يوم الزينة .. يوم انتصار الحق النفس عادة في يوم العيد تكون مسرورة مبتهجة، وبالتالي يكون صاحبها ...

منذ 2017-08-12
يوم الزينة .. يوم انتصار الحق
النفس عادة في يوم العيد تكون مسرورة مبتهجة، وبالتالي يكون صاحبها أقرب لقبول الحق من أي وقت آخر، وقد اختار موسى وقت الضحى لتكون الرؤية أوضح، والجمع أحشد، والشهود أكثر، فتكون المقاضاة لفرعون على الملأ أمام الخلائق، ويتناقل الناس فضيحته من أول اليوم إلى آخره.
وصل الرسولان إلى الساحة المتفق عليها، فإذا بمئات الآلاف من المصريين يملئونها، ويجول موسى ببصره في هذه الساحة الواسعة ويذهل من تلك الحشود الضخمة من عوام المصريين التي جاءت تهتف باسم الفرعون، رغم ما تجرعوه من مرارة العيش في عصره؛ ولكن لا عجب! "فالعوام هم قوت المستبدُّ وقوته؛ بهم يصول وعليهم يطول! يأسرهم فيتهللون لشوكته؛ ويغصب أموالهم فيحمدون حكمته؛ ويُهِينُهم فيثنون على رفعته؛ ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته؛ إذا أسرف في أموالهم قالوا كريماً؛ وإذا قتّل منهم ولم يمثِّل بالجثث اعتبروه رحيماً "(2).
فعاليات اليوم
حين أضحى النهار نُفخ في البوق نفخة طويلة ومميزة مما يعني أن أمراً ما سيحدث ..
ترقب الناس حتى لاح موكب فرعون وكبار رجال دولته عن بعد، يسبقه حراس يفرقون الناس إلى الأطراف ويأمرونهم بالسجود لجلالة الملك الإله !
توقفت عربة هامان فنزل منها، ثم باقي عربات الملأ، ثم اقتربت العربة الملكية ..
نزل منها فرعون بزيِّ مزركش مُرصَع بالذهب، وفوق رأسه التاج وفي يده سيدة مصر الأولى السيدة آسية بنت مزاحم زوجته المحببة والمقربة إلى قلبه، نظر فرعون للرؤوس الساجدة، والظهور المنحنية في ذلة وصغار قبل أن يتجه إلى المنصة ليجلس على عرشه المًذهب.
أشار فرعون لحامل البوق أن ينفخ فيه نفخة أخرى ليرفع الناس رؤوسهم ..
وهنا اقترب هامان من فرعون وهمس في أذنه:
- المنصة جاهزة لكلمة معاليك يا فخامة الزعيم !
وبدأت فعاليات اليوم بكلمة يلقيها فرعون أمام هذه الجماهير الحاشدة مستخفاً بوزنهم، ومستغلاً لجهل بعضهم ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ الزخرف:54، فما الطاغية إلا فرد لا يملك في الحقيقة قوة ولا سلطاناً، وإنما هي الجماهير الغافلة الذلول, يمتطيها فيركبها! وتمُدُ له أعناقها فيجُرها! والجماهير تفعل هذا مخدوعة من جهة، وخائفة من جهة أخرى، وهذا الخوف لا ينبعث إلا من الوهم؛ فالطاغية - وهو فرد - لا يمكن أن يكون أقوى من الألوف، لو أنها شعرت بإنسانيتها وكرامتها وعزتها وحريتها.
كلمة فرعون في يوم الزينة
بدأ فرعون كلمته بقوله: أيها الناس أنا ما علمت لكم إلهاً غيري، ولا معبوداً سواي، أيها الناس ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ النازعات:23.
فاستقبلت الجموع الغفيرة من الشعب هذه الكلمات بوابل من التصفيق الحاد الذي استمر عدة دقائق، وفرعون يبتسم ويهز رأسه، ويشير بكفيه – كفى .. كفى-!!
وما كان فرعون يجرؤ أن يقول هذه الكلمات أبداً لو وجد أمة واعية, تعرف أنه عبد ضعيف لا يقدر على شيء! ولكنه لما وجد في شعبه من الغفلة ومن الذلة ومن خواء القلب من الإيمان, جرؤ على قول هذه الكلمة الكافرة الفاجرة: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ فما أسعد كل ديكتاتور يحكم شعباً لا يفكر.
ثم بدأ فرعون يبين لهم سر حضورهم في هذا الجمع المهيب، متغنياً بالحرية والديمقراطية، فلولاهما لكان قتل ربيب قصره - ابن خرائب بني إسرائيل- عندما أتاه هو وأخوه مدعيان أنهما رسولان من عند الله، ولكن من أجل إرساء مبدأ الحرية، جاء بهم إلى هذه الساحة وجمعهم ليسمعوا من وموسى ويحكموا عليه، هل هو ساحر أم نبي؟!
المبارزة الكلامية
وفي هذه الأثناء نظر موسى للسحرة الذين يتجهزون لمبارزته! وتقدم نحوهم - قبل بدء المباراة بينهم – ليُذكرهم بالله قبل أن يرتكبوا هذه الجريمة - جريمة مساندة الباطل والدفاع عنه – قائلاً: ﴿ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ﴾ طه:61.
فتغلغلت كلمات موسى عليه السلام في قلوبهم - فالنصيحة المخلصة تنفذ إلى القلب فتخترقه --؛ فاستشعروا أنهم لا يعادون ساحر، فما هذه بكلمات ساحر أو مشعوذ؛ فدب الخلاف بينهم؛ قال بعضهم لبعض: هذا الرجل ليس بساحر كما قيل لنا، ويبدو أن معه الحق، وتنازع طرف آخر الحديث فقالوا: لا .. بل هو يريد بهذه الكلمات أن يرهبنا فنخسر جولتنا معه وينتصر هو، وقال بعضهم: إن كان ساحراً فسنغلبه بقوتنا وجمعنا وإن كان على حق فسيغلبنا وعندها علينا أن نتبعه ﴿ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ طه:62.
وظل هذا الجدل السري يدور بينهم، حتى قطعه أحدهم فقال لهم: هل نسيتم ما قاله فرعون وهامان: ﴿ إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى﴾ طه:63، فتنبهوا لهما ولا يغرنكم معسول كلامهما ﴿ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ اسْتَعْلَى﴾ طه:64.
فوحد بهذه الكلمات صفوفهم، وشد بها من عزمهم..
ثم راحوا ينظمون طريقة عرض سحرهم، وهم يتعاهدون أن يبذل كل واحد منهم قصارى جهده في عمله، ولا يخفي شيئاً مما تعلمه من السحر حتى تنتهي المباراة بعلوهم وانتصارهم.
وبعد أن تجهزوا ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى﴾ طه:65، فرد موسى– بكل ثقة في نصر ربه - مستهيناً بما معهم: ﴿ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ﴾ يونس:80.
إنهم أعطوه الفرصة، فردها عليهم، ليُظهروا كل ما عندهم فيها، وكان ذلك عن حكمة وتدبير وتقدير؛ فلو بدأ موسى- وقد جعلوا هم الأمر إليه في اختيار من يأخذ المبادرة- لكان غير عادل معهم، إذ بدءوه بالإحسان! ولهذا فقد ردّ إليهم إحسانهم بإحسان، وأعطاهم حقّ المبادرة التي كان له أن يأخذها لنفسه.
ثم- من جهة أخرى- إن موسى عليه السلام كان واثقاً من تأييد الله ونصره له في هذا الموقف؛ فلو بدأ هو الجولة، وضرب السحرة ضربته، وأوقع بهم الهزيمة من قبل أن يعطوا ما عندهم ويبذلوا جهدهم، لقال الناس: لو أن السحرة أظهروا السّحر الذي في أيديهم أولا، لشلّوا حركة موسى، وضربوه الضربة القاضية، ولكنه بدأ قبلهم فكانت الضربة له، ولم تكن لهم!!
وهذا قول من السهل أن يقال وينتشر بين الناس في مثل تلك الحال، فتفاداه موسى بحكمة ربانية.

وتبدأ المعركة
ضُربت الطبول بهدير هزَّ الصدور، ونفخت النايات، وأعطى هامان لهم إشارة البدء ..
﴿ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ﴾ الشعراء:44.
فأعجب فرعون بهذه الكلمة وهز رأسه فرحاً ورضاً عمن قالوها ..
رفع السحرة أيديهم للسماء بقبضات مُغلقة، ثم ظلوا يرددون كلمات مبهمة، ثم فتحوا كفوفهم ونثروا منها شيئاً على عِصِيُّهُم وحبالهم التي ألقوها على الأرض، فاهتزت ثم تموجت وتلوت ببطء كأنها ثعابين وحيات تسعى(1) ﴿ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إليه مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾ طه:66، ضربت الدهشة الرءوس .. حبال وعِصِي تتحول إلى ثعابين لامعة، إذا رفع السحرة أيديهم لليمين وللشمال فتتحرك تبعاً لأوامرهم! ﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ﴾ الأعراف:116.
فوقف الناس مشدوهين منبهرين، ومنهم من صاح فرحاً، ومنهن من علا صوتها بالزغاريد، وضجت الساحة بفرحة كبيرة لِما كان من عرض رائع للسحرة وصفه الله فقال:
﴿ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ﴾ الأعراف:116، فقد نجحت هذه النخبة من السحرة في قلب صورة "الحبال والعصي" في أعين الناس لتبدوا لهم حيّات وثعابين عملاقة؛ وعلى نفس طريقة التزييف هذه، يقوم بعض إعلامي عصرنا الذين بلانا الله ببعضهم بإيهام الناس بأمور لا أساس لها من الصحة، فما يلفقونه في وسائل الإعلام للدعاة والمصلحين يبدو كأنه حقيقة للوهلة الأولى، ولكن ما يلبث أن يكتشف الناس زيفه لاحقا.
وبعض إعلاميو عصرنا يشتركون مع سحرة فرعون في خصيصة استرهاب الناس وسحر أعينهم وقلب الحقائق رأسا على عقب.(1)
اللحظة الفاصلة
بدأت الجماهير تهدأ، وانحبست الهمهمات ..
وقف هامان وقفة فخر وشموخ، وابتسم له فرعون ابتسامة المنتصر ..
نظر هارون لموسى نظرة تخوف من مآلات الأمور بعد النجاح الباهر الذي حققه السحرة، فارتجف قلب موسى تحت وطأة الشك، ﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ﴾ طه:67، فجاءته نجدة السماء، فربطت على قلبه، وثبتت قدمه، وذكرته بمقامه ..
لقد استمع لنفس الصوت الذي سمعه عند الشجرة .. سمعه يقول له: ﴿ لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ﴾ طه:86، فهدأت نفس موسى وقرة عينه، وثبتَّ هارون وشد من أزره.
ثم نظر إلى السحرة وأشار إلى ما ألقوه من ثعابين وحيات، وعلا صوته قائلاً:
﴿ مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ يونس:82، لتجوب هذه الكلمات الصادقة الساحة كلها، فدخلت في أذن كل من حضر وشاهد، فهزتهم هزاً، خاصة قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ﴾.
فإن الباطل لينتفش، ويسحر العيون، ويسترهب القلوب، ويخيل إلى الكثيرين أنه غالب، وإنه في الحقيقة لحقير صغير! وما هو إلا أن يواجه الحق الهادئ الواثق حتى ينفثىء كالفقاعة، وينكمش كالقنفذ، وينطفئ كالشمعة.
حانت اللحظة الفاصلة لبدء الجولة الثانية بتوقيت السماء ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ﴾ الأعراف:117، فأغمض موسى عينيه، وسحب نفساً عميقاً لصدره قبل أن يرفع عَصَاه إلى أعلى ليلقيها على أرض الساحة بين حيات السحرة وثعابينهم.
لحظات من السكون أيقظت الهمهمات مجدداً بين الناس، قبل أن تضطرب العصا وتهتز هزة عنيفة، ثم تحولت لثعبان أسود لامِع هو أكبر وأخطر من الذي رآه فرعون في قصره !
اضطرب قلب فرعون، وهلع هامان وانزوى بعيداً، وتيبس السحرة وهم ينظرون لبعضهم البعض غير مصدقين !
أصدر ثعبان موسى فحيحاً مفزعاً وبدأ يتحرك بسرعة البرق نحو ما رماه السحرة على الأرض ﴿ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ﴾ الأعراف:117، فلم تترك حبلاً ولا عصاً إلا التهمته في فمها الضخم، فركض جنود فرعون الذين كانوا يحيطون بأرض الساحة الداخلية من الفزع والرعب، وصرخ الناس تشجيعاً وتحميساً ..

5790110a908f2

  • 0
  • 0
  • 174

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً