الخشوع المُتخيل: بين الأسطورة والواقع النبوي. مقدمة: كم مرة سمعت فيها قصة الصحابي الجليل ...

منذ 2025-04-29

الخشوع المُتخيل: بين الأسطورة والواقع النبوي.


مقدمة:

كم مرة سمعت فيها قصة الصحابي الجليل الذي طلب أن تقطع قدمه بعد دخوله في الصلاة! والتابعي الذي لسعه الزنبور وهو في صلاته سبع عشرة مرة، ولم يلتفت! وغير ذلك من القصص التي تشعرك بالخجل إذا ما قارنتها بخشوعك في الصلاة.. ماذا تشعر بعد سماع مثل هذه القصص؟ وهل حاولت يوما الوصول إلى هذا الخشوع؟ وهل هذه الحالة يمكن الوصول لها فعلاً؟ هذا ما نحاول البحث وراءه عبر مقالنا هذا...



البداية
تكونت لدينا صورة ما عن كيفية الخشوع ومعناه، وعلقت في أذهاننا نتيجة النقول التي تصلنا عن السلف، وهذه الصورة التي تراكمت في خيالنا أظنها غير منضبطة بالدرجة الكافية - عند البعض على الأقل-، والسبب هنا ليس في ما وصلنا من نقولات بل في الفهم، فنحن لا نتهم صدق الروايات و الرواة، ولكن نتهم فهمنا الذي قد يكون جانب الصواب، وهناك نقول كثيرة تصور لنا خشوع السلف في الصلاة، ومنها:



كان أبو عبد الله البناجي رحمه الله يصلي بالناس؛ فيُصاح بالنفير فلا يخفف الصلاة، فلما فرغوا قالوا: "أنت جاسوس"؛ قال: ولم؟ قالوا صيح بالنفير وأنت لم تخفف؟ قال: ما حسبت أن أحدا يكون في الصلاة فيقع في سمعه غير ما يخاطبه به الله عز وجل"!


كان الإمام البخاري رحمه الله يصلي ذات ليلة، فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة، فلما قضى الصلاة قال: "انظروا كم آذاني".



وهذا مسلم بن يسار رحمه الله ما رُؤيَ قط ملتفتا في صلاته حيث قال عنه ميمون بن حيان رحمه الله: "لقد انهدمت ذات مرة ناحية المسجد ففزع أهل السوق لهدمه وإنه في المسجد في صلاته ما التفت".



سُئل خلف بن أيوب رحمه الله: " ألا يؤذيك الذباب في صلاتك فتطردها؟ قال: أريد أن أعود نفسي أن لا يفسد عليً شيء في صلاتي، قالوا وكيف

تصبر؟ فقال لهم: لقد بلغني - وذلك في عصره- أن الفساق يصبرون تحت أسواط السلطان فيقال: فلان صبور وكانوا يفتخرون بذلك؛ وأنا قائم بين يدي ربي أفأتحرك لذبابة ولا أصبر؟!".

وكان علي بن الحسين يعتريه ذلك عند الوضوء، فيقول: أتدرون بين يدي مَن أريد أن أقوم؟



وسُئل حاتم الأصم عن صلاته، فقال: إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء، وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه، فأقعد حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوم إلى صلاتي، وأجعل الكعبة بين حاجبي، والجنة عن يميني والنار عن شمالي، وملك الموت من ورائي، وأظنها آخر صلاتي، ثم أقوم بين الخوف والرجاء، أكبر تكبيرًا بتحقيق، وأقرأ قراءة بترتيل، وأركع ركوعًا بتواضع، وأسجد سجودًا بخشوع، وأُتبع ذلك كله الإخلاص، ثم لا أدري أَقبلت مني أم لا؟!!



ترسم الأخبار السابقة صورة متخيلة في عقل المسلم المعاصر عن الخشوع في الصلاة بطريقة أراها غير مكتملة أقرب إلى الخيال، وكأن المصلي يذهب إلى عالم آخر إذا ما دخل في الصلاة، والحقيقة غير ذلك ،ومن أجل هذا السبب لا يصح الاعتماد على مثل هذه النقولات السابقة فقط في معرفة حقيقة الخشوع عند السلف.

وما نحاول الوصول إليه من خلال كلامنا ؛ هو تكوين صورة واقعية عن الخشوع في حياة السلف..





(١) صلاة النبي ﷺ كيف كانت؟



حين نرجع إلى سيرة النبي ﷺ نجد أن صلاته كانت تجمع بين الخشوع الحقيقي وبين التوازن الإنساني. لم تكن لحظات الصلاة عنده حالة من الانفصال التام عن الواقع أو الدخول في عزلة شعورية مطلقة، بل كان يعيش الصلاة بقلبه وعقله وجوارحه، دون أن يتجرد من إنسانيته أو ينفصل عن الناس من حوله.



فهذا النبي ﷺ يسمع بكاء الطفل فيُخفف الصلاة رحمةً بأمّه، ويطيلها إذا رأى الناس يحبون الإطالة، ويراعي حال أصحابه فيها. يسمع من ينادونه وهو في صلاته فيرد بالإشارة، وينزل على الأرض وهو ساجد فيأتي الحسن والحسين فيركبان على ظهره فيُطيل السجود، لا ليُثبت للناس أنه لا يشعر بهما، بل لأنه يشعر بهما ويحتويهِما وهو بين يدي ربه.



وهكذا تتضح لنا ملامح الخشوع النبوي: خشوعٌ حيّ، يتصل بالله دون أن ينفصل عن الخلق، ويغيب في الذكر دون أن يفقد وعيه بمن حوله.



لقد كان خشوع النبي ﷺ خشوع قلب لا خشوع مظهر، خشوع فهمٍ لا خشوع تصنّع. خشوع يجمع بين القرب من الله، والإحساس بالناس، والرحمة بالحال، والتفاعل مع اللحظة.



إن تصوير الصلاة باعتبارها لحظة "انفصال" كامل عن العالم قد يجعل كثيرًا من الناس يظنون أن الخشوع أمر مستحيل، ويقارنون أنفسهم بتلك الصور المتخيلة، فينصرفون عن معناه الحقيقي، وييأسون من بلوغه.



وهذا هو ما نرمي إليه من وراء هذا المقال أن نعي جيداً معنى الخشوع الصحيح الموافق لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم. بجانب تصحيح الصورة المتخيلة عن الخشوع كما قد تكون في أذهان بعض الفضلاء نتيجة تعرضهم لبعض النصوص التي قد تؤيد فهم مغلوط وشائع عن الخشوع في الصلاة. وكثيراً ما كنت اقف أمام قصة الصحابي الذي طلب أن تقطع قدمه في صلاته!!

وما أظنه في ذلك أن الصلاة تمثل صبر وسلوان؛ فهو يتلذذ بكلمات الله وذكره في الصلاة، ولكن هذا لا يعني انفصاله عن الواقع، أو غياب وعيه عن اللحظة الراهنة، على العكس من ذلك تماما إلا أن هذا التصور قد يجد قبولا لدى الصوفية.



فإذا كان الأمر كذلك فبماذا يجب أن نشعر في الصلاة؟





(٢) بماذا يجب أن نشعر في الصلاة؟



الخشوع ليس حالة طارئة تهبط على الإنسان فجأة، ولا هو رهبة غامضة تنتابه دون سبب. بل هو شعور ناتج عن فهم، وفهم ناتج عن علم، وعلم متولد من وعيٍ حيّ بكلمات الصلاة ومعانيها.



كثير من الناس يسألون: "كيف أخشع في الصلاة؟" فيُقال لهم: "تذكّر أنك بين يدي الله!"، وهذا حق. لكن المشكلة أن أغلبهم لا يفهمون أصلًا ماذا يقولون في صلاتهم، ولا ما تحمله الآيات والأذكار من معاني، فتتحول الصلاة إلى تكرار صوتيّ لألفاظ محفوظة، لا تلمس القلب ولا تحرّك الشعور.



لكي نصل إلى الخشوع، علينا أن نعيد اكتشاف الصلاة من جديد، لا كأداء حركي، بل كموقف شعوري وفكري وروحي. حين نقول: "الحمد لله رب العالمين" هل نستشعر حقًا معنى الحمد؟ هل نحس أننا نثني على ربٍّ كريم، يُربّينا بالنعم والبلاء معًا؟ حين نقول: "مالك يوم الدين"، هل تهتز في داخلنا فكرة الوقوف بين يديه يوم الحساب؟



إن فهم معاني الفاتحة وحدها كفيل بأن يفتح باب الخشوع، لأنها تحمل في طيّاتها حمدًا، وتعظيمًا، وخضوعًا، وطلبًا، واستعانة، وهروبًا من الضلال. ومثل ذلك باقي أذكار الصلاة، من تكبير وركوع وسجود وتشهد. كل كلمة فيها معنى، وكل معنى يوقظ فينا شعورًا.



لذلك، فإن أول الطريق نحو خشوع حقيقي يبدأ من الفهم. لا بمعنى الدراسة الجافة، بل بمعنى التأمل والتذوق، أن تعيش معاني الصلاة، لا أن تحفظها فقط. أن تترك لنفسك فرصة لتُفكّر وأنت تصلي، لا لتسرح، بل لتتفاعل.



فالصلاة ليست انفصالًا عن الحياة، بل وعيًا أعمق بها.



السؤال عن المعنى هو مفتاح الوصول إذاً. ولعلّ من أكثر ما يُعين على الخشوع أن نقف لحظة مع معاني الكلمات التي نرددها مرارًا، فنُعيد اكتشافها.



حين نقول "الله أكبر"، فهي ليست فقط افتتاحًا للصلاة، بل إعلان داخلي أن الله أعظم من كل ما يشغلنا، أكبر من همومنا، من رغباتنا، من الخوف والتردد، من الدنيا كلها. هي تحجيمٌ لكل شيء أمام حضرة الله.



وعندما نركع ونقول "سبحان ربي العظيم"، فنحن ننزّه الله عن النقص والضعف، ونحن في حالة انحناء له، كأن أجسادنا تعترف بعظمة من نُسبّحه. نحن لا ننحني لأي شيء في الدنيا، لكننا نركع لله، نعلن عظمته فوق كل عظيم.



ثم إذا رفعنا من الركوع وقلنا "سمع الله لمن حمده"، فنحن لا نعلن فقط أن الله يسمع، بل نشعر أن حمدنا لم يذهب سدى، أن كلمتنا مسموعة، أن الله يستقبل الحمد استقبال الكريم الذي يحب أن يُحمد.



وفي السجود، نقول "سبحان ربي الأعلى"، ونحن في أقصى درجات التذلل والانخفاض. المفارقة العجيبة أن العلو لله، ونحن في موضع أقصى السجود، وكأننا نقول: "يا من علا، ليس لنا أن نعلو، فكلما انخفضنا له، ارتفعت قلوبنا به."



هذه الكلمات ليست مجرد أذكار، إنها مواقف شعورية، لحظات صدق، إعلانات إيمانية، لو عشنا معانيها فعلًا، لتحولت الصلاة من عادة إلى حياة.



ولكل كلمة بحر واسع و شاسع من المعانى التي لا تنضب، وقد يساعدنا ذلك بجانب تكرار الأذكار إلى الوصول إلى معانى أكثر عمقا وفهما أكثر شمولية.( والأحاديث الشروح في هذا الباب كثيرة يحسن الرجوع إليها فهذا الباب يحتاج إلى جد وجهد).



ولشيخنا محمد محمد أبو موسى كلام نفيس جداً عن أهمية فهم المعاني، وأثرها يقول في أحد مجالسه لشرح كتاب عبدالقادر: قلتُ لكم قبل ذلك: اسمعوا الأذانَ وافهموه: «اللهُ أكبر»، وما دام هو الأكبر فلا إله إلَّا هو؛ فـ«اللهُ أكبر» بالفطرة وبالعقل تُنتج «لا إله إلَّا الله»، وما دام «لا إله إلَّا الله» فلا بُدَّ له مِن مُبلِّغٍ عنه؛ فتُنتج «محمدٌ رسولُ الله»، وهكذا انتهينا من العقيدة التي هي الشَّهادتان، ثم الذي بعد الشَّهادتين إقامةُ عمود الدِّين، وعمودُ الدِّين هو «حَيَّ على الصلاة»، فإذا تَجهَّزْتَ بـ«حَيَّ على الصلاة» فتأتي «حَيَّ على الفلاح»؛ الفلاحُ الذي هو عَملُ الصَّالحات التي يُفلِح بها الفردُ، وتُفلِح بها الأمَّة، عَملُ الصَّالحات بالقلب الذي شَهِدَ الشَّهادتين، وأقام عمودَ الدِّين، وتهيَّأ لأن يكونَ مِن أفضلِ النَّاس في الأرض. " فهذا الكلام نفهم به قيمة وضرورة فهم المعاني، وأثرها في الأفعال.



أخيرا..ليست المشكلة في أن نطمح إلى الخشوع، بل في أن نتوهمه بعيدًا عن حقيقته. أن نتعامل مع الصلاة وكأنها مشهد مسرحي نؤديه أمام أنفسنا، لا لقاءً صادقًا مع الله. إن التصور المتخيل للخشوع يُعجز الإنسان عن السعي إليه، لأنه يجعله حلمًا مثاليًا لا يُطال، بينما الخشوع في سيرة النبي كان واقعيًا، بشريًا، نابضًا بالخشية والحب والبكاء والانشغال والخوف والسكينة.

فالخشوع لا يُتقمص، بل يُدرّب عليه القلب. ولا يُستحضر بالمجهود اللحظي، بل بالحياة المتصلة بالله. وما لم نُحرر فهمنا للصلاة من الصور الذهنية المتخيلة، لن نصل إلى حقيقتها أبدًا.



وقد لخّص النبي صلى الله عليه وسلم جوهر هذا المقام حين قال:

"إن الرجل ليصلي ستين سنة، وما تُقبل له صلاة، لعله يتم الركوع ولا يتم السجود، ويتم السجود ولا يتم الركوع" [رواه ابن أبي شيبة].

فليس الخشوع شكلاً يُتقن، بل صدقًا يُعاش.



ولعل يكون لنا حديث آخر تعليقاً على ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: أول ما يرفع من الناس الخشوع، حتى لا ترى خاشعاً. في مقال آخر إن شاء الله.

6810c3bd06981

  • 0
  • 0
  • 36

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً