريع! ففرعون يريد بفضوله أن يعرف السبب الذي جاء من أجله موسى فأخفى موسى ورقته الأخيرة – سر العصا – ليثير بها فضول فرعون إذا أراد أن ينهى اللقاء، أو إذا تأزم الحوار، فلما جاءت تلك اللحظة قال ﴿ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ﴾.
لذا سال لعاب فرعون شوقاً لرؤية ما يخفيه موسى فقال بلهفة: ﴿ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ الشعراء:31.
فرفع موسى عصاه ليحشد نظر الحاضرين إليها - فنظر فرعون ساخراً- فألقى موسى العصا على بلاط القصر، فاضطربت العصا وخرج منها رأس ثعبان، وكسي خشبها بجلد، وتضخمت، وازداد طولها وعرضها ﴿ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ﴾ الشعراء:32، نافخاً أوداجه، فاغراً فاه حتى بدا لسانه المشقوق، مصدراً فحيحاً مفزعاً ..
توقف الزمن لدقيقة قبل أن يشرع فرعون بالرجوع خطوة للوراء ..
فازداد الثعبان منه اقتراباً وعلواً حتى باتت عيناه المشقوقتان في مستوى رأس فرعون، ثم اهتز هزة عنيفة للأمام وصاح بفحيحه المفزع مرة أخرى ..
فما كان من فرعون إلا أنه هرول مسرعاً نحو عرشه يجلس عليه منكمشاً خائفاً، واضعاً رأسه بين رجليه يستنجد بموسى أن يبعد هذا الثعبان عنه؛ فانفضح أمر فرعون في نظر حاشيته لما بدا منه من خوف وذعر.
فلمس موسى – عيه السلام – ذيل الثعبان فانكمش وعادت عصاه كما كانت من فرع خشبي عتيق !
ومع نظرات انبهار ودهشة خرجت من أعين الحضور قال موسى: هذه هي معجزتي الأولى، أما الثانية فهذه يدي انظروا إليها!! – يرفعها أمامهم يستجمع بها نظرهم – ثم أدخلها في فتحة قميصه، ثم أخرجها ﴿ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ﴾ الشعراء:33، ترسل ضوءا مشرقاً كضوء الكوكب الدري في فحمة الليل، فازداد انبهار الحضور بموسى وإعجابهم به.
وهكذا ضُرب فرعون ضربة قاضية، ولم يدع له موسى – في الجولات الثلاثة - فرصة واحدة ليلتقط أنفاسه، فأصبح عاجزاً أمام براعة عرض موسى ومعجزتيه، ولكنه حفظاً لماء وجهه، مسح العرق المتصبب من جبينه واستجمع كلمتين يحاول بهما أن ينجو من المأزق الذي وقع فيه فقال:
ما لي أراكم لا تنطقون؟ سَحَرت أفاعيل هذا الساحر أعينكم ؟ ربيب القصر، ابن الخرائب يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره ثم قال: ﴿ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى﴾ طه:58.
فنظر موسى إلى هارون، وتبسم ساخراً من حالة فرعون التي لا يرثى لها، ثم قال: ﴿ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ طه:59.
ثم تركهم وانصرف مع هارون وهم في حالة ذهول تام مما رأوا، فصرخ فيهم فرعون قائلاً:
اعلما، لقد بدأتما حَرباً، عليكما تحمُل عواقبها، ومن ورائكم كل من يؤيدكما من قبيلتكم.
فلم يكترثا لكلامه .. وأكملا سيرهما ..
في طريق الخروج رافق الحرَّاس الأخوين عن بعد، ينظرون إليهما بهيبة وللعصا برعب، حتى مر موسى بالقرب من مسكنه الذي تربى فيه، فوقف يتأمله، جناحاً ملحقاً باستراحة الملكة "آسية"، التي وقفت منذ علمت بدخوله القصر تنتظره كي تطمئن عليه عندما يخرج.
آثار النعيم الذي تحيا فيه لم تغير من ملامحها شيئاً رغم مرور الزمن ..
احتضنت ولدها موسى فقبلها بين عينيها ..
قالت له: حسبت أنني لن أراك ثانية، حتى هرعت إليَّ خادمتي وأخبرتني بخبر ظهورك المفاجئ، أنسيت أمك يا موسى ؟
فقال لها: عار عليَّ أن أنساكِ يوماً، وأنتِ كل ما بقي لي في ذلك المكان.
قالت له: أين كنت هذه السنوات، وما الذي جئت في طلبه من فرعون ؟
نظر موسى للحراس الذين حاصروه وبدئوا يدفعوه للأمام ليلحق بأخيه هارون، ثم التفت لها وهم يجروه للخارج قائلاً:
لا أظن أن الحراس سيصبرون على بقائي داخل الأسوار إلى أن أخبرك، ولكنك ستعلمين من الخدم والحشم كل ما دار بيني وبين فرعون قبل قليل فقد استمعوا لمقالتي وعاينوا ما معي، ولنا موعد ولقاء يوم الزينة.

5790110a908f2

  • 0
  • 0
  • 388

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً