سياحة الجهاد • روى أبو داود في سُننه عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- أن رجلا قال: «يا رسول ...
منذ 2025-03-06
سياحة الجهاد
• روى أبو داود في سُننه عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- أن رجلا قال: «يا رسول الله، ائذن لي بالسياحة»؛ فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله)؛ سكت عنه أبو داود، ورواه الحاكم في مستدركه وصحّح إسناده، وصحّحه عبد الحق الإشبيلي والذهبي، وجوّد إسناده النووي والعراقي.
وهذا الحديث مما أخطأ بعض أهل الهجرة والجهاد في فهمه، وظنوا أن سياحة الجهاد هي ما عليه أهل العصر من «التنقل من بلد إلى بلد طلبا للتنزه أو الاستطلاع والكشف» [المعجم الوسيط المعاصر]، فإذا نظر بعد فهمه الخاطئ إلى شيء من جمال البلد المُهاجَر إليه من جبال وأنهار وشواطئ وأشجار، أو وجد شيئا من رغد العيش فيه من طعام وشراب وزينة وراحة، أشار إلى زهرة الحياة الدنيا، وقال: «صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إن الجهاد سياحة الأمة!».
وهكذا أخطأ كثير من الناس في فهم الحديث والأثر، فشتّان ما بين ما هو مقصود في الحديث الشريف، وبين ما ذهبت إليه أذهان كثير من الناس.
فإن قيل، فما معنى «السياحة» المذكورة إن لم يكن سفر النزهة المتعارف عليه؟
الجواب: إنما يُفسّر غريب الحديث والأثر بلسان العرب الفصيح وبفهم السلف الصالح -لا ما اصطلح عليه المتأخرون ولا ما تعارف عليه المعاصرون- وهذا بالرجوع إلى أئمة اللغة والغريب، الذين حفظوا معاني القرآن والحديث لمن بعدهم من القرون كما حفظ القراء والمحدثون ألفاظ الوحيين، جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا كبيرا كثيرا.
قال ابن قتيبة، رحمه الله (المتوفى 276 هـ) في شرح ما جاء من السياحة في الأثر: «[السياحة]: مفارقة الأمصار والذهاب في الأرض كفعل... عُبّاد بني إسرائيل... وأراد -صلى الله عليه وسلم- أن الله -جل وعز- قد وضع هذا عن المسلمين وبعثه بالحنيفية السمحة» [غريب الحديث].
وقال ابن الأنباري، رحمه الله (المتوفى 328 هـ): «السياحة: الخروج إلى أطراف البلاد، والتفرد من الناس، بحيث لا يشهد جمعة، ولا يحضر جماعة» [الزاهر].
وقال أبو منصور الأزهري، رحمه الله (المتوفى 370 هـ): «قال الليث: السياحة ذهاب الرجل في الأرض للعبادة والترهّب، وسياحة هذه الأمة الصيام ولزوم المساجد» [تهذيب اللغة].
فالسياحة التي لم يأذن بها النبي -صلى الله عليه وسلم- هي من الترهّب الذي لم يشرّعه أحكم الحاكمين، قال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27].
عن عروة بن الزبير -رحمه الله- قال: «دخلت امرأة عثمان بن مظعون... على عائشة وهي باذَّة الهيئة فسألتها ما شأنك؟ فقالت: زوجي يقوم الليل ويصوم النهار؛ فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكرت عائشة ذلك له، فلقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عثمان فقال: (يا عثمان، إن الرهبانية لم تكتب علينا، أفما لك فيّ أسوة، فوالله إني أخشاكم لله، وأحفظكم لحدوده) [رواه أحمد وأبو داود وابن حبان].
وهكذا، لما استأذن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- النبي -صلى الله عليه وسلم- في السياحة، نهاه -صلى الله عليه وسلم- عن التشبّه بالرهبان الضالين، وأرشده إلى ما شرعه الله –تعالى- منهاجا لخير أمة أخرجت للناس: الجهاد في سبيله؛ وفيه ما في سياحة الرهبانية من الزهد والعزلة والذكر والعبادة، يتقرب المجاهد إلى الله بالتزام هذه الحقائق في أسفار جهاده، وليكون بذلك من رهبان الليل فرسان النهار، وهم: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 13-14].
وتشهد لقول أئمة اللغة بعضُ الأحاديث المرفوعة الضعيفة، منها: (عليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام) [رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري]، و(لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله) [رواه أحمد عن أنس]، و(عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمّتي) [رواه ابن حبّان عن أبي ذر].
ومنها: رواية لحديث عثمان بن مظعون، أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ائذن لنا بالاختصاء»؛ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من خصى، ولا اختصى، إنّ إخصاء أمتي الصيام)؛ فقال: «يا رسول الله، ائذن لنا في السياحة»؛ فقال: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله)؛ فقال: «يا رسول الله، ائذن لنا في الترهّب»؛ فقال: (إن ترهّب أمتي الجلوس في المساجد انتظار الصلاة) [رواه ابن المبارك في الزهد بإسناد ضعيف].
ومنها: (لا سياحة، ولا تبتّل، ولا ترهّب في الإسلام) [رواه عبد الرزاق عن طاووس مرسلا].
قال ابن قتيبة: «قوله (ولا رهبانية) يريد فعل الرهبان من مواصلة الصوم ولبس المُسوح وترك أكل اللحم وأشباه ذلك... وقوله (ولا تبتّل) يريد ترك النكاح» [غريب الحديث].
وقال ابن الأنباري: «[راهب متبتّل]: منقطع إلى الله -تبارك وتعالى- تارك للنكاح»، ثم ذكر حديث طاووس، ثم قال: «الرهبانية: لزوم الصوامع، وترك أكل اللحم» [الزاهر].
ومما يشهد لقول أئمة اللغة أيضا بعضُ الآثار الموقوفة والمقطوعة، منها: «سياحةُ هذه الأمة الصيام» [رواه الطبري عن عائشة]، و«{السَّائِحُونَ}: الصائمون»، و«{سَائِحَاتٍ}: صائمات» [رواهما الطبري عن عدد من السلف].
قال ابن قتيبة: «أصل السائح: الذاهب في الأرض... والسائح في الأرض ممتنع من الشهوات، فشُبّه الصائم به، لإمساكه في صومه عن المطعم والمشرب والنكاح» [غريب القرآن].
وقال الطبري -رحمه الله- في تفسيره: «كان بعض أهل العربية يقول: نرى أن الصائم إنما سُمي سائحا، لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل حيث يجد الطعام، فكأنه أُخذ من ذلك».
ومنها: عن سفيان بن عيينة -رحمه الله- قال: «حدثنا عمرو، أنه سمع وهب بن منبه يقول: كانت السياحة في بني إسرائيل...» قال ابن عيينة: «إذا ترك الطعام والشراب والنساء فهو السائح» [رواه الطبري].
وقال المروزي، رحمه الله (المتوفى 294 هـ): «عن إسحاق بن سويد [تابعي، توفي 131 هـ]: كانوا [أي السلف الصالح] يرون السياحة صيام النهار وقيام الليل» [مختصر قيام الليل].
وبعد هذا، يظهر بلا ريب أن المقصود بـ (سياحة أمتي الجهاد)، النهي عن سياحة الرهبان المبتدعة وما فيها من ادعاء التوكّل والزهد بترك الزاد والإعراض عن النكاح -وهي عادة وَرِثَتها بعض الطرق الصوفية من كفرة أهل الكتاب- والمقصود أيضا، الإرشاد إلى ما هو خير من السياحة، الجهاد في سبيل الله، وما يترتّب عليه من الاجتهاد في العبادة وطلب لقاء الله -سبحانه وتعالى- علماً أن بعض السلف الصالح جعلوا من بدائل السياحة: الاعتكاف وقيام الليل والصيام وطلب العلم، ومنهم من جعلها الهجرة إلى الله التي قورنت بالجهاد في الوحيين، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم -رحمه الله- (المتوفى 182 هـ) في تفسير قوله سبحانه {السَّائِحُونَ} وقوله تعالى {سَائِحَاتٍ}: «ليس في القرآن ولا في أمة محمد سياحة إلا الهجرة» [رواه الطبري]، وقال: «كان سياحتهم الهجرة حين هاجروا إلى المدينة» [رواه ابن أبي حاتم].
فمن أراد أن يكون من أهل السياحة السنية السلفية، فعليه بالهجرة والجهاد، وعليه أن يجاهد نفسه في الله بالتزام الزهد والذكر في رباطه وقتاله ما استطاع، وعليه أن يهجر ما كره الله من الخطايا والذنوب الظاهرة والباطنة، ومنها: العجب والكبر والغيبة والنميمة والقتال للمغنم وللذكر.
وفي الختام، قال ابن القيم -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ...} الآية [التوبة: 111-112]: «فُسِّرت السياحة بالصيام، وفُسِّرت بالسفر في طلب العلم، وفُسِّرت بالجهاد، وفُسِّرت بدوام الطاعة، والتحقيق فيها أنها سياحة القلب في ذكر الله، ومحبته، والإنابة إليه، والشوق إلى لقائه، ويترتّب عليها كل ما ذكر من الأفعال، ولذلك وصف الله –سبحانه- نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- اللاتي لو طُلق أزواجه، بدله بهن بأنهن سائحات، وليست سياحتهن جهادا، ولا سفرا في طلب علم، ولا إدامة صيام، وإنما هي سياحة قلوبهن في محبة الله تعالى، وخشيته، والإنابة إليه، وذكره، وتأمل كيف جعل الله -سبحانه- التوبة والعبادة قرينتين، هذه ترك ما يكره وهذه فعل ما يحب، والحمد والسياحة قرينتين، هذا الثناء عليه بأوصاف كماله وسياحة اللسان في أفضل ذكره، وهذه سياحة القلب في حبه وذكره وإجلاله، كما جعل سبحانه العبادة والسياحة قرينتين في صفة الأزواج، فهذه عبادة البدن وهذه عبادة القلب» [حادي الأرواح].
هذا، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على الرسول النبي الصادق الأمين، وعلى أزواجه وذريته الطيبين الطاهرين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 59
الخميس 15 ربيع الأول 1438 هـ
• لقراءة الصحيفة تواصل - تيليغرام:
@wmc111at
• روى أبو داود في سُننه عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- أن رجلا قال: «يا رسول الله، ائذن لي بالسياحة»؛ فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله)؛ سكت عنه أبو داود، ورواه الحاكم في مستدركه وصحّح إسناده، وصحّحه عبد الحق الإشبيلي والذهبي، وجوّد إسناده النووي والعراقي.
وهذا الحديث مما أخطأ بعض أهل الهجرة والجهاد في فهمه، وظنوا أن سياحة الجهاد هي ما عليه أهل العصر من «التنقل من بلد إلى بلد طلبا للتنزه أو الاستطلاع والكشف» [المعجم الوسيط المعاصر]، فإذا نظر بعد فهمه الخاطئ إلى شيء من جمال البلد المُهاجَر إليه من جبال وأنهار وشواطئ وأشجار، أو وجد شيئا من رغد العيش فيه من طعام وشراب وزينة وراحة، أشار إلى زهرة الحياة الدنيا، وقال: «صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إن الجهاد سياحة الأمة!».
وهكذا أخطأ كثير من الناس في فهم الحديث والأثر، فشتّان ما بين ما هو مقصود في الحديث الشريف، وبين ما ذهبت إليه أذهان كثير من الناس.
فإن قيل، فما معنى «السياحة» المذكورة إن لم يكن سفر النزهة المتعارف عليه؟
الجواب: إنما يُفسّر غريب الحديث والأثر بلسان العرب الفصيح وبفهم السلف الصالح -لا ما اصطلح عليه المتأخرون ولا ما تعارف عليه المعاصرون- وهذا بالرجوع إلى أئمة اللغة والغريب، الذين حفظوا معاني القرآن والحديث لمن بعدهم من القرون كما حفظ القراء والمحدثون ألفاظ الوحيين، جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا كبيرا كثيرا.
قال ابن قتيبة، رحمه الله (المتوفى 276 هـ) في شرح ما جاء من السياحة في الأثر: «[السياحة]: مفارقة الأمصار والذهاب في الأرض كفعل... عُبّاد بني إسرائيل... وأراد -صلى الله عليه وسلم- أن الله -جل وعز- قد وضع هذا عن المسلمين وبعثه بالحنيفية السمحة» [غريب الحديث].
وقال ابن الأنباري، رحمه الله (المتوفى 328 هـ): «السياحة: الخروج إلى أطراف البلاد، والتفرد من الناس، بحيث لا يشهد جمعة، ولا يحضر جماعة» [الزاهر].
وقال أبو منصور الأزهري، رحمه الله (المتوفى 370 هـ): «قال الليث: السياحة ذهاب الرجل في الأرض للعبادة والترهّب، وسياحة هذه الأمة الصيام ولزوم المساجد» [تهذيب اللغة].
فالسياحة التي لم يأذن بها النبي -صلى الله عليه وسلم- هي من الترهّب الذي لم يشرّعه أحكم الحاكمين، قال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27].
عن عروة بن الزبير -رحمه الله- قال: «دخلت امرأة عثمان بن مظعون... على عائشة وهي باذَّة الهيئة فسألتها ما شأنك؟ فقالت: زوجي يقوم الليل ويصوم النهار؛ فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكرت عائشة ذلك له، فلقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عثمان فقال: (يا عثمان، إن الرهبانية لم تكتب علينا، أفما لك فيّ أسوة، فوالله إني أخشاكم لله، وأحفظكم لحدوده) [رواه أحمد وأبو داود وابن حبان].
وهكذا، لما استأذن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- النبي -صلى الله عليه وسلم- في السياحة، نهاه -صلى الله عليه وسلم- عن التشبّه بالرهبان الضالين، وأرشده إلى ما شرعه الله –تعالى- منهاجا لخير أمة أخرجت للناس: الجهاد في سبيله؛ وفيه ما في سياحة الرهبانية من الزهد والعزلة والذكر والعبادة، يتقرب المجاهد إلى الله بالتزام هذه الحقائق في أسفار جهاده، وليكون بذلك من رهبان الليل فرسان النهار، وهم: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 13-14].
وتشهد لقول أئمة اللغة بعضُ الأحاديث المرفوعة الضعيفة، منها: (عليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام) [رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري]، و(لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله) [رواه أحمد عن أنس]، و(عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمّتي) [رواه ابن حبّان عن أبي ذر].
ومنها: رواية لحديث عثمان بن مظعون، أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ائذن لنا بالاختصاء»؛ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من خصى، ولا اختصى، إنّ إخصاء أمتي الصيام)؛ فقال: «يا رسول الله، ائذن لنا في السياحة»؛ فقال: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله)؛ فقال: «يا رسول الله، ائذن لنا في الترهّب»؛ فقال: (إن ترهّب أمتي الجلوس في المساجد انتظار الصلاة) [رواه ابن المبارك في الزهد بإسناد ضعيف].
ومنها: (لا سياحة، ولا تبتّل، ولا ترهّب في الإسلام) [رواه عبد الرزاق عن طاووس مرسلا].
قال ابن قتيبة: «قوله (ولا رهبانية) يريد فعل الرهبان من مواصلة الصوم ولبس المُسوح وترك أكل اللحم وأشباه ذلك... وقوله (ولا تبتّل) يريد ترك النكاح» [غريب الحديث].
وقال ابن الأنباري: «[راهب متبتّل]: منقطع إلى الله -تبارك وتعالى- تارك للنكاح»، ثم ذكر حديث طاووس، ثم قال: «الرهبانية: لزوم الصوامع، وترك أكل اللحم» [الزاهر].
ومما يشهد لقول أئمة اللغة أيضا بعضُ الآثار الموقوفة والمقطوعة، منها: «سياحةُ هذه الأمة الصيام» [رواه الطبري عن عائشة]، و«{السَّائِحُونَ}: الصائمون»، و«{سَائِحَاتٍ}: صائمات» [رواهما الطبري عن عدد من السلف].
قال ابن قتيبة: «أصل السائح: الذاهب في الأرض... والسائح في الأرض ممتنع من الشهوات، فشُبّه الصائم به، لإمساكه في صومه عن المطعم والمشرب والنكاح» [غريب القرآن].
وقال الطبري -رحمه الله- في تفسيره: «كان بعض أهل العربية يقول: نرى أن الصائم إنما سُمي سائحا، لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل حيث يجد الطعام، فكأنه أُخذ من ذلك».
ومنها: عن سفيان بن عيينة -رحمه الله- قال: «حدثنا عمرو، أنه سمع وهب بن منبه يقول: كانت السياحة في بني إسرائيل...» قال ابن عيينة: «إذا ترك الطعام والشراب والنساء فهو السائح» [رواه الطبري].
وقال المروزي، رحمه الله (المتوفى 294 هـ): «عن إسحاق بن سويد [تابعي، توفي 131 هـ]: كانوا [أي السلف الصالح] يرون السياحة صيام النهار وقيام الليل» [مختصر قيام الليل].
وبعد هذا، يظهر بلا ريب أن المقصود بـ (سياحة أمتي الجهاد)، النهي عن سياحة الرهبان المبتدعة وما فيها من ادعاء التوكّل والزهد بترك الزاد والإعراض عن النكاح -وهي عادة وَرِثَتها بعض الطرق الصوفية من كفرة أهل الكتاب- والمقصود أيضا، الإرشاد إلى ما هو خير من السياحة، الجهاد في سبيل الله، وما يترتّب عليه من الاجتهاد في العبادة وطلب لقاء الله -سبحانه وتعالى- علماً أن بعض السلف الصالح جعلوا من بدائل السياحة: الاعتكاف وقيام الليل والصيام وطلب العلم، ومنهم من جعلها الهجرة إلى الله التي قورنت بالجهاد في الوحيين، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم -رحمه الله- (المتوفى 182 هـ) في تفسير قوله سبحانه {السَّائِحُونَ} وقوله تعالى {سَائِحَاتٍ}: «ليس في القرآن ولا في أمة محمد سياحة إلا الهجرة» [رواه الطبري]، وقال: «كان سياحتهم الهجرة حين هاجروا إلى المدينة» [رواه ابن أبي حاتم].
فمن أراد أن يكون من أهل السياحة السنية السلفية، فعليه بالهجرة والجهاد، وعليه أن يجاهد نفسه في الله بالتزام الزهد والذكر في رباطه وقتاله ما استطاع، وعليه أن يهجر ما كره الله من الخطايا والذنوب الظاهرة والباطنة، ومنها: العجب والكبر والغيبة والنميمة والقتال للمغنم وللذكر.
وفي الختام، قال ابن القيم -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ...} الآية [التوبة: 111-112]: «فُسِّرت السياحة بالصيام، وفُسِّرت بالسفر في طلب العلم، وفُسِّرت بالجهاد، وفُسِّرت بدوام الطاعة، والتحقيق فيها أنها سياحة القلب في ذكر الله، ومحبته، والإنابة إليه، والشوق إلى لقائه، ويترتّب عليها كل ما ذكر من الأفعال، ولذلك وصف الله –سبحانه- نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- اللاتي لو طُلق أزواجه، بدله بهن بأنهن سائحات، وليست سياحتهن جهادا، ولا سفرا في طلب علم، ولا إدامة صيام، وإنما هي سياحة قلوبهن في محبة الله تعالى، وخشيته، والإنابة إليه، وذكره، وتأمل كيف جعل الله -سبحانه- التوبة والعبادة قرينتين، هذه ترك ما يكره وهذه فعل ما يحب، والحمد والسياحة قرينتين، هذا الثناء عليه بأوصاف كماله وسياحة اللسان في أفضل ذكره، وهذه سياحة القلب في حبه وذكره وإجلاله، كما جعل سبحانه العبادة والسياحة قرينتين في صفة الأزواج، فهذه عبادة البدن وهذه عبادة القلب» [حادي الأرواح].
هذا، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على الرسول النبي الصادق الأمين، وعلى أزواجه وذريته الطيبين الطاهرين.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 59
الخميس 15 ربيع الأول 1438 هـ
• لقراءة الصحيفة تواصل - تيليغرام:
@wmc111at