ومنها: (لا سياحة، ولا تبتّل، ولا ترهّب في الإسلام) [رواه عبد الرزاق عن طاووس مرسلا]. قال ابن ...

منذ 2025-03-08
ومنها: (لا سياحة، ولا تبتّل، ولا ترهّب في الإسلام) [رواه عبد الرزاق عن طاووس مرسلا].
قال ابن قتيبة: «قوله (ولا رهبانية) يريد فعل الرهبان من مواصلة الصوم ولبس المُسوح وترك أكل اللحم وأشباه ذلك... وقوله (ولا تبتّل) يريد ترك النكاح» [غريب الحديث].

وقال ابن الأنباري: «[راهب متبتّل]: منقطع إلى الله -تبارك وتعالى- تارك للنكاح»، ثم ذكر حديث طاووس، ثم قال: «الرهبانية: لزوم الصوامع، وترك أكل اللحم» [الزاهر].

ومما يشهد لقول أئمة اللغة أيضا بعضُ الآثار الموقوفة والمقطوعة، منها: «سياحةُ هذه الأمة الصيام» [رواه الطبري عن عائشة]، و«{السَّائِحُونَ}: الصائمون»، و«{سَائِحَاتٍ}: صائمات» [رواهما الطبري عن عدد من السلف].

قال ابن قتيبة: «أصل السائح: الذاهب في الأرض... والسائح في الأرض ممتنع من الشهوات، فشُبّه الصائم به، لإمساكه في صومه عن المطعم والمشرب والنكاح» [غريب القرآن].

وقال الطبري -رحمه الله- في تفسيره: «كان بعض أهل العربية يقول: نرى أن الصائم إنما سُمي سائحا، لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل حيث يجد الطعام، فكأنه أُخذ من ذلك».

ومنها: عن سفيان بن عيينة -رحمه الله- قال: «حدثنا عمرو، أنه سمع وهب بن منبه يقول: كانت السياحة في بني إسرائيل...» قال ابن عيينة: «إذا ترك الطعام والشراب والنساء فهو السائح» [رواه الطبري].

وقال المروزي، رحمه الله (المتوفى 294 هـ): «عن إسحاق بن سويد [تابعي، توفي 131 هـ]: كانوا [أي السلف الصالح] يرون السياحة صيام النهار وقيام الليل» [مختصر قيام الليل].

وبعد هذا، يظهر بلا ريب أن المقصود بـ (سياحة أمتي الجهاد)، النهي عن سياحة الرهبان المبتدعة وما فيها من ادعاء التوكّل والزهد بترك الزاد والإعراض عن النكاح -وهي عادة وَرِثَتها بعض الطرق الصوفية من كفرة أهل الكتاب- والمقصود أيضا، الإرشاد إلى ما هو خير من السياحة، الجهاد في سبيل الله، وما يترتّب عليه من الاجتهاد في العبادة وطلب لقاء الله -سبحانه وتعالى- علماً أن بعض السلف الصالح جعلوا من بدائل السياحة: الاعتكاف وقيام الليل والصيام وطلب العلم، ومنهم من جعلها الهجرة إلى الله التي قورنت بالجهاد في الوحيين، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم -رحمه الله- (المتوفى 182 هـ) في تفسير قوله سبحانه {السَّائِحُونَ} وقوله تعالى {سَائِحَاتٍ}: «ليس في القرآن ولا في أمة محمد سياحة إلا الهجرة» [رواه الطبري]، وقال: «كان سياحتهم الهجرة حين هاجروا إلى المدينة» [رواه ابن أبي حاتم].

فمن أراد أن يكون من أهل السياحة السنية السلفية، فعليه بالهجرة والجهاد، وعليه أن يجاهد نفسه في الله بالتزام الزهد والذكر في رباطه وقتاله ما استطاع، وعليه أن يهجر ما كره الله من الخطايا والذنوب الظاهرة والباطنة، ومنها: العجب والكبر والغيبة والنميمة والقتال للمغنم وللذكر.
وفي الختام، قال ابن القيم -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ...} الآية [التوبة: 111-112]: «فُسِّرت السياحة بالصيام، وفُسِّرت بالسفر في طلب العلم، وفُسِّرت بالجهاد، وفُسِّرت بدوام الطاعة، والتحقيق فيها أنها سياحة القلب في ذكر الله، ومحبته، والإنابة إليه، والشوق إلى لقائه، ويترتّب عليها كل ما ذكر من الأفعال، ولذلك وصف الله –سبحانه- نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- اللاتي لو طُلق أزواجه، بدله بهن بأنهن سائحات، وليست سياحتهن جهادا، ولا سفرا في طلب علم، ولا إدامة صيام، وإنما هي سياحة قلوبهن في محبة الله تعالى، وخشيته، والإنابة إليه، وذكره، وتأمل كيف جعل الله -سبحانه- التوبة والعبادة قرينتين، هذه ترك ما يكره وهذه فعل ما يحب، والحمد والسياحة قرينتين، هذا الثناء عليه بأوصاف كماله وسياحة اللسان في أفضل ذكره، وهذه سياحة القلب في حبه وذكره وإجلاله، كما جعل سبحانه العبادة والسياحة قرينتين في صفة الأزواج، فهذه عبادة البدن وهذه عبادة القلب» [حادي الأرواح].

هذا، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على الرسول النبي الصادق الأمين، وعلى أزواجه وذريته الطيبين الطاهرين.



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 59
الخميس 15 ربيع الأول 1438 ه‍ـ

• لقراءة الصحيفة تواصل - تيليغرام:
@wmc111at

679449f57f363

  • 4
  • 0
  • 5

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً