الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 494 الافتتاحية: فزت وربّ الكعبة 1/2 يحسن بنا بين ...

منذ يوم
الدولة الإسلامية - صحيفة النبأ العدد 494
الافتتاحية:

فزت وربّ الكعبة
1/2

يحسن بنا بين الفينة والأخرى مخاطبة أنفسنا وإخواننا بخطاب مباشر من وحي النصوص والآثار، بعيد عن زحمة الأحداث والأخبار، تسليةً وتذكيرًا وتواصيًا، فلكل مقام مقال، لكن مقامنا ومقالنا على كل حال لن يبتعد عمّا ندعو إليه ونحرّض عليه من التوحيد والجهاد لأنه طريق الفوز في الدنيا والآخرة.

ولمّا كان المسلمون في القرون المفضّلة لا يتعلقون بالمطامع المادية ولا ينشغلون بالغايات الدنيوية، وكانت غايتهم وشغلهم الشاغل نيل مرضاة الله ونصرة دينه؛ سارعوا وسابقوا لبلوغ أعلى مرتبة في الإسلام وذروة سنامه وهي الجهاد في سبيل الله تعالى.

ولأجل ذلك استعذبوا القتل في سبيل ربهم وأخلصوا لذلك نيّاتهم، ولم يكن في حساب أحدهم أنّ القتل في هذا الطريق خسارة! وحاشاهم أن يظنوا هذه الظنون، وهذا ما تعلّموه ونهلوه من المعين الصافي؛ الكتاب والسنة، فهما ينصان على أنّ القتل والقتال في سبيل الله تجارة رابحة لن تبور، وأنّ بيع النفس رخيصة لإعلاء كلمة الله تعالى من أعظم أسباب الفوز والحبور، كيف لا والله جلّ جلاله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ... ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، كيف لا والله سبحانه يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ... وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، يقول الإمام القرطبي: "نزلت الآية في بيعة العقبة الكبرى.. وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند العقبة، فقال عبد الله بن رواحة للنبي -صلى الله عليه وسلم-: اشترِط لربك ولنفسك ما شئت؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم)، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: (الجنة)، قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل". أهـ.

هكذا كان جواب الصحابة صريحا واضحا وهم يعلنون بيعتهم فداء لدين الله تعالى وتوحيده، دون الالتفات إلى ما ستؤول إليه أحوالهم بعد هذه البيعة من مفارقة الأهل والتعرض للأذى والأسر والقتل وكل صور التضحية والبذل؛ فهم باعوا نفوسهم لله وحده، وعدوا ذلك بيعا رابحا، لأنهم ابتغوا ما عند الله تعالى وزهدوا في الفانية ولم يقدّموها على الباقية، وهذا نابع من يقينهم بأنّ ما عند الله خير وأبقى، ولذلك صاروا مضرب المثل في الفوز والربح وفقا لحسابات الإسلام لا حسابات الجاهلية.

وتروي لنا السيرة النبوية موقفا خالدا من مواقف الفوز وفقا لحسابات الإسلام، فهذا أنس ابن النضر -رضي الله عنه- عندما اضطربت صفوف المسلمين يوم "أُحد" بعدما أشيع مقتل النبي -صلى الله عليه وسلم- واهتز لذلك كبار الصحابة؛ انطلق أنس منفردا وانغمس في صفوف الأعداء وقاتل حتى قُتل ومُثّل بجثته، والشاهد في القصة أنّ أحدا من الصحابة لم يقل عنه: لو أنه رجع مع مَن رجع لما قُتل، ولكنهم قالوا: لم نستطع ما فعل! فنسبوا التقصير إلى أنفسهم وأقرّوا له بالفضل، لأنه رسخ واستقرّ في قلوبهم أنّ القتل على تلك الحالة فوز لا يُمارى فيه، كيف لا وقد ثبت وقاتل رجاء ما عند الله تعالى نصرة لدينه وعلى طريق نبيه -صلى الله عليه وسلم-.

موقف آخر من مواقف الفوز تجلّى يوم حادثة "بئر معونة" عندما غُدر بقرّاء الصحابة وقُتل سبعون منهم، ويروي الإمام البخاري عن أنس ابن مالك -رضي الله عنه- ما حدث مع أحدهم فقال: "لما طُعِن حرام بن ملحان وكان خاله، يوم بئر معونة، قال بالدم هكذا، فنضحه على وجهه ورأسه، ثم قال: فزتُ وربّ الكعبة!". أهـ. لقد قتل وتخضب بدمه وكان أول ما تبادر إلى ذهنه قبل خروج روحه أنه حقق الفوز بل أقسم على ذلك، لأنه كان على يقين بأن التضحية والقتل في هذا الطريق فوز.

هكذا كانت حسابات المسلمين في القرون المفضّلة، على عكس حال أهل زماننا، فإن الغالب عليهم هو اليقين بالماديات واللهث وراء الملذات والانكباب على الشهوات، لأن الفوز بالنسبة إليهم هو بقدر ما يحصّلونه من هذه الحطام الفانية، هكذا هي حساباتهم وفقا للميزان المادي الذي يؤمنون به ويزنون به الأشياء، ولذلك تراهم يحكمون على المجاهدين بالخسارة لهجرتهم بلادهم وأهليهم وأموالهم ومفارقتهم للدعة والراحة، ونفيرهم نحو ميادين الجهاد وساحات الجلاد؛ يقاسون فيها الغربة، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، يَقتلون ويُقتلون، ولسان حال هؤلاء القاعدين الطاعنين في المجاهدين: لو أنهم رضوا بالعيش والقعود كحال بقية الناس لكان خيرا لهم!


المصدر:
صحيفة النبأ – العدد 494
السنة السادسة عشرة - الخميس 10 ذو القعدة 1446 هـ

لقراءة الافتتاحية كاملة.. تواصل معنا تيليجرام:
@wmc11ar

6735978f52408

  • 0
  • 0
  • 3

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً