صحيفة النبأ العدد 485 المقال الافتتاحي: موقعة المكتب البيضاوي لم تتسع كل مسارات الدبلوماسية ...

منذ يوم
صحيفة النبأ العدد 485
المقال الافتتاحي:
موقعة المكتب البيضاوي

لم تتسع كل مسارات الدبلوماسية لاحتواء خلاف الحليفين الأمريكي والأوكراني حتى انفجر على الهواء مباشرة وسط المكتب البيضاوي الذي لطالما تآمروا واجتمعوا فيه على حربنا، إنه انقسام كبير في المعسكر الصليبي هو الأبرز في عصرنا، لكنه ليس جديدا ولا غريبا على التركيبة الصليبية طوال تاريخها الأسود.

وسريعا امتدت الأزمة الصليبية خارج المكتب البيضاوي لتشمل أوروبا بأسرها التي سارعت إلى عقد قمة أوروبية استثنائية في "لحظة لا تتكرر إلا مرة كل جيل" كما وصفوها بأنفسهم، هذه القمة لم تنعقد لبحث خطر الدولة الإسلامية وهجماتها العالمية! وإنما لبحث سُبل دعم أوكرانيا بعد موقف "العم سام" الذي جنح للسلم حاليا مع روسيا على حساب علاقته التاريخية بأوروبا العجوز، سعيًا منه للتفرغ لأزماته الخاصة وانكفاءً على ذاته تحت شعار "أمريكا أولا".

موقعة المكتب البيضاوي، تعكس حجم الضغط الذي تعيشه الإدارة الأمريكية بفعل أزماتها الداخلية وصراعها المتصاعد مع الصين الشيوعية، فترامب ومساعدوه أرادوا أن يعلّموا أوروبا -بالطريقة الصعبة- أنها أمام واقع جديد لن تجني فيه خدمات أمريكية مجانية! أو أي خدمات لا تكون فيها مصالح أمريكا أولا، كما تعكس الموقعة الصاخبة حجم الورطة الأمريكية الأوروبية جراء استمرار الحرب الأوكرانية التي غدت مصدر استنزاف عسكري واقتصادي كبير للطرفين خلافا لما أمّلوه منها، حيث أرادوا أن تكون أوكرانيا كبش الفداء الذي سيجنّبهم المذبحة الصليبية على أراضيهم، لكن يبدو أن آمالهم خابت.

قبل موقعة المكتب البيضاوي، كانت أوروبا قد بدأت بالفعل زيادة الإنفاق على قدراتها الدفاعية، لتحكّ جلدها بظفرها، بعد انشغال المخالب الأمريكية بجلدها المتورم من الحساسيّة الصينيّة! وقبلها "التهديدات الإرهابية"، والآن أوروبا -أو بعض أقطابها- يرون أنه لا مناص من التسلُّح بحثا عن "الأمن" الذي لم تعد أمريكا قادرة أو راغبة في توفيره لهم.

زيادة الإنفاق الدفاعي والتسلُّح الأوروبي المكلف، يعني أنّ على القارة العجوز الاستعداد لموجات من التقشف والتخلي عن الكثير من الرفاهية، فهم مقبلون على عصر جديد عليهم أن يختاروا فيه بين "الأمن" و "الرفاهية" في ظل الانقسام الصليبي الكبير، فهل سيحتمل المجتمع الصليبي ذلك؟

والأهم بالنسبة إلينا، أنّ الاستقلال الدفاعي الأوروبي عن أمريكا يضع مصير "حلف الناتو" على المحك، وهو ما دفع العديد من الصحف الصليبية العالمية للتساؤل عن مستقبل "الناتو" في ظل هذا الانقسام في المعسكر الأمريكي الأوروبي، وبالتالي مدى تأثير ذلك على التحالف الدولي الصليبي لمحاربة الدولة الإسلامية التي ما زالت هجمات أسودها تصل إلى أوروبا وأمريكا.

أضف إلى ذلك، أنّ الموقف الأوروبي غير مجمع بالكامل على دعم أوكرانيا عسكريا خلافا للرغبة الأمريكية؛ ما يعني أنّ شبح الانقسام يهدد "الاتحاد الأوروبي" الذي يترنح في السير على حبال الوصل بين "البيت الأوروبي" و "البيت الأبيض" ويبدو أنّ عليه هو الآخر الاختيار بينهما في مرحلة ما.

العسكرة الأوروبية التي تراها أوروبا ضرورة أمنية لها، تقرؤها روسيا أنها محاولة لإشعال نار الحرب كما صرح بذلك العديد من المسؤولين الروس، أي أنّ طبول الحرب تقرع في أوروبا لأول مرة بعد سنوات من محاولة توريط أوكرانيا وحدها بذلك، وهو ما دفع وزير خارجية فرنسا للقول "إن خط الجبهة يقترب منا أكثر من أي وقت مضى".

كل ما سبق يمهد لتفكك النظام الدولي الأمريكي - الأوروبي وفقدان القبضة المركزية وصولا إلى نشوء تحالفات وكيانات جديدة على قاعدة؛ أنّ الكل لديه خططه وأطماعه الخاصة، ما يعني العودة إلى عصر الحروب التي اجتهد الصليبيون في إبعادها عن أراضيهم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إنها لمحة بسيطة عن مستقبل الانقسام الصليبي المتصاعد وهو مصداق قوله تعالى فيهم: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.

في البعد المنهجي، يعد الخناق في المكتب البيضاوي هو الصورة الحقيقية للسياسة الجاهلية التي افتتن بها الجهاديون النُّكّث بعد أن طال عليهم الأمد في أواخر عهدهم واستمرأوا الارتكاس في دركاتها واستمروا يصفونها -كذبا- بالشرعية، وزيّن لهم الشيطان أنّ فيها الخلاص من ضريبة التوحيد الخالص التي يدفعها الربيون طوعا منذ عهد النبوة وإلى يومنا هذا.

وفيه إشارة إلى الذين لاذوا بالمجتمع الدولي في زمن أفول نجمه وتصدُّع بنيانه، ونعني بذلك الحركات والتنظيمات المرتدة التي تظن أنها من الحنكة والخبرة السياسية بمكان؛ يبلّغها كسب العون والمدد الأمريكي بتقديم معونة أو رفع عقوبة، في الوقت الذي تقطع أمريكا معوناتها عن حلفائها الصليبيين وتلوح بعقوبات عليهم، فهل تتسع "الأسرة الدولية" لمرتدة العرب وهي قد ضاقت على أبنائها الإفرنج الخلّص؟ وماذا عسى أن يكون مصير المسخ "جولانسكي" وهو يرى "زيلينسكي" يوبَّخ ويُهان في عقر دار المجتمع الدولي الذي يناغيه ويستجديه الجهاديون النُّكّث من مالي إلى دمشق بعد أن زلقت أقدامهم في الطين!

ومن المفارقات العادلة أنّ هذا الانقسام في المعسكر الدولي الصليبي سينعكس سلبا وخرابا على هؤلاء الذين بنوا حكوماتهم ومشاريعهم بالاتكاء عليه والتعلق بأستاره ورهنوا مصيرهم بمصيره، بينما سيجني ثمار خرابه من كانوا وما زالوا شوكة في حلقه يجمع لحربهم "تحالفا عالميا" بات مستقبله مرهونا بهذا "الانقسام الصليبي الخلاق"، ولذلك يتحتم على أجناد وأنصار الخلافة وجوب استغلال هذا الانقسام والاستعداد له من الآن.

تاريخيا، نذكّر بأنّ التفرق والتشرذم هو الأصل لدى الصليبيين، فهم مختلفون في كل شيء حتى في إلههم المفترى!، وإنّ انقسام وتفكك الحملات الصليبية المعاصرة شبيه بما أصاب سابقاتها الغابرة، فالعداوة والبغضاء والأطماع الخاصة لكل حلف ودولة بدأت تطغى على المشهد الصليبي، كلٌّ يصرخ نفسي نفسي!، يقابل ذلك ثبات الربانيين على توحيدهم وجهادهم الذي لم يتوقف، وهو ما فاقم من معاناة الدول الصليبية رغم تركيزها وانشغالها به، فكيف لو انشغلت بنفسها عنه؟!

ختاما، ليتأمل المجاهد الموقن بوعد مولاه، كيف أنّ تحالفاتهم ومؤتمراتهم التي كانوا يعقدونها لحرب الدولة الإسلامية، قد انقلبت ودارت الدائرة عليهم، فباتوا يعقدونها لبحث انقساماتهم وحروبهم الداخلية التي ما زالت في بداياتها، فاللهم خالف بين قلوبهم وأدر دائرة السوء عليهم.


صحيفة النبأ – العدد 485
السنة السادسة عشرة - الخميس 6 رمضان 1446 هـ
المقال الافتتاحي:
موقعة المكتب البيضاوي

* لقراءة الصحيفة كاملة، تواصل - تيليغرام:
@wmc111at

669046008d1ba

  • 6
  • 0
  • 9

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً