مَن كان من الأمراء والسلاطين لا يأكل إلا من عمل يده في هذه المقالة سنذكر بعض الأمراء والسلاطين ...
منذ 2025-04-28
مَن كان من الأمراء والسلاطين لا يأكل إلا من عمل يده
في هذه المقالة سنذكر بعض الأمراء والسلاطين الذين كانوا يأكلون من عمل أيديهم من حرفة يتكسبون بها، تحرياً للحلال، واستعفافا عن المال العام، ورغبة بالأفضل، ولن نذكر هنا من كان يتكسب بالتجارة، أو يأكل من نصيبه من الغنائم التي حازها في غزواته، وإن كان داخلاً في معنى الكسب باليد، ولعل الله تعالى ييسر بإتمام كتاب وسمته بـ "على درب الراشدين" سيكون بإذن الله تعالى أعم وأشمل من هذه المقالة، وحتى لا يمل القارئ من طول المقدمة نشرع في المقصود، وأول هؤلاء الأمراء:
1 –دواد عليه السلام (1100 ق.م. – 971 ق.م.).
النبي الملك، والمبعوث إلى بني إسرائيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ عليه السلام الْقُرْآنُ؛ فكانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسْرَجُ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ". [رواه البخاري]
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وفي الحديث فضل العمل باليد، وتقديم ما يباشره الشخص بنفسه على ما يباشره بغيره، والحكمة في تخصيص داود بالذكر أن اقتصاره في أكله على ما يعمله بيده لم يكن من الحاجة؛ لأنه كان خليفة في الأرض كما قال الله تعالى، وإنما ابتغى الأكل من طريق الأفضل، ولهذا أورد النبي صلى الله عليه وسلم قصته في مقام الاحتجاج بها على ما قدمه من أن خير الكسب عمل اليد، وهذا بعد تقرير أن شرع من قبلنا شرع لنا، ولا سيما إذا ورد في شرعنا مدحه وتحسينه مع عموم قوله تعالى: {فبهداهم اقتده} وفي الحديث أن التكسب لا يقدح في التوكل، وأن ذكر الشيء بدليله أوقع في نفس سامعه.
2 – الصحابي الجليل سلمان الفارسي -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-(ت 33هـ).
يكنى أبا عبد الله ويعرف بسلمان الخير، وكان ينسب إلى الإِسلام فيقول: أنا سلمان ابن الإِسلام. ويُعَد من موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان السبب في عتقه.
قال الحسن: كان عطاء سلمان خمسة آلاف، وكان إذا خرج عطاؤه تصدّق به، ويأكل من عمل يده حال كونه أميراً على المدائن عاصمة الأكاسرة.
3 - نور الدين محمود زنكي (511 - 569 هـ).
الملقب بالملك العادل: ملك الشام وديار الجزيرة ومصر. وهو أعدل ملوك زمانه وأجلّهم وأفضلهم، وهو أول من بنى دارا للحديث، عاش مجاهداً وحامياً للثغور، وكان يتمنى أن يموت شهيدا، فمات بعلة "الخوانيق" في قلعة دمشق، فقيل له (الشهيد) وقبره في "المدرسة النورية" التي بناها للأحناف بدمشق.
قال الموفق عبد اللطيف: كان نور الدين لم ينشف له لبد من الجهاد، وكان يأكل من عمل يده، ينسخ تارةً، ويعمل أغلافًا تارة، ويلبس الصوف، ويلازم السجادة والمصحف، وكان حنفيًا يراعي مذهب الشافعي ومالك...
4 - السلطان محمود الثاني بن عبد الحميد (1199 - 1255هـ).
السلطان الثلاثون من سلاطين الدولة العثمانية، تولى الخلافة وله من العمر ثلاث وعشرون وقيل: أربع وعشرون سنة، وقام بإصلاحات مهمة أثناء خلافته شملت الجانب الحربي، والتعليمي.
قال الإمام الشوكاني -رحمه الله تعالى- في كتابه "البدار الطالع" عند ترجمته للسلطان محمود بن السلطان عبد الحميد: في هذا الوقت أخبرنا من وفد إلينا من أهل تلك الجهات أنه ولي السلطنة في سنة 1222 ووصفوه بالعلم والزهد وحسن الخط والعدل وأنه يأكل من عمل يده تحريا للحلال هذا وهو سلطان الدنيا وملك العالم...
5 – أورنك زيب عالمكير (1028- 1118هـ).
الإمام العادل الورع التقي الزاهد أعظم سلاطين الهند على الإطلاق، وسمه الأديب علي الطنطاوي -رحمه الله تعالى- في كتابه "رجال من التاريخ" ببقية الخلفاء الراشدين، وذكر أنّه وفّق رحمه الله إلى أمرين لم يسبقه إليهما أحد من ملوك المسلمين:-
الأول: أنّه لم يكن يعطى عالما عطية أو راتبا إلا طالبه بعمل، بتأليف أو بتدريس، لئلا يأخذ المال ويتكاسل، فيكون قد جمع بين السيئتين، أخذ المال بلا حق وكتمان العلم !!
الثاني: أنّه أول من عمل على تدوين الأحكام الشرعية في كتاب واحد، يُتخذ قانونا، فوضعت له وبأمره وبإشرافه ونظره "الفتاوى التي نُسبت إليه فسميت " الفتاوى العالمكيرية " واشتهرت بـ " الفتاوى الهندية " من أشهر كتب الأحكام في الفقه الإسلامي وأجودها ترتيباً وتصنيفاً .
كان يصوم في شدة الحر، ويحيى الليل بالتراويح، ويعتكف العشرة الأخيرة من رمضان في المسجد، وكان يصوم يوم الاثنين والخميس، ويصوم في أيام ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم فيها.
حفظ القرآن الكريم بعد جلوسه على سرير الملك، فأرخ بعض العلماء لبدء حفظه من قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6]، ولتمامه من قوله {لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 22].
بنى المساجد في أقطار الهند، وأقام لها الأئمة والمدرسين، وأسس دورا للعجزة، ومارستانات للمجانين، ومستشفيات للمرضى.
حكم شبه القارة الهندية 50 عاماً نشر فيها العدل والأمان، وجاهد وهزم أعداء الإسلام.
كانت له معرفة بالحديث، وله كتاب الأربعين جمع فيه أربعين حديثًا من قول النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتولى المملكة، وله كتاب آخر جمع فيه أربعين حديثًا بعد الولاية وترجمهما بالفارسية وعلق عليهما الفوائد النفيسة.
وكان يكتب بخطه المصاحف ويبيعها ويعيش بثمنها لما زهد في أموال المسلمين وترك الأخذ منها!
6 – نختم بذكر أحد أولاد الخلفاء وإن لم يكن على شرطنا، لأنه تخلى عن الخلافة والملك، ولأخذ العظة والعبرة، ومعرفة أن هناك من يركلون الدنيا رغبة في الآخرة، وصاحبنا هو أحمد ابن أمير المؤمنين هارون الرشيد، وكان يسمى أحمد السبتي؛ لأنه لم يكن يعمل إلا يوم السبت مخالفة لليهود.
قال الحافظ ابن كثير عند ذكر وفيات سنة 184هـ: وفيها: أحمد ابن أمير المؤمنين الرَّشِيد: كان زاهدًا عابدًا قد تنسَّك، وكان لا يأكلُ إلَّا من عمَلِ يدِه في الطِّين. كان يعملُ فاعلًا فيه، وليس يَمْلِكُ إلَّا مَرًّا وزِنْبِيلًا؛ أي: مِجْرَفَة وقُفَّة. وكان يعملُ في كلِّ جمعةٍ بدِرْهمٍ ودانِق، يتَقَوَّتُ بهما من الجمعةِ إلى الجمعة، وكان لا يعملُ إلَّا في يومِ السبت فقط؛ ثم يُقبلُ على العبادةِ بقيَّةَ أيامِ الجُمعة، وكان من زُبيدةَ في قولِ بعضِهم، والصحيحُ أنَّهُ من امرأةٍ كان الرشيدُ قد أحبَّها فتزوَّجها، فحملَتْ منه بهذا الغلام؛ ثم إنَّ الرشيدَ أرسلها إلى البصرة، وأعطاها خاتمًا من ياقوتٍ أحمر، وأشياءَ نفيسة، وأمرَهَا إذا أفضَتْ إليه الخلافةُ أنْ تأتيه؛ فلما صارَتِ الخلافةُ إليه لم تأتِهِ، ولا ولَدُها، بل اختفيا. وبلَغَهُ أنَّهما ماتا، ولم يكنِ الأمرُ كذلك، وفحَصَ عنهما فلم يطلِعْ لهما على خبر، فكان هذا الشَّابُّ يعملُ بيدِهِ ويأكلُ من كَدَّها، ثم رجَعَ إلى بغداد، وكان يعملُ في الطين ويأكلُ مدَّةً زمانية. هذا وهو ابنُ أميرِ المؤمنين، ولا يذكرُ للناسِ منْ هو، إلى أن اتَّفَقَ مرَضُهُ في دارِ منْ كان يستعملُه في الطِّين، فمرَّضَهُ عندَه، فلمَّا احتُضر، أخرج الخاتمَ وقال لصاحبِ المنزل: اذهَبْ بهذا إلى الرشيد، وقل له: صاحبُ هذا الخاتم يقولُ لك: إيَّاكَ أنْ تموتَ في سكرتِكَ هذهِ فتندَمَ حيثُ لا ينفَعُ نادمًا نَدَمُه، واحذَرِ انصرافَكَ منْ بين يدي اللَّه إلى الدارَيْن، وأنْ يكونَ آخرَ العَهْدِ بك، فإنَّ ما أنتَ فيه لو دامَ لغيرِك لم يَصِلْ إليك، وسيصيرُ إلى غيرِك، وقد بَلَغكَ أخبارُ مَنْ مَضَى.
قال: فلمَّا ماتَ دَفَنْتُه، وطلبتُ الحضورَ عندَ الخليفة، فلمَّا أُوقفتُ بين يديه قال: ما حاجتُك؟ قلت: هذا الخاتم دفعَهُ إليَّ رجل، وأمَرني أنْ أدْفعَهُ إليك، وأوصاني بكلامٍ أقوله لك. فلمَّا نظَرَ إليه عرَفَهُ فقال: وَيْحك! وأين صاحبُ هذا الخاتم؟ قال: فقلت: مات يا أميرَ المؤمنين، وهو يقولُ لك: احذَرْ أن تموتَ في سَكْرَتِكَ هذهِ فتندَم. وذكرتُ له أنه يعملُ بالفاعل في كلِّ جمعةٍ يومًا بدرهمٍ وأربعِ دوانيق، أو بدرهمٍ ودانق، يتقوَّتُ به سائرَ الجمعة، ثم يُقبلُ على العبادة. قال: فلما سمع هذا الكلام قامَ فضرَبَ بنفسِهِ الأرض، وجعل يتمرَّغُ ويتقلَّبُ ظهرًا لِبَطني ويقول: واللَّه لقد نصَحْتَني يا بُني. ثم بكى، ثم رفع رأسَهُ إلى الرجل وقال: أتعرِفُ قبرَه؟ قلت: نعم، أنا دفنتُه. قال: إذا كان العشيُّ فأْتني، قال: فأتيتُهُ فذهَبَ إلى قبرِه، فلم يزَلْ يبكي عندَهُ حتى أصبح. ثم أمر لذلك الرجل بعشرةِ آلافِ درهم، وكتب له ولعيالِهِ رزقًا.
والحمد لله رب العالمين.
في هذه المقالة سنذكر بعض الأمراء والسلاطين الذين كانوا يأكلون من عمل أيديهم من حرفة يتكسبون بها، تحرياً للحلال، واستعفافا عن المال العام، ورغبة بالأفضل، ولن نذكر هنا من كان يتكسب بالتجارة، أو يأكل من نصيبه من الغنائم التي حازها في غزواته، وإن كان داخلاً في معنى الكسب باليد، ولعل الله تعالى ييسر بإتمام كتاب وسمته بـ "على درب الراشدين" سيكون بإذن الله تعالى أعم وأشمل من هذه المقالة، وحتى لا يمل القارئ من طول المقدمة نشرع في المقصود، وأول هؤلاء الأمراء:
1 –دواد عليه السلام (1100 ق.م. – 971 ق.م.).
النبي الملك، والمبعوث إلى بني إسرائيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ عليه السلام الْقُرْآنُ؛ فكانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسْرَجُ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ". [رواه البخاري]
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وفي الحديث فضل العمل باليد، وتقديم ما يباشره الشخص بنفسه على ما يباشره بغيره، والحكمة في تخصيص داود بالذكر أن اقتصاره في أكله على ما يعمله بيده لم يكن من الحاجة؛ لأنه كان خليفة في الأرض كما قال الله تعالى، وإنما ابتغى الأكل من طريق الأفضل، ولهذا أورد النبي صلى الله عليه وسلم قصته في مقام الاحتجاج بها على ما قدمه من أن خير الكسب عمل اليد، وهذا بعد تقرير أن شرع من قبلنا شرع لنا، ولا سيما إذا ورد في شرعنا مدحه وتحسينه مع عموم قوله تعالى: {فبهداهم اقتده} وفي الحديث أن التكسب لا يقدح في التوكل، وأن ذكر الشيء بدليله أوقع في نفس سامعه.
2 – الصحابي الجليل سلمان الفارسي -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-(ت 33هـ).
يكنى أبا عبد الله ويعرف بسلمان الخير، وكان ينسب إلى الإِسلام فيقول: أنا سلمان ابن الإِسلام. ويُعَد من موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان السبب في عتقه.
قال الحسن: كان عطاء سلمان خمسة آلاف، وكان إذا خرج عطاؤه تصدّق به، ويأكل من عمل يده حال كونه أميراً على المدائن عاصمة الأكاسرة.
3 - نور الدين محمود زنكي (511 - 569 هـ).
الملقب بالملك العادل: ملك الشام وديار الجزيرة ومصر. وهو أعدل ملوك زمانه وأجلّهم وأفضلهم، وهو أول من بنى دارا للحديث، عاش مجاهداً وحامياً للثغور، وكان يتمنى أن يموت شهيدا، فمات بعلة "الخوانيق" في قلعة دمشق، فقيل له (الشهيد) وقبره في "المدرسة النورية" التي بناها للأحناف بدمشق.
قال الموفق عبد اللطيف: كان نور الدين لم ينشف له لبد من الجهاد، وكان يأكل من عمل يده، ينسخ تارةً، ويعمل أغلافًا تارة، ويلبس الصوف، ويلازم السجادة والمصحف، وكان حنفيًا يراعي مذهب الشافعي ومالك...
4 - السلطان محمود الثاني بن عبد الحميد (1199 - 1255هـ).
السلطان الثلاثون من سلاطين الدولة العثمانية، تولى الخلافة وله من العمر ثلاث وعشرون وقيل: أربع وعشرون سنة، وقام بإصلاحات مهمة أثناء خلافته شملت الجانب الحربي، والتعليمي.
قال الإمام الشوكاني -رحمه الله تعالى- في كتابه "البدار الطالع" عند ترجمته للسلطان محمود بن السلطان عبد الحميد: في هذا الوقت أخبرنا من وفد إلينا من أهل تلك الجهات أنه ولي السلطنة في سنة 1222 ووصفوه بالعلم والزهد وحسن الخط والعدل وأنه يأكل من عمل يده تحريا للحلال هذا وهو سلطان الدنيا وملك العالم...
5 – أورنك زيب عالمكير (1028- 1118هـ).
الإمام العادل الورع التقي الزاهد أعظم سلاطين الهند على الإطلاق، وسمه الأديب علي الطنطاوي -رحمه الله تعالى- في كتابه "رجال من التاريخ" ببقية الخلفاء الراشدين، وذكر أنّه وفّق رحمه الله إلى أمرين لم يسبقه إليهما أحد من ملوك المسلمين:-
الأول: أنّه لم يكن يعطى عالما عطية أو راتبا إلا طالبه بعمل، بتأليف أو بتدريس، لئلا يأخذ المال ويتكاسل، فيكون قد جمع بين السيئتين، أخذ المال بلا حق وكتمان العلم !!
الثاني: أنّه أول من عمل على تدوين الأحكام الشرعية في كتاب واحد، يُتخذ قانونا، فوضعت له وبأمره وبإشرافه ونظره "الفتاوى التي نُسبت إليه فسميت " الفتاوى العالمكيرية " واشتهرت بـ " الفتاوى الهندية " من أشهر كتب الأحكام في الفقه الإسلامي وأجودها ترتيباً وتصنيفاً .
كان يصوم في شدة الحر، ويحيى الليل بالتراويح، ويعتكف العشرة الأخيرة من رمضان في المسجد، وكان يصوم يوم الاثنين والخميس، ويصوم في أيام ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم فيها.
حفظ القرآن الكريم بعد جلوسه على سرير الملك، فأرخ بعض العلماء لبدء حفظه من قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6]، ولتمامه من قوله {لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 22].
بنى المساجد في أقطار الهند، وأقام لها الأئمة والمدرسين، وأسس دورا للعجزة، ومارستانات للمجانين، ومستشفيات للمرضى.
حكم شبه القارة الهندية 50 عاماً نشر فيها العدل والأمان، وجاهد وهزم أعداء الإسلام.
كانت له معرفة بالحديث، وله كتاب الأربعين جمع فيه أربعين حديثًا من قول النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتولى المملكة، وله كتاب آخر جمع فيه أربعين حديثًا بعد الولاية وترجمهما بالفارسية وعلق عليهما الفوائد النفيسة.
وكان يكتب بخطه المصاحف ويبيعها ويعيش بثمنها لما زهد في أموال المسلمين وترك الأخذ منها!
6 – نختم بذكر أحد أولاد الخلفاء وإن لم يكن على شرطنا، لأنه تخلى عن الخلافة والملك، ولأخذ العظة والعبرة، ومعرفة أن هناك من يركلون الدنيا رغبة في الآخرة، وصاحبنا هو أحمد ابن أمير المؤمنين هارون الرشيد، وكان يسمى أحمد السبتي؛ لأنه لم يكن يعمل إلا يوم السبت مخالفة لليهود.
قال الحافظ ابن كثير عند ذكر وفيات سنة 184هـ: وفيها: أحمد ابن أمير المؤمنين الرَّشِيد: كان زاهدًا عابدًا قد تنسَّك، وكان لا يأكلُ إلَّا من عمَلِ يدِه في الطِّين. كان يعملُ فاعلًا فيه، وليس يَمْلِكُ إلَّا مَرًّا وزِنْبِيلًا؛ أي: مِجْرَفَة وقُفَّة. وكان يعملُ في كلِّ جمعةٍ بدِرْهمٍ ودانِق، يتَقَوَّتُ بهما من الجمعةِ إلى الجمعة، وكان لا يعملُ إلَّا في يومِ السبت فقط؛ ثم يُقبلُ على العبادةِ بقيَّةَ أيامِ الجُمعة، وكان من زُبيدةَ في قولِ بعضِهم، والصحيحُ أنَّهُ من امرأةٍ كان الرشيدُ قد أحبَّها فتزوَّجها، فحملَتْ منه بهذا الغلام؛ ثم إنَّ الرشيدَ أرسلها إلى البصرة، وأعطاها خاتمًا من ياقوتٍ أحمر، وأشياءَ نفيسة، وأمرَهَا إذا أفضَتْ إليه الخلافةُ أنْ تأتيه؛ فلما صارَتِ الخلافةُ إليه لم تأتِهِ، ولا ولَدُها، بل اختفيا. وبلَغَهُ أنَّهما ماتا، ولم يكنِ الأمرُ كذلك، وفحَصَ عنهما فلم يطلِعْ لهما على خبر، فكان هذا الشَّابُّ يعملُ بيدِهِ ويأكلُ من كَدَّها، ثم رجَعَ إلى بغداد، وكان يعملُ في الطين ويأكلُ مدَّةً زمانية. هذا وهو ابنُ أميرِ المؤمنين، ولا يذكرُ للناسِ منْ هو، إلى أن اتَّفَقَ مرَضُهُ في دارِ منْ كان يستعملُه في الطِّين، فمرَّضَهُ عندَه، فلمَّا احتُضر، أخرج الخاتمَ وقال لصاحبِ المنزل: اذهَبْ بهذا إلى الرشيد، وقل له: صاحبُ هذا الخاتم يقولُ لك: إيَّاكَ أنْ تموتَ في سكرتِكَ هذهِ فتندَمَ حيثُ لا ينفَعُ نادمًا نَدَمُه، واحذَرِ انصرافَكَ منْ بين يدي اللَّه إلى الدارَيْن، وأنْ يكونَ آخرَ العَهْدِ بك، فإنَّ ما أنتَ فيه لو دامَ لغيرِك لم يَصِلْ إليك، وسيصيرُ إلى غيرِك، وقد بَلَغكَ أخبارُ مَنْ مَضَى.
قال: فلمَّا ماتَ دَفَنْتُه، وطلبتُ الحضورَ عندَ الخليفة، فلمَّا أُوقفتُ بين يديه قال: ما حاجتُك؟ قلت: هذا الخاتم دفعَهُ إليَّ رجل، وأمَرني أنْ أدْفعَهُ إليك، وأوصاني بكلامٍ أقوله لك. فلمَّا نظَرَ إليه عرَفَهُ فقال: وَيْحك! وأين صاحبُ هذا الخاتم؟ قال: فقلت: مات يا أميرَ المؤمنين، وهو يقولُ لك: احذَرْ أن تموتَ في سَكْرَتِكَ هذهِ فتندَم. وذكرتُ له أنه يعملُ بالفاعل في كلِّ جمعةٍ يومًا بدرهمٍ وأربعِ دوانيق، أو بدرهمٍ ودانق، يتقوَّتُ به سائرَ الجمعة، ثم يُقبلُ على العبادة. قال: فلما سمع هذا الكلام قامَ فضرَبَ بنفسِهِ الأرض، وجعل يتمرَّغُ ويتقلَّبُ ظهرًا لِبَطني ويقول: واللَّه لقد نصَحْتَني يا بُني. ثم بكى، ثم رفع رأسَهُ إلى الرجل وقال: أتعرِفُ قبرَه؟ قلت: نعم، أنا دفنتُه. قال: إذا كان العشيُّ فأْتني، قال: فأتيتُهُ فذهَبَ إلى قبرِه، فلم يزَلْ يبكي عندَهُ حتى أصبح. ثم أمر لذلك الرجل بعشرةِ آلافِ درهم، وكتب له ولعيالِهِ رزقًا.
والحمد لله رب العالمين.