كلما أطلَّت على الأمة تلك الذكرى الخالدة "ذكرى الإسراء والمعراج" التي أمتن الله بها على سيد الخلق ...
منذ 2025-01-27
كلما أطلَّت على الأمة تلك الذكرى الخالدة "ذكرى الإسراء والمعراج" التي أمتن الله بها على سيد الخلق وحبيب الحق، اهتزت قلوبهم شوقاً, وفاضت مشاعرهم حنيناً وأنيناً إلى زيارة المسجد الأقصى الذي أُسري إليه الحبيب ثم عرج منه إلى السماوات العلا.. تلك المعجزة التي كانت خرقاً لكل النواميس الكونية والقوانين التي أودعها الله عز وجل في هذا الكون؛ حيث أصبح صلوات الله عليه لا يخضع لأي ناموس من نواميس الكون، وفي هذا تشريف وتكريم وتفضيل لخاتم الأنبياء وإمام الأصفياء صلوات الله عليه.
أبا القاسم يا رسول الله:
أنت الذي لما رفعت إلى السما
بك قد سمت وتزينت لسراكا
أنت الذي ناداك ربك مرحبا
ولقد دعاك لقربه وحباكا
وخفضت دين الشرك يا علم الهدى
ورفعت دينك فاستقام هناكا.
ماذا يقول المادحون وما عسى
أن تجمع الكتابُ من معناكا
صلى عليك الله يا علم الهدى
ما اشتاقَ مشتاقٌ الي مثواك
أيها الأحبة: بعد أن عشت معكم في لقاءين مضيا قصة الإسراء والمعراج ووقفنا معاً عند عجائب ولطائف الآية الأولى من سورة الإسراء.. فإنني أعيش اليوم معكم في دروسِ وعبرِ تلك الرحلة.. ونحاول أن نستخلص منها عبراً وفوائد تكون عوناً ومعيناً لنا في حياتنا وزاداً لنا في آخرتنا.
الدرس الأول والعبرة الأولى: أنَّ الله عوَّد عباده المؤمنين أنَّ "العطايا لا تكون إلا بعد الرزايا "وأنَّ" المِنحَ لا تكون إلا بعد المِحَن"وأنَّ "اليسر لا يكون إلا في ذيل العسر" نعم...
فقد توالت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأحزان والآلام قبل إسراءه ومعراجه حتى سمِّيَ ذلك العامُ بعامِ الحزن.
فقد حاصره قومه حصاراً خانقاً في شِعب أبي طالب ثلاث سنوات. كانت قاسيات شديدات عليه وعلى أصحابه حتى قال سيدنا سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - الصحابي الجليل فاتح العراق، ومدائن كسرى، وهو يتحدث عما أصابهم مع رسول الله في سبيل الله من جوع وقلة في شعب أبي طالب. قال: خرجت ذات ليلة لأبول والجوع شديد... وبينما كنت أقضي حاجتي إذ سمعت قعقعة تَحْتَ بَوْلِي، فَإِذَا بقِطْعَة جِلْدِ بَعِير..، فَأَخَذْتُهَا فَغَسَلْتُهَا ثُمَّ أَحْرَقْتُهَا..، ثُمَّ اسْتَفَفْتُهَا وَشَرِبْتُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ، فَقَوِيتُ عَلَيْهَا ثَلَاثة أيام[3]. الله أكبر...
ثم ماذا بعد هذا؟؟ يُفجع النبيُّ بخبر وفاة مناصره ومسانده الذي كان يوفر له الحماية الخارجية (خارج المنزل) لتبليغ دعوة ربه. يُفجع بموت عمه أبو طالب. فازدادت جراءة كفار قريش عليه، حتى كان أبو لهب يلاحقه في الأسواق والمجامع، يسبه، ويسفهه، ويرميه بالحجارة، ويخبر بأنه كذاب.. حتى دخل النبيُّ على ابنته ذات يوم - بأبي وأمي هو صلوات الله عليه - وقد نثر سفيه من سفهاء قريش التراب على رأسه فجعلت ابنته تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: (لا تبكى يابنيَّة، فإن الله مانع أباك). وقال: (ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب[4]).
انظروا أيها الإخوة الكرام إلى حجم المصيبة والبلاء الذي صُب على النبي قبل إسراءه ومعراجه. "لكنها ابتلاءات سيكون لمن صبر عليها عطيات ومكرمات" قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إذا أحبَّ اللهُ عبدًا أو أراد أن يُصافيَه صبَّ عليه البلاءَ صبًّا وثجَّه عليه ثجًّا: فإذا دعا العبُد قال: يا ربَّاه، قال اللهُ: لبَّيك يا عبدي لا تسألُني شيئًا إلَّا أعطيتُك إمَّا أن أُعجِّلَه لك، وإمَّا أن أدَّخِرَه لك[5]»
ولم يكن هذا البلاء على النبي وحده بل كان أيضاً على أصحابه الأطهار. يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: «شَكَوْنا إِلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم- وهو متوسِّد بُرْدة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا؟ ألا تَدْعو الله لنا؟ فقال: قد كان مَنْ قبلكم يُؤخَذُ الرجل، فيُحْفَر له في الأرض، فَيُجْعَلُ فيها، ثم يُؤْتَى بالمنشار، فيوضَعُ على رأْسه، فيُجْعَلُ نصفين، ويُمْشَط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يَصدُّه ذلك عن دينه، والله لَيُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يَسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إِلى حَضْرَمَوْتَ،لا يخاف إِلا اللهَ والذئبَ على غنمه، ولكنَّكم تستعجلون[6]».
ثم ماذا بعد هذا البلاء! الذي لو نزل على جبل لجعله هدَّاً؟! يخرج الحبيب إلى الطائف داعيًا وهاديًا، يحدوه الأمل في هداية ثقيف، لكنه يصدم برفض أهل الطائف لدعوته، وتعرضهم له بالشتم والأذية.. وقد سلطوا عليه وعلى صاحبه سفهائهم..حتى ضاق الحبيب ذرعاً.. فدخل بستاناً يلوذ به، ويحتمي بشجراته من الضرب والمطاردة.. رافعًا يديه إلى السماء، مناجيًا ربه، معتذرًا إليه، متحببًا إليه، بكلمات كريمة، وبدعاء صادق نبع من أعماق قلبه الحزين، قد امتزجت كلماته بحرقه وجدانه المكسور: "اللّهُمَّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك[7]".
ثم ماذا بعد هذا أيها الأحبة ! يُفجع النبيُّ بخبر وفاة رِدءه ومؤازره زوجته السيدة خديجة-رضي الله عنها-، التي ملئت عليه قلبه وعقله، التي كانت تؤازره وتسانده في أحرج أوقاته، وتواسيه بنفسها ومالها في أحلك الظروف! وقد أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم إكراماً للسيدة خديجة فَقَالَ لنبي يَا رَسُولَ اللهِ: «هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ، أَوْ طَعَامٌ، أَوْ شَرَابٌ فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لاَ صَخَبَ فِيهِ، وَلاَ نَصَبَ[8]».
بلايا ومحن ومصائبٌ صُبَّت على النبيِّ لو أنها صُبت على الأيام صِرنَ ليالياً.. موت للسند الخارجي. موت للسند الداخلي. طرد وضرب من أهله.. لكنَّ ما نتيجة هذا الصبر.. ما نتيجة هذا الرضا والتسليم المطلق لقضاء الله.. ما نتيجة هذه العبودية الخالصة التي ليس للنفس حظ فيها، النتيجة دعوة كريمة ومَكرمة لنبيِّ بزيارة السماء حتى وصل إلى درجة من الرقي لم يصلها قبله إنس ولا ملك مقرب.
وليعلم كل مؤمن أنَّ الابتلاءات الربانية متى واجهها العبد بالتسليم والرضا والإذعان بالعبودية الخالصة لله مع تعاطي الأسباب؛ فإنَّ الله سبحانه سيجعل له من تلك المحن منحٌ مرضية، وسيجعل له من البلايا والرزايا عطايا. قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ[9]».
معاشر الأحبة: أما العبرة والدرس الثاني.. فإلى أن يجمعني الله بكم في لقاء قابل... لا أريد أن أطيل عليكم...اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه..[10]
[1] رواه البيهقي في الشعب، والطبراني في الأوسط، وذكره الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد مجمع الزوائد 10/ 289.برقم (18086) المحقق: حسام الدين القدسي. الناشر: مكتبة القدسي، القاهرة. عام النشر: 1414 هـ، 1994 م.
[2] قال الإمام المنذري: رواه أحمد بإسناد جيد وابن أبي الدنيا في اصطناع المعروف والفظ له. الترغيب والترهيب 2/ 23 الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت. الطبعة الأولى، 1417 هـ تحقيق: إبراهيم شمس الدين.
[3] حياة الصحابة للكاندهلوي 1/ 137.وانظرها في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم1/ 93. الناشر: السعادة - بجوار محافظة مصر، 1394هـ - 1974م.
[4] البداية والنهاية 3/ 151. وانظر سبل الهدى والرشاد 2/ 435 لمحمد بن يوسف الصالحي الشامي (المتوفى: 942هـ).
[5] رواه الحافظ ابن أبي الدنيا كما في الترغيب والترهيب 4/ 142.
[6] صحيح البخاري 3/ 1322 برقم:(3416).
[7] الطبراني عن عبد الله بن جعفر. قال الحافظ الهيثمي: أخرجه الطبراني وفيه ابن إسحاق، وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات.
[8] صحيح البخاري 3/ 1389 برقم:(3609).
[9] أخرجه الترمذي في الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، وقال: حديث حسن غريب. برقم:(2396).
[10] أُلقيت هذه الخطبة في أحد مساجد عمَّان 1438هـ - 2017م.
وكتبه : محمد مهدي قشلان
أبا القاسم يا رسول الله:
أنت الذي لما رفعت إلى السما
بك قد سمت وتزينت لسراكا
أنت الذي ناداك ربك مرحبا
ولقد دعاك لقربه وحباكا
وخفضت دين الشرك يا علم الهدى
ورفعت دينك فاستقام هناكا.
ماذا يقول المادحون وما عسى
أن تجمع الكتابُ من معناكا
صلى عليك الله يا علم الهدى
ما اشتاقَ مشتاقٌ الي مثواك
أيها الأحبة: بعد أن عشت معكم في لقاءين مضيا قصة الإسراء والمعراج ووقفنا معاً عند عجائب ولطائف الآية الأولى من سورة الإسراء.. فإنني أعيش اليوم معكم في دروسِ وعبرِ تلك الرحلة.. ونحاول أن نستخلص منها عبراً وفوائد تكون عوناً ومعيناً لنا في حياتنا وزاداً لنا في آخرتنا.
الدرس الأول والعبرة الأولى: أنَّ الله عوَّد عباده المؤمنين أنَّ "العطايا لا تكون إلا بعد الرزايا "وأنَّ" المِنحَ لا تكون إلا بعد المِحَن"وأنَّ "اليسر لا يكون إلا في ذيل العسر" نعم...
فقد توالت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأحزان والآلام قبل إسراءه ومعراجه حتى سمِّيَ ذلك العامُ بعامِ الحزن.
فقد حاصره قومه حصاراً خانقاً في شِعب أبي طالب ثلاث سنوات. كانت قاسيات شديدات عليه وعلى أصحابه حتى قال سيدنا سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - الصحابي الجليل فاتح العراق، ومدائن كسرى، وهو يتحدث عما أصابهم مع رسول الله في سبيل الله من جوع وقلة في شعب أبي طالب. قال: خرجت ذات ليلة لأبول والجوع شديد... وبينما كنت أقضي حاجتي إذ سمعت قعقعة تَحْتَ بَوْلِي، فَإِذَا بقِطْعَة جِلْدِ بَعِير..، فَأَخَذْتُهَا فَغَسَلْتُهَا ثُمَّ أَحْرَقْتُهَا..، ثُمَّ اسْتَفَفْتُهَا وَشَرِبْتُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ، فَقَوِيتُ عَلَيْهَا ثَلَاثة أيام[3]. الله أكبر...
ثم ماذا بعد هذا؟؟ يُفجع النبيُّ بخبر وفاة مناصره ومسانده الذي كان يوفر له الحماية الخارجية (خارج المنزل) لتبليغ دعوة ربه. يُفجع بموت عمه أبو طالب. فازدادت جراءة كفار قريش عليه، حتى كان أبو لهب يلاحقه في الأسواق والمجامع، يسبه، ويسفهه، ويرميه بالحجارة، ويخبر بأنه كذاب.. حتى دخل النبيُّ على ابنته ذات يوم - بأبي وأمي هو صلوات الله عليه - وقد نثر سفيه من سفهاء قريش التراب على رأسه فجعلت ابنته تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: (لا تبكى يابنيَّة، فإن الله مانع أباك). وقال: (ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب[4]).
انظروا أيها الإخوة الكرام إلى حجم المصيبة والبلاء الذي صُب على النبي قبل إسراءه ومعراجه. "لكنها ابتلاءات سيكون لمن صبر عليها عطيات ومكرمات" قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إذا أحبَّ اللهُ عبدًا أو أراد أن يُصافيَه صبَّ عليه البلاءَ صبًّا وثجَّه عليه ثجًّا: فإذا دعا العبُد قال: يا ربَّاه، قال اللهُ: لبَّيك يا عبدي لا تسألُني شيئًا إلَّا أعطيتُك إمَّا أن أُعجِّلَه لك، وإمَّا أن أدَّخِرَه لك[5]»
ولم يكن هذا البلاء على النبي وحده بل كان أيضاً على أصحابه الأطهار. يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: «شَكَوْنا إِلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم- وهو متوسِّد بُرْدة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا؟ ألا تَدْعو الله لنا؟ فقال: قد كان مَنْ قبلكم يُؤخَذُ الرجل، فيُحْفَر له في الأرض، فَيُجْعَلُ فيها، ثم يُؤْتَى بالمنشار، فيوضَعُ على رأْسه، فيُجْعَلُ نصفين، ويُمْشَط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يَصدُّه ذلك عن دينه، والله لَيُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يَسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إِلى حَضْرَمَوْتَ،لا يخاف إِلا اللهَ والذئبَ على غنمه، ولكنَّكم تستعجلون[6]».
ثم ماذا بعد هذا البلاء! الذي لو نزل على جبل لجعله هدَّاً؟! يخرج الحبيب إلى الطائف داعيًا وهاديًا، يحدوه الأمل في هداية ثقيف، لكنه يصدم برفض أهل الطائف لدعوته، وتعرضهم له بالشتم والأذية.. وقد سلطوا عليه وعلى صاحبه سفهائهم..حتى ضاق الحبيب ذرعاً.. فدخل بستاناً يلوذ به، ويحتمي بشجراته من الضرب والمطاردة.. رافعًا يديه إلى السماء، مناجيًا ربه، معتذرًا إليه، متحببًا إليه، بكلمات كريمة، وبدعاء صادق نبع من أعماق قلبه الحزين، قد امتزجت كلماته بحرقه وجدانه المكسور: "اللّهُمَّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك[7]".
ثم ماذا بعد هذا أيها الأحبة ! يُفجع النبيُّ بخبر وفاة رِدءه ومؤازره زوجته السيدة خديجة-رضي الله عنها-، التي ملئت عليه قلبه وعقله، التي كانت تؤازره وتسانده في أحرج أوقاته، وتواسيه بنفسها ومالها في أحلك الظروف! وقد أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم إكراماً للسيدة خديجة فَقَالَ لنبي يَا رَسُولَ اللهِ: «هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ، أَوْ طَعَامٌ، أَوْ شَرَابٌ فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لاَ صَخَبَ فِيهِ، وَلاَ نَصَبَ[8]».
بلايا ومحن ومصائبٌ صُبَّت على النبيِّ لو أنها صُبت على الأيام صِرنَ ليالياً.. موت للسند الخارجي. موت للسند الداخلي. طرد وضرب من أهله.. لكنَّ ما نتيجة هذا الصبر.. ما نتيجة هذا الرضا والتسليم المطلق لقضاء الله.. ما نتيجة هذه العبودية الخالصة التي ليس للنفس حظ فيها، النتيجة دعوة كريمة ومَكرمة لنبيِّ بزيارة السماء حتى وصل إلى درجة من الرقي لم يصلها قبله إنس ولا ملك مقرب.
وليعلم كل مؤمن أنَّ الابتلاءات الربانية متى واجهها العبد بالتسليم والرضا والإذعان بالعبودية الخالصة لله مع تعاطي الأسباب؛ فإنَّ الله سبحانه سيجعل له من تلك المحن منحٌ مرضية، وسيجعل له من البلايا والرزايا عطايا. قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ[9]».
معاشر الأحبة: أما العبرة والدرس الثاني.. فإلى أن يجمعني الله بكم في لقاء قابل... لا أريد أن أطيل عليكم...اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه..[10]
[1] رواه البيهقي في الشعب، والطبراني في الأوسط، وذكره الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد مجمع الزوائد 10/ 289.برقم (18086) المحقق: حسام الدين القدسي. الناشر: مكتبة القدسي، القاهرة. عام النشر: 1414 هـ، 1994 م.
[2] قال الإمام المنذري: رواه أحمد بإسناد جيد وابن أبي الدنيا في اصطناع المعروف والفظ له. الترغيب والترهيب 2/ 23 الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت. الطبعة الأولى، 1417 هـ تحقيق: إبراهيم شمس الدين.
[3] حياة الصحابة للكاندهلوي 1/ 137.وانظرها في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم1/ 93. الناشر: السعادة - بجوار محافظة مصر، 1394هـ - 1974م.
[4] البداية والنهاية 3/ 151. وانظر سبل الهدى والرشاد 2/ 435 لمحمد بن يوسف الصالحي الشامي (المتوفى: 942هـ).
[5] رواه الحافظ ابن أبي الدنيا كما في الترغيب والترهيب 4/ 142.
[6] صحيح البخاري 3/ 1322 برقم:(3416).
[7] الطبراني عن عبد الله بن جعفر. قال الحافظ الهيثمي: أخرجه الطبراني وفيه ابن إسحاق، وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات.
[8] صحيح البخاري 3/ 1389 برقم:(3609).
[9] أخرجه الترمذي في الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، وقال: حديث حسن غريب. برقم:(2396).
[10] أُلقيت هذه الخطبة في أحد مساجد عمَّان 1438هـ - 2017م.
وكتبه : محمد مهدي قشلان