أبو حذيفة المغربيّ خاض معركته على جبهتين؛ عائلته والمرتدّين... وانتصر! • مجاهد نحسبه من جيل لم ...
منذ 2024-09-25
أبو حذيفة المغربيّ خاض معركته على جبهتين؛ عائلته والمرتدّين... وانتصر!
• مجاهد نحسبه من جيل لم نألفه منذ مئات السّنين، جيل أولئك الذين نشروا الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، بعدما تخلّوا عن الدّنيا وزخرفها وزينتها، وهجروا أهليهم في طريقٍ ربّانيٍّ له قواعد لا بدّ لكلّ سالكٍ أنْ يدركها، فقد قضى الله -جلّ وعلا- أنْ تكون العبادة خالصةً له في هذا الطّريق، وأنْ يكون الأمر كلّه له، تعالى جدّه، لا ينازعُ سلطانه، الجنان ثوابه، والجحيم عقابه، فسبحانه!
أبو حذيفة المغربيّ، ذو الأربعة وعشرين عاماً، أدرك دقّة هذه القاعدة وعظمتها، فقرّر أنْ يسلك طريقاً لا يردّه عنه خوف أمٍ، أو خشية أبٍ، أو رجفة عشيرٍ، خصوصاً أنّه نشأ في كنف عائلةٍ يجمعها رباط أسريّ من نوعٍ فريدٍ، فلا يقوى فرد من العائلة على مغادرة أسوار العائلة لأيّام، لكنّ أبا حذيفة ليس كغيره، فكان أوّل تمرّده هو خروجه عن عرف البيت، وكسره لقاعدة أهله، فتمكّن من إقناع الأمّ والأب أن يعيناه على البحث عن مستقبل في مكانٍ آخر، ورغم أنّ الأمّ هي من كانت تعارض بشدّة أن يبتعد عنها فلذة كبدها، لكن حرصها على مستقبل الابن، الذي سهرت عليه لأيامٍ وليالٍ، جعلها تخضع لمتطلّبات الحياة، فتتخلّى عن عاطفة أمومتها، كما كانت ترى الأمر، فأن يخرج ابنها من دفء حضنها، إلى مدينة أخرى ويغيب عنها لأسبوع، فذاك من الصِعاب، بل هو المحال، فكيف بها وهي ستفارقه لأسابيع وأشهر وربما لسنين، لكنّه الإصرار من أبي حذيفة الذي جعلها توافق على مغادرة الطّائر لعشّه.
خضعت الأمّ، بعدما أدركت أنّها لن تقدر على الوقوف بوجه تلك الإرادة الحديدية لأبي حذيفة إلى ما لا نهاية له، فالفراق كان لا بدّ أنْ يكون في يوم من الأيّام، وهي تعلم أنها كانت تؤخّره، ولن تكون قادرة على منعه، بل وزادت عليه أنْ جهّزت الأمّ بنفسها نفقات السّفر، بعدما تخلّت عن أعزّ ما تملك من أشياء ثمينةٍ، وقبل ذلك رضيت بما كانت تعدّه من المستحيل، ذلك الذي يسمى (الفراق)، الذي يجنّ جنونها لهوله كلّما تذكرته، وخطر لها ببال.
خرج أبو حذيفة، بعدما قطع تذكرة السّفر إلى حيث ما يراه كثير من شباب اليوم حلم كلّ شابٍّ، اتّجه إلى (الخليج)، فكانت وجهته (قطر)، التي راح يزاول فيها أعمالاً حرّة.
مضت الأيّام، ومرّت الأشهر، وتعدّدت السّنين، وعين الأم ترقب الطّريق، لعلّ الغائب يعود، ولعل غربة الحبيب تنتهي، فيطلّ عليها من خلف باب طال إيصاده.
آنذاك كان أبو حذيفة يفكّر فعلاً بالرّحيل، ولكن ليس للعودة إلى بلده، بل لتحقيق حلمٍ كان يراوده منذ أمدٍ بعيدٍ، حلمٌ كان أهمّ عنده حتّى من أحضان أمّه، أو عناق أبيه، أو لقائه لأخته وأخيه، حلم الهجرة إلى أرض يحكمها شرع الله، وتقام على أديم أرضها حدود الرحمن، ويأمن فيها المؤمن على نفسه، ومرابع وسهول وجبال وأودية لا يخاف فيها المسلم إلا الله، والذئب على غنمه، فكان القرار الذي اتّخذه هو الهجرة إلى دولة الإسلام، أرض الخلافة، حلم كلّ مسلمٍ.
حينما أخذ يعدّ للهجرة تعرّض محل إقامته وسكناه لحريقٍ، فخسر كل حاجياته، بينها أمواله وأوراقه، ولم يخرج سوى بما يرتديه من ملابس العمل.
خشي أبو حذيفة لحظتها أنّ الله يريد اختبار صدقه إنْ كان سيثبت ويصرّ على سلك هذا الطّريق، أم أنه سيخضع للظروف العصيبة والعراقيل المتعدّدة، لكن كيف له ألّا يواصل السّير وهو يعرف صحة المنهج؟ بعدما هداه الله لفهم واقع الحال الذي ما عاد خافياً إلا على أعمى بصر وبصيرة، فازداد تمسّكاً أكثر من ذي قبل بالفكرة، وأجهد نفسه للحصول على ما يحتاجه ليكمل مهمة الهجرة والسّير على طريق الجهاد، فأوهم الجميع أنّه ذاهبٌ إلى بلده (المغرب)، لكنه غيّر وجهته لتكون دولة الإسلام هي قبلته.
• مقتطف من صحيفة النبأ – العدد 10
(قصة شهيد)
أبو حذيفة المغربيّ خاض معركته على جبهتين؛ عائلته والمرتدّين... وانتصر!
• حينما أخذ يعدّ للهجرة تعرّض محل إقامته وسكناه لحريقٍ، فخسر كل حاجياته، بينها أمواله وأوراقه، ولم يخرج سوى بما يرتديه من ملابس العمل.
خشي أبو حذيفة لحظتها أنّ الله يريد اختبار صدقه إنْ كان سيثبت ويصرّ على سلك هذا الطّريق، أم أنه سيخضع للظروف العصيبة والعراقيل المتعدّدة، لكن كيف له ألّا يواصل السّير وهو يعرف صحة المنهج؟ بعدما هداه الله لفهم واقع الحال الذي ما عاد خافياً إلا على أعمى بصر وبصيرة، فازداد تمسّكاً أكثر من ذي قبل بالفكرة، وأجهد نفسه للحصول على ما يحتاجه ليكمل مهمة الهجرة والسّير على طريق الجهاد، فأوهم الجميع أنّه ذاهبٌ إلى بلده (المغرب)، لكنه غيّر وجهته لتكون دولة الإسلام هي قبلته.
تنقّل من مطارٍ إلى مطارٍ، ومن أرضٍ إلى أرضٍ، حتّى استقرّ به المقام قريباً من أراضي الدّولة الإسلاميّة، حيث لا يفصله عنها سوى مسافة يومٍ لا أكثر.
أقام في فندق، وحينما استيقظ في صباح اليوم التّالي وجد أنّ محفظته وبعض أشيائه قد سُرقت، فجلس في حيرةٍ من أمره، فهو لم يدفع بعدُ تكاليف الفندق، وطريقه ما يزال طويلاً، فبقي لأيام على هذه الحال، وقائمة فندقه باتت تتصاعد تكاليفها، ولا حلّ له يلوح في الأفق، حتى هداه الله للاتّصال ببعض معارفه طالباً منهم نجدته بتحويل قليلٍ من المال له، وهو ما كان.
فسارع إلى مغادرة الفندق لتبدأ آخر صعاب طريق الهجرة، التي يسّرها الله تعالى حتّى وصل إلى أرض الخلافة، وما أن اجتاز الحدود إلى الدّولة الإسلاميّة حتّى تنفس الصُّعداء، ثم خرّ على ركبتيه جاثياً باكياً من شدّة سعادته وفرحه، فاستقبله رجال حدود دولة الخلافة بالأحضان، واصطحبوه إلى دار الضّيافة، التي بقي فيها لعدّة أيّام، قبل أن يلتحق بالمعسكر الشّرعي، أولى محطّات حياته الجهاديّة.
وما أن انتهى من المعسكرات، وتمكّن من التّواصل من جديد مع عائلته، التي فوجئت بوجوده في أرض الخلافة، حتى فُتحت عليه جبهات عائليّة عدّة، فالكلّ يريد إقناعه بالعودة ظنّاً منهم أنّ هناك من غسل له دماغه، فكان يمتعض من هذا الأمر، ويردّد ويكثر من القول: ما لعائلتي؟ ألا تعلم بما جرى ويجري لنساء ديني؟! ألا تعلم عائلتي ما يحصل للأطفال الذين يُبادون؟ لا لسببٍ إلّا لأنّهم أبناءٌ لمسلمين، ألا تعلم عائلتي أنّا ما خُلقنا إلا لنجاهد في سبيل الله؟ ما لعائلتي؟ ما لعائلتي؟!!
• مقتطف من صحيفة النبأ – العدد 10
(قصة شهيد)
أبو حذيفة المغربيّ خاض معركته على جبهتين؛ عائلته والمرتدّين... وانتصر!
• وما أن انتهى من المعسكرات، وتمكّن من التّواصل من جديد مع عائلته، التي فوجئت بوجوده في أرض الخلافة، حتى فُتحت عليه جبهات عائليّة عدّة، فالكلّ يريد إقناعه بالعودة ظنّاً منهم أنّ هناك من غسل له دماغه، فكان يمتعض من هذا الأمر، ويردّد ويكثر من القول: ما لعائلتي؟ ألا تعلم بما جرى ويجري لنساء ديني؟! ألا تعلم عائلتي ما يحصل للأطفال الذين يُبادون؟ لا لسببٍ إلّا لأنّهم أبناءٌ لمسلمين، ألا تعلم عائلتي أنّا ما خُلقنا إلا لنجاهد في سبيل الله؟ ما لعائلتي؟ ما لعائلتي؟!!
ثم يردّد بحسرةٍ: ألا تسمع عائلتي ما قيل بأنّ أعظم بِرّ يقدّمه الولد لوالديه، أنْ يكون في أرض الجهاد؟ ثمّ يعود ليرجوهم أن يحزموا أمتعتهم ويهاجروا إلى دار الإسلام، ويعيشوا في ربوع الخلافة تارةً، وتارةً أخرى يتوعّدهم بغضبٍ من الله عليهم إنْ طالبوه بالعودة، أو بغضبٍ عليه إنْ هو فكّر في الانتكاس والعودة لديار الكفر، وكان يكثر من القول:
أأرجع إلى الضلال بعد هداية الرحمن؟ أأستبدل نعمة العيش في أرض يقام عليها شرع الله بأرض لم أعرف منها سوى الظّلام والفساد؟ ما لكم يا أهلي، كيف تحكمون؟ والله لن أعود، والله لن أعود، والله لن أعود!
أمّه وأبوه -عبر الرسائل الصّوتية- كانا يضغطان عليه ويلحّان أن يُرضيهما ليرضى عنه الله تعالى، فكان يُذكّرهم بأنْ لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، فيأتيه صوت أمّه باكيةً بحرقةٍ وألمٍ، وهو ثابتٌ، يتألّم، يتوجّع، لكنّه لم ينكسر... كان أبوه يرجوه، ويطالبه أن يرأف بحاله وحال أمّه، وأنّه سيضمن له العيش في (إسبانيا)، أو أيّ دولةٍ أوروبيّةٍ يختارها، فكان أبو حذيفة يبكي ويبكي ويبكي، ثمّ يعود ليخاطبهم بالقول، بعدما يكفكف دموعه:
يا أمّي ويا أبي، إنّني أبكي كلّ يوم، لكنّني لست أبكي ألماً لفراقكم، بل لأنّي أريدكم أن تعيشوا في كنف شرع الرّحمن، هنا في أرض الإسلام، فأنا أريد لكم الجنّة، أريد أن يسخّركم الله لخدمته وطاعته، مثلما أسأله أن يسخّرني لنصرة دينه ورفع رايته، أريد أن تزهدوا في هذه الدّنيا لأنها زائلة، وأنّكم لا بدّ يوماً عنها راحلون.
يا أبي إنْ كنت تعرف دينك حقّ المعرفة، فإنك -وبلا شكٍّ- ستفرح لتوبتي وهجرتي، وكذلك ستفعل أمّي. فاصبرا، واحتسبا الأجر لله، فمهما بقينا معاً سنفترق يوماً، فالدّنيا فانية والملتقى الجنّة يا أهلي، فتلك هي دار الخلود، وتلك هي الحياة.
خرج أبو حذيفة من حربه الشّرسة التي دخلها هاتفيّاً مع عائلته، قبل أن يخوض أولى معاركه العنيفة على الأرض. انتهت الأولى بانتصاره؛ فقد انتصر بثباته، انتصر بنهجه الذي سار عليه، انتصر بتوبته وعودته إلى طريق الهداية والإيمان، انتصر بثباته على طريق الجهاد، وانتهت معركته الثّانية بنيله الشّهادة كما نحسب، بعدما قُتل بصاروخ طائرةٍ صليبيّة في معركة كان يخوضها ضدّ المرتدّين.
قلّةٌ هم الرّجال الذين يصمدون ويتخطّون عقبات المحن، وهكذا هم رجال الأمّة، كأمثال أبي حذيفة المغربيّ، صابرون على ما ابتلاهم الله به من محنٍ، يحزنهم وجع أمّهاتهم، وأنين آبائهم، وانكسار زوجاتهم، ودموع أبنائهم، وحسرة إخوانهم وأخواتهم، لكنّهم ثابتون على درب الجهاد، لا تهزّهم الرّزايا، ولا تخيفهم أو تردّهم المنايا، كأشجار الصّنوبر، كلّما اشتدّت العواصف اشتدّوا تجذّراً وثباتاً، كالنّخل الشّامخ الذي ينافس السّحب علواً، كأسد الشّرى، لا يموتون إلا وقوفاً!
• مقتطف من صحيفة النبأ – العدد 10
(قصة شهيد)
• مجاهد نحسبه من جيل لم نألفه منذ مئات السّنين، جيل أولئك الذين نشروا الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، بعدما تخلّوا عن الدّنيا وزخرفها وزينتها، وهجروا أهليهم في طريقٍ ربّانيٍّ له قواعد لا بدّ لكلّ سالكٍ أنْ يدركها، فقد قضى الله -جلّ وعلا- أنْ تكون العبادة خالصةً له في هذا الطّريق، وأنْ يكون الأمر كلّه له، تعالى جدّه، لا ينازعُ سلطانه، الجنان ثوابه، والجحيم عقابه، فسبحانه!
أبو حذيفة المغربيّ، ذو الأربعة وعشرين عاماً، أدرك دقّة هذه القاعدة وعظمتها، فقرّر أنْ يسلك طريقاً لا يردّه عنه خوف أمٍ، أو خشية أبٍ، أو رجفة عشيرٍ، خصوصاً أنّه نشأ في كنف عائلةٍ يجمعها رباط أسريّ من نوعٍ فريدٍ، فلا يقوى فرد من العائلة على مغادرة أسوار العائلة لأيّام، لكنّ أبا حذيفة ليس كغيره، فكان أوّل تمرّده هو خروجه عن عرف البيت، وكسره لقاعدة أهله، فتمكّن من إقناع الأمّ والأب أن يعيناه على البحث عن مستقبل في مكانٍ آخر، ورغم أنّ الأمّ هي من كانت تعارض بشدّة أن يبتعد عنها فلذة كبدها، لكن حرصها على مستقبل الابن، الذي سهرت عليه لأيامٍ وليالٍ، جعلها تخضع لمتطلّبات الحياة، فتتخلّى عن عاطفة أمومتها، كما كانت ترى الأمر، فأن يخرج ابنها من دفء حضنها، إلى مدينة أخرى ويغيب عنها لأسبوع، فذاك من الصِعاب، بل هو المحال، فكيف بها وهي ستفارقه لأسابيع وأشهر وربما لسنين، لكنّه الإصرار من أبي حذيفة الذي جعلها توافق على مغادرة الطّائر لعشّه.
خضعت الأمّ، بعدما أدركت أنّها لن تقدر على الوقوف بوجه تلك الإرادة الحديدية لأبي حذيفة إلى ما لا نهاية له، فالفراق كان لا بدّ أنْ يكون في يوم من الأيّام، وهي تعلم أنها كانت تؤخّره، ولن تكون قادرة على منعه، بل وزادت عليه أنْ جهّزت الأمّ بنفسها نفقات السّفر، بعدما تخلّت عن أعزّ ما تملك من أشياء ثمينةٍ، وقبل ذلك رضيت بما كانت تعدّه من المستحيل، ذلك الذي يسمى (الفراق)، الذي يجنّ جنونها لهوله كلّما تذكرته، وخطر لها ببال.
خرج أبو حذيفة، بعدما قطع تذكرة السّفر إلى حيث ما يراه كثير من شباب اليوم حلم كلّ شابٍّ، اتّجه إلى (الخليج)، فكانت وجهته (قطر)، التي راح يزاول فيها أعمالاً حرّة.
مضت الأيّام، ومرّت الأشهر، وتعدّدت السّنين، وعين الأم ترقب الطّريق، لعلّ الغائب يعود، ولعل غربة الحبيب تنتهي، فيطلّ عليها من خلف باب طال إيصاده.
آنذاك كان أبو حذيفة يفكّر فعلاً بالرّحيل، ولكن ليس للعودة إلى بلده، بل لتحقيق حلمٍ كان يراوده منذ أمدٍ بعيدٍ، حلمٌ كان أهمّ عنده حتّى من أحضان أمّه، أو عناق أبيه، أو لقائه لأخته وأخيه، حلم الهجرة إلى أرض يحكمها شرع الله، وتقام على أديم أرضها حدود الرحمن، ويأمن فيها المؤمن على نفسه، ومرابع وسهول وجبال وأودية لا يخاف فيها المسلم إلا الله، والذئب على غنمه، فكان القرار الذي اتّخذه هو الهجرة إلى دولة الإسلام، أرض الخلافة، حلم كلّ مسلمٍ.
حينما أخذ يعدّ للهجرة تعرّض محل إقامته وسكناه لحريقٍ، فخسر كل حاجياته، بينها أمواله وأوراقه، ولم يخرج سوى بما يرتديه من ملابس العمل.
خشي أبو حذيفة لحظتها أنّ الله يريد اختبار صدقه إنْ كان سيثبت ويصرّ على سلك هذا الطّريق، أم أنه سيخضع للظروف العصيبة والعراقيل المتعدّدة، لكن كيف له ألّا يواصل السّير وهو يعرف صحة المنهج؟ بعدما هداه الله لفهم واقع الحال الذي ما عاد خافياً إلا على أعمى بصر وبصيرة، فازداد تمسّكاً أكثر من ذي قبل بالفكرة، وأجهد نفسه للحصول على ما يحتاجه ليكمل مهمة الهجرة والسّير على طريق الجهاد، فأوهم الجميع أنّه ذاهبٌ إلى بلده (المغرب)، لكنه غيّر وجهته لتكون دولة الإسلام هي قبلته.
• مقتطف من صحيفة النبأ – العدد 10
(قصة شهيد)
أبو حذيفة المغربيّ خاض معركته على جبهتين؛ عائلته والمرتدّين... وانتصر!
• حينما أخذ يعدّ للهجرة تعرّض محل إقامته وسكناه لحريقٍ، فخسر كل حاجياته، بينها أمواله وأوراقه، ولم يخرج سوى بما يرتديه من ملابس العمل.
خشي أبو حذيفة لحظتها أنّ الله يريد اختبار صدقه إنْ كان سيثبت ويصرّ على سلك هذا الطّريق، أم أنه سيخضع للظروف العصيبة والعراقيل المتعدّدة، لكن كيف له ألّا يواصل السّير وهو يعرف صحة المنهج؟ بعدما هداه الله لفهم واقع الحال الذي ما عاد خافياً إلا على أعمى بصر وبصيرة، فازداد تمسّكاً أكثر من ذي قبل بالفكرة، وأجهد نفسه للحصول على ما يحتاجه ليكمل مهمة الهجرة والسّير على طريق الجهاد، فأوهم الجميع أنّه ذاهبٌ إلى بلده (المغرب)، لكنه غيّر وجهته لتكون دولة الإسلام هي قبلته.
تنقّل من مطارٍ إلى مطارٍ، ومن أرضٍ إلى أرضٍ، حتّى استقرّ به المقام قريباً من أراضي الدّولة الإسلاميّة، حيث لا يفصله عنها سوى مسافة يومٍ لا أكثر.
أقام في فندق، وحينما استيقظ في صباح اليوم التّالي وجد أنّ محفظته وبعض أشيائه قد سُرقت، فجلس في حيرةٍ من أمره، فهو لم يدفع بعدُ تكاليف الفندق، وطريقه ما يزال طويلاً، فبقي لأيام على هذه الحال، وقائمة فندقه باتت تتصاعد تكاليفها، ولا حلّ له يلوح في الأفق، حتى هداه الله للاتّصال ببعض معارفه طالباً منهم نجدته بتحويل قليلٍ من المال له، وهو ما كان.
فسارع إلى مغادرة الفندق لتبدأ آخر صعاب طريق الهجرة، التي يسّرها الله تعالى حتّى وصل إلى أرض الخلافة، وما أن اجتاز الحدود إلى الدّولة الإسلاميّة حتّى تنفس الصُّعداء، ثم خرّ على ركبتيه جاثياً باكياً من شدّة سعادته وفرحه، فاستقبله رجال حدود دولة الخلافة بالأحضان، واصطحبوه إلى دار الضّيافة، التي بقي فيها لعدّة أيّام، قبل أن يلتحق بالمعسكر الشّرعي، أولى محطّات حياته الجهاديّة.
وما أن انتهى من المعسكرات، وتمكّن من التّواصل من جديد مع عائلته، التي فوجئت بوجوده في أرض الخلافة، حتى فُتحت عليه جبهات عائليّة عدّة، فالكلّ يريد إقناعه بالعودة ظنّاً منهم أنّ هناك من غسل له دماغه، فكان يمتعض من هذا الأمر، ويردّد ويكثر من القول: ما لعائلتي؟ ألا تعلم بما جرى ويجري لنساء ديني؟! ألا تعلم عائلتي ما يحصل للأطفال الذين يُبادون؟ لا لسببٍ إلّا لأنّهم أبناءٌ لمسلمين، ألا تعلم عائلتي أنّا ما خُلقنا إلا لنجاهد في سبيل الله؟ ما لعائلتي؟ ما لعائلتي؟!!
• مقتطف من صحيفة النبأ – العدد 10
(قصة شهيد)
أبو حذيفة المغربيّ خاض معركته على جبهتين؛ عائلته والمرتدّين... وانتصر!
• وما أن انتهى من المعسكرات، وتمكّن من التّواصل من جديد مع عائلته، التي فوجئت بوجوده في أرض الخلافة، حتى فُتحت عليه جبهات عائليّة عدّة، فالكلّ يريد إقناعه بالعودة ظنّاً منهم أنّ هناك من غسل له دماغه، فكان يمتعض من هذا الأمر، ويردّد ويكثر من القول: ما لعائلتي؟ ألا تعلم بما جرى ويجري لنساء ديني؟! ألا تعلم عائلتي ما يحصل للأطفال الذين يُبادون؟ لا لسببٍ إلّا لأنّهم أبناءٌ لمسلمين، ألا تعلم عائلتي أنّا ما خُلقنا إلا لنجاهد في سبيل الله؟ ما لعائلتي؟ ما لعائلتي؟!!
ثم يردّد بحسرةٍ: ألا تسمع عائلتي ما قيل بأنّ أعظم بِرّ يقدّمه الولد لوالديه، أنْ يكون في أرض الجهاد؟ ثمّ يعود ليرجوهم أن يحزموا أمتعتهم ويهاجروا إلى دار الإسلام، ويعيشوا في ربوع الخلافة تارةً، وتارةً أخرى يتوعّدهم بغضبٍ من الله عليهم إنْ طالبوه بالعودة، أو بغضبٍ عليه إنْ هو فكّر في الانتكاس والعودة لديار الكفر، وكان يكثر من القول:
أأرجع إلى الضلال بعد هداية الرحمن؟ أأستبدل نعمة العيش في أرض يقام عليها شرع الله بأرض لم أعرف منها سوى الظّلام والفساد؟ ما لكم يا أهلي، كيف تحكمون؟ والله لن أعود، والله لن أعود، والله لن أعود!
أمّه وأبوه -عبر الرسائل الصّوتية- كانا يضغطان عليه ويلحّان أن يُرضيهما ليرضى عنه الله تعالى، فكان يُذكّرهم بأنْ لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، فيأتيه صوت أمّه باكيةً بحرقةٍ وألمٍ، وهو ثابتٌ، يتألّم، يتوجّع، لكنّه لم ينكسر... كان أبوه يرجوه، ويطالبه أن يرأف بحاله وحال أمّه، وأنّه سيضمن له العيش في (إسبانيا)، أو أيّ دولةٍ أوروبيّةٍ يختارها، فكان أبو حذيفة يبكي ويبكي ويبكي، ثمّ يعود ليخاطبهم بالقول، بعدما يكفكف دموعه:
يا أمّي ويا أبي، إنّني أبكي كلّ يوم، لكنّني لست أبكي ألماً لفراقكم، بل لأنّي أريدكم أن تعيشوا في كنف شرع الرّحمن، هنا في أرض الإسلام، فأنا أريد لكم الجنّة، أريد أن يسخّركم الله لخدمته وطاعته، مثلما أسأله أن يسخّرني لنصرة دينه ورفع رايته، أريد أن تزهدوا في هذه الدّنيا لأنها زائلة، وأنّكم لا بدّ يوماً عنها راحلون.
يا أبي إنْ كنت تعرف دينك حقّ المعرفة، فإنك -وبلا شكٍّ- ستفرح لتوبتي وهجرتي، وكذلك ستفعل أمّي. فاصبرا، واحتسبا الأجر لله، فمهما بقينا معاً سنفترق يوماً، فالدّنيا فانية والملتقى الجنّة يا أهلي، فتلك هي دار الخلود، وتلك هي الحياة.
خرج أبو حذيفة من حربه الشّرسة التي دخلها هاتفيّاً مع عائلته، قبل أن يخوض أولى معاركه العنيفة على الأرض. انتهت الأولى بانتصاره؛ فقد انتصر بثباته، انتصر بنهجه الذي سار عليه، انتصر بتوبته وعودته إلى طريق الهداية والإيمان، انتصر بثباته على طريق الجهاد، وانتهت معركته الثّانية بنيله الشّهادة كما نحسب، بعدما قُتل بصاروخ طائرةٍ صليبيّة في معركة كان يخوضها ضدّ المرتدّين.
قلّةٌ هم الرّجال الذين يصمدون ويتخطّون عقبات المحن، وهكذا هم رجال الأمّة، كأمثال أبي حذيفة المغربيّ، صابرون على ما ابتلاهم الله به من محنٍ، يحزنهم وجع أمّهاتهم، وأنين آبائهم، وانكسار زوجاتهم، ودموع أبنائهم، وحسرة إخوانهم وأخواتهم، لكنّهم ثابتون على درب الجهاد، لا تهزّهم الرّزايا، ولا تخيفهم أو تردّهم المنايا، كأشجار الصّنوبر، كلّما اشتدّت العواصف اشتدّوا تجذّراً وثباتاً، كالنّخل الشّامخ الذي ينافس السّحب علواً، كأسد الشّرى، لا يموتون إلا وقوفاً!
• مقتطف من صحيفة النبأ – العدد 10
(قصة شهيد)