السحرة من التحدي إلى الاستسلام لحظات رغم أنها مرت بسرعة البرق، إلا أنها أخذت الحاضرين في ذهول ما ...

منذ 2017-08-12
السحرة من التحدي إلى الاستسلام
لحظات رغم أنها مرت بسرعة البرق، إلا أنها أخذت الحاضرين في ذهول ما بعده ذهول، فرعون.. السحرة.. الجمهور.. الكل ينظر ولا يصدق ما يراه !
﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ﴾ الأعراف:119، وبدأ الكل ينكس رأسه ويرفع راية الاستسلام، فهذا هو الحق وما عداه هو الباطل، وأول من أيقن بذلك هم السحرة فلم يتمالكوا أنفسهم، وخروا ساجدين ..
﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ الشعراء:46.
إنه الإيمان لمس القلب فانتفض الجسم كله فجاء النور وأشرق الظلام !
لقد رأى السّحرة شيئا لم يكن من واردات السّحر الذي معهم، واستيقنوا أن ما مع موسى ليس من السحر في شيء، وأنه ليس في مقدور بشر أن يأتي به؛ فهو إذاً عمل من أعمال رب السّماء، وقدر من أقداره، أعطاه لموسى، ليكون شاهد صدق على أنه رسول من ربّ العالمين، فيحق الحق ويبطل الباطل؛ وتلك هي شهادة أهل الخبرة، وأصحاب الكلمة في هذا الأمر، وليس لأحد قول بعد قولهم، شهادة عجز كثير من إعلامي عصرنا على النطق بها, فهم - وعلى عكس الكثيرين منا كمواطنين عاديين - يرون الحقيقة أمامهم في الكواليس، ورغم رؤيتهم للحقيقة التي رآها من قبل سحرة فرعون, إلا أنهم لا يقرون بالحق أمام الناس، ولا يظهرون للناس الحقيقة التي يرونها أمامهم !
أعلن السحرة إسلامهم واستسلامهم أمام هذه القوة الخارقة، وبدأت أصواتهم تتعالى بهتافات يعلنون فيه انضمامهم إلى دين موسى، فهتف بعض السحرة فقالوا: ﴿ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ الشعراء:48، وهتف البعض الآخر فقال:﴿ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ﴾ طه:70
فلك أن تتخيل الساحة وهي تُرج بهذه الهتافات الحارة وبتلك الكلمات الخالدة(1)؛ والنبي موسى عليه السلام يهز رأسه وعيناه دامعتين من الفرح والسرور، قبل أن يضمه هارون إلى صدره ويدور به من شدة الفرح فقد ارتفعت راية الحق عالية خفاقة ..
فرعون ينتفض
أما فرعون ومن معه فهم في ذهول تام مما يرون ! فما دبره دمره؛ وما يراه لم يرد على خياله ! فمن كان يتوقع أن جماعة من رعايا فرعون، وعابديه، الذين ولدوا كما ولد آباؤهم- في ظل ربوبيته، وسلطان ألوهيته - أن يأتي اليوم الذي يقف فيه هؤلاء «العباد» في وجه هذا «الإله» موقف التحدّي، بل والاستخفاف والسخرية؟
ولكنه الإيمان الذي يصنع المعجزات، ويقلب الأوضاع والموضوعات!
والطواغيت الظلمة لا يدركون كيف يتسرب النور إلى قلوب البشر، ولا كيف تمازجها بشاشة الإيمان وحرارة اليقين؛ فهم لطول ما استعبدوا الناس يحسبون أنهم يملكون تصريف الأرواح وتقليب القلوب- وهي بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء- ومن ثم فقد فوجئ فرعون بهذا الإيمان الذي لم يسمع دبيبه في القلوب، ولم يتابع خطاه في النفوس، ولم يفطن إلى مداخله في شعاب الضمائر !
حاول فرعون أن يستدرك الأمر، ويشوش على الجماهير الحاضرة تفكيرهم فيما يقوله السحرة، وما رأوه من معجزة عظيمة جعلتهم يستغرقون في تفكير قد يقودهم إلى ما انقاد إليه السحرة؛ فوقف الزعيم يهدر صارخاً بكل قوة، وهو يشير إلى السحرة بإصبع الاتهام قائلاً:
﴿آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ﴾ طه:71، كيف ؟! كيف تصدقون موسى وتؤمنون بإلهه قبل أن تأخذوا الإذن مني؛ لقد فُضح أمركم أيها الخونة المتآمرون ..
﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ طه:71، وأنتم تنظيمه السري الذي يريد به ضرب استقرار مصر ووحدة شعبها، ﴿ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ﴾ الأعراف:123، وقد تواطأتم وتآمرتم معه سوياً ضد مصلحة الوطن للاستيلاء على حكمه، وإن الدولة ستتعامل معكم أيها المتآمرون بكل قوة وحزم وبدون أي تهاون .. ﴿ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ الشعراء:49.
ثم استل خنجره، واقترب من كبير السحرة وأمسكه من تلابيبه وقال له قبل أن يلقيه على الأرض: ﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ﴾ طه:71.
مشيراً إلى ما تهددهم به موسى قبل أن تبدأ المعركة، وذلك عندما قال لهم: «وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى». طه:61، فالعذاب الذي تهددهم به موسى، هو عذاب مؤجل ليوم القيامة، أما العذاب الذي سيأخذهم به فرعون، فهو عذاب حاضر وسيقع عليهم حالاً.
كلمات بأحكام تحمل من الوعيد ما يزلزل القلوب، ولكن أنًى لقلوب رسخ الإيمان فيها أن تهزها هذه الأحكام، إن النفوس إذا استحكم فيها الإيمان وتغلغل في عروقها؛ ستهون عليها الدنيا بمتعها، وستستهين بما تلاقيه من إيذاء في سبيل ربها؛ فما شاء الله كان - وما لم يشأ - لن يكون أبداً .
صمود وإصرار
وها هي الجماهير تنتظر رد السحرة على فرعون، فلعلهم – بعد ما قاله فرعون - يرجعون معتذرين إليه عما قالوه، لينجوا بأنفسهم من هذا العذاب المنتظر، فإذا بالمفاجأة..
التف السحرة حول كبيرهم، وأقاموه من على الأرض ثم نظروا لفرعون بأعين يملؤها التحدي والإصرار قائلين: ﴿ قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ ﴾ الشعراء:51، وبما أن هذه نيتنا وتلك هي رؤيتنا لما تتوعدنا به، لذا نعلنها لك بوضح أكثر.. ﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾. طه:73، فالعمر مضى، وقد رأينا فيه من إذلالك لنا ما رأينا، وحقيق علينا الآن وبعدما شاهدنا من آيات ربنا ما شاهدنا، أن ننهي أعمارنا بشرف.
ثم توجهوا بالكلام – الذي ألهموه من ربهم – ليقيموا الحجة عليه وعلى هذه الجماهير العريضة التي انتظرت ردهم فقالوا:
﴿ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ﴾.طه:76
وهنا يقف الطغيان عاجزاً أمام الإيمان، وأمام الوعي، وأمام الاطمئنان..
يقف الطغيان عاجزاً أمام القلوب التي خيل إليه أنه يملك الولاية عليها كما يملك الولاية على الرقاب! ويملك التصرف فيها كما يملك التصرف في الأجسام،ولكنه يجدها مستعصية عليه.
تنفيذ الحكم الإعدام
فصرخ فرعون صرخة المهزوم وقال لجنده: اقبضوا عليهم، واربطوهم في جذوع النخل، وامنعوا عنهم الطعام والشراب، ثم اقطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف، واطعموا أمعاءهم للكلاب، ليكونوا لمن خلفهم عبرة وآية.
وبدأ جنوده يتحركون لتنفيذ ما أمرهم به فرعون، والحضور يرقبون الحدث في صمت مخزٍ..
وما أقساه من حكم! إنها قتلة شنعاء، يجد فيها فرعون بعض الشفاء، لما فجعه به هؤلاء السحرة، الذين خذلوه في موقفه من موسى، ثم فاجئوه بإتباعهم له، وإيمانهم بربه؛ وبشاعة هذه القتلة في كون أن تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، لا يقضي على الكائن الحي فوراً، بل تظل الحياة فيه وقتاً أطول يعالج آلام الموت وسكراته، حيث أن الحركة الدموية ستظل تسري في نصف نصفه العلوي مع نصف نصفه السفلى المخالف له، ليظل القلب يعمل بشريان واحد من شرياني الحياة؛ وقد اختار لهم فرعون هذه القتلة بهذه الكيفية ليطيل عذابهم قبل موتهم.
فقد كان من بشاعة هذه القتلة أيضاً أنهم سيصلبون على جذوع النخل في الشوارع ليعانوا من ألمين، ألم تقطيع أطرافهم، وألم الوقوف أمام الناس أثناء تعذيبهم، فيمر هذا ليسخر منهم، ويمر ذاك فرميهم بالحجارة، وهذا يتهمهم بالخيانة والعمالة، وهذا يرى ما هم فيه من عذاب فيخاف ويتردد لكي لا يكون مصيره كمصيرهم!
ابتسامة الإصرار وأنشودة الصمود
وقبل غروب شمس هذا اليوم الحزين في تاريخ الإنسانية نُفذ فيهم حكم فرعون، وقُتل السحرة أمام الناس، وهم في قمة الصمود والثبات، وسالت دماؤهم الذكية على أرض مصر، ليقيموا الحجة على كل من يرى الظلم ويسكت عليه، ويرى الفاسد ويحابيه، ومضى هذا المشهد المفزع في تاريخ البشرية إعلاناً لحرية القلب البشري واستعلائه على قيود الأرض وسلطان الظلم، طمعاً في رضا الله والجنة.

5790110a908f2

  • 0
  • 0
  • 70

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً