أرملة شهيد بإذن الله • إن الشهادة في سبيل الله لهي أقصى الطلب ومنتهى الأرب، يجدّ لنيلها ...

منذ 2025-03-12
أرملة شهيد بإذن الله


• إن الشهادة في سبيل الله لهي أقصى الطلب ومنتهى الأرب، يجدّ لنيلها الجادون، ويبذل لها أرواحهم الباذلون، ومن منا لا يشتاق لشهادة تغسل الذنب وترضي الرب؟ غير أنه ومع عظم أمر الشهادة إلا أننا بتنا نرى جزما من كثير من الناس بشهادة زيد من الناس أو عمرو، هكذا على الإطلاق ودون تقيد بنص من أحد الوحيين -الكتاب والسنة- كما تجزم بعض زوجات المجاهدين بأن أزواجهن القتلى هم من الشهداء قطعا.

وهذا الجزم مناف لعقيدة أهل السنة والجماعة الذين لا يقطعون لمعين من أهل القبلة بجنة أو نار إلا من ورد فيه نص واضح صريح، كالعشرة المبشرين بالجنة، الذين سماهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم الخلفاء الراشدون الأربعة ومعهم الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، رضي الله عنهم جميعا.

كذلك ممن شهد لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة سبطاه الحسن والحسين، وعمار بن ياسر، وبلال بن رباح، وعكاشة بن محصن، وثابت بن قيس وغيرهم من المبشرين بالجنة.

• الأعمال بالخواتيم:

وعلى المسلمة أن تعلم أن ظاهر المرء المسلم ليس دليلا قطعيا على أنه من أهل الجنة أو من أهل النار، وقد بوّب البخاري -رحمه الله- في صحيحه: «باب: العمل بالخواتيم»، وروى عن سهل بن سعد، أن رجلا من أعظم المسلمين غناء عن المسلمين، في غزوة غزاها مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فنظر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (من أحب أن ينظر إلى الرجل من أهل النار، فلينظر إلى هذا)، فاتبعه رجل من القوم، وهو على تلك الحال من أشد الناس على المشركين، حتى جُرح، فاستعجل الموت، فجعل ذبابة سيفه بين ثدييه حتى خرج من بين كتفيه، فأقبل الرجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- مسرعا، فقال: أشهد أنك رسول الله! فقال: (وما ذاك؟) قال: قلت لفلان: (من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه)، وكان من أعظمنا غناء عن المسلمين، فعرفت أنه لا يموت على ذلك، فلما جُرح استعجل الموت فقَتل نفسه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: (إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم).

وكم ممن ظاهره الصلاح والتقوى ويُختم له بسوء، وكم ممن ظاهره الفساد والفجور ويُختم له بخير، وكم من أمرئ عَبَد الله فصلى وصام ورابط وجاهد رياء وسمعة، وكم من امرئ أخلص النية لله تعالى ولكنه عَبَد الله على غير طريق النبي، صلى الله عليه وسلم.

• أهل السنة لا يحكمون لمسلم بجنة ولا نار:

ولذا فإن أهل السنة والجماعة يرجون الجنة للمحسن، ويخشون النار على المسيء من أهل الإسلام دون قطع أو جزم.

قال أحمد بن حنبل، رحمه الله: «ولا نشهد على أهل القبلة بعمل يعمله بجنة ولا نار، نرجو للصالح ونخاف عليه، ونخاف على المسيء المذنب ونرجو له رحمة الله» [أصول السنة].

وقال ابن تيمية، رحمه الله: «وهم لا يقطعون لأحد من أهل القبلة لا بجنة ولا نار، إلا من قطع له النص» [مجموع الفتاوى].

وقال محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: «ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار، إلا من شهد له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكني أرجو للمحسن، وأخاف على المسيء» [الدرر السنية].
وقد تقول قائلة: ولكن هذه الأقوال ليست فيمن يُقتل مجاهدا في سبيل الله، بل إن المجاهد في سبيل الله، إن قُتل فهو شهيد.

فنقول مستعينين بالله: قد بوّب البخاري -رحمه الله- في صحيحه «باب لا يقول: فلان شهيد»، قال ابن حجر تعليقا على هذا التبويب: «أي على سبيل القطع والجزم بذلك» [فتح الباري]، وجاء في الباب عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الله أعلم بمن يجاهد في سبيله، والله أعلم بمن يُكلم في سبيله).


• إني لأرجو له الخير:

وعن خارجة بن زيد الأنصاري، أن أم العلاء أخبرته أن عثمان بن مظعون طار له سهمه في السكنى، حين أقرعت الأنصار سكنى المهاجرين، قالت أم العلاء: فسكن عندنا عثمان بن مظعون، فاشتكى، فمرضناه حتى إذا توفي وجعلناه في ثيابه، دخل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله؛ فقال لي النبي، صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله أكرمه؟) فقلت: لا أدري، بأبي أنت وأمي يا رسول الله؛ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (أما عثمان، فقد جاءه واللهِ اليقين، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يُفعل به)، قالت: فوالله لا أزكي أحدا بعده أبدا، وأحزنني ذلك، قالت: فنمت، فأريت لعثمان عينا تجري، فجئت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته، فقال: (ذاك عمله) [رواه البخاري].

فتأملي أختي المسلمة -أرشدك الله- كيف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد سأل أم العلاء: (وما يدريك أن الله أكرمه؟) وفي سؤاله هذا إنكار منه لشهادتها له بأنه من المكرمين قطعا.
• كم من مقاتل مأواه في النار؟

وكم من مجاهد في سبيل الله كما يبدو للناس، ويُقتل على ذلك، ولكن مأواه النار عياذا بالله؟ وليس أدل على ذلك من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حيث قال: لما كان يوم خيبر، أقبل نفر من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد؛ حتى مروا على رجل، فقالوا: فلان شهيد؛ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (كلا، إني رأيته في النار في بردة غلها) -أو- (عباءة)، ثم قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (يا ابن الخطاب، اذهب فنادِ في الناس، أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون)، قال: فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون [رواه مسلم].

ولا تنس المسلمة أن ممن تسعّر بهم نار جهنم مجاهد، حسبناه في الدنيا يقاتل في سبيل الله غير أن الخبير سبحانه قد اطلع على قلبه وعلم وهو العليم أنه ما جاهد إلا رياء وسمعة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استُشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استُشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار) [رواه مسلم].

• نحسبه والله حسيبه:

وإن قالت قائلة: كيف لا نحكم عليه بالشهادة وهو إذا قُتل يأخذ أحكام الشهيد كعدم الغسل والتكفين والصلاة عليه وما إلى ذلك؟
نقول حينها أن هذا ليس مدعاة للقطع لمن يُقتل مجاهدا بالجنة، بل إننا نحتسبه شهيدا عند الله -عز وجل- بما شهدنا له من ظاهره على أنه خرج لله، وقاتل فيه إعلاء لكلمته في الأرض، فندعو له بالجنة وأن يتقبله الله تعالى في الشهداء، أما الجزم له بالجنة فلا، لأن ما في قلبه لا يعلمه إلا الله، عز وجل.

وقد روى البخاري ومسلم عن أبي بكرة -رضي الله عنه- أن رجلا أثنى على رجل عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (ويلك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك)، مرارا، ثم قال: (من كان منكم مادحا أخاه لا محالة، فليقل أحسب فلانا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدا أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه).

وعن عبد الله بن مسعود قال: (إياكم أن تقولوا مات فلان شهيدا، أو قتل فلان شهيدا، فإن الرجل يقاتل ليغنم، ويقاتل ليُذكر، ويقاتل ليُرى مكانه) [رواه أحمد].

• أرملة شهيد بإذن الله:

وبناءا على ما تقدم ذكره، فلا يجوز لمسلم أو مسلمة الجزم والقطع بأن فلانا شهيد، فيا مسلمة، حتى وإن كان زوجك من أصلح الناس وأتقاهم، وأعبدهم وأزهدهم، صوّاما بالنهار قوّاما بالليل، ذاكرا لربه في جميع حاله وأحواله، هاجر في سبيل الله تعالى أو ناصر وقاتل تحت راية الحق راية الدولة الإسلامية، نصرها الله، وإن كان استشهاديا قد تقطعت أشلاؤه ذبّا عن هذا الدين، فلا ينبغي لك بحال إن هو قُتل القطع له بالشهادة، وإلا تكونين من المتأليات على الله -عز وجل- ولا تقولي أنا أرملة شهيد، بل قولي أنا أرملة شهيد بإذن الله تعالى، أو أحسبه كذلك والله حسيبه.

اللهم ارحم قتلانا واغفر لهم وتقبلهم عندك في الشهداء وجازهم عن أمة نبيّك خير الجزاء، واختم لنا بالشهادة في سبيلك يا ذا الجلال والإكرام.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 61
الخميس 29 ربيع الأول 1438 ه‍ـ

67892a3c56358

  • 5
  • 0
  • 20

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً