سلسلة معاملات محرمة (3) التعامل بالرشوة: الرشوة [بالكسر وبالفتح، فتنطق رِشوة ورَشوة] جريمة من ...

منذ 2018-04-27
سلسلة معاملات محرمة
(3) التعامل بالرشوة:
الرشوة [بالكسر وبالفتح، فتنطق رِشوة ورَشوة] جريمة من الجرائم التي انتشرت بين أفراد المجتمع في كل طوائفه وزاع انتشارها، حتى أصبحت من الأمور اللازمة لقضاء حوائج الناس.
والرشوة: هي كلُّ ما يدفعه المرء لمن تولَّى عملاً من أعمال المسلمين لإبطال حق، أو لإحقاق باطل، أو لظلم أحدٍ من الناس، أو لتفويت منفعة عليه.
وهي من أشد أنواع أكل الأموال بالباطل، لأنها دفع المال إلى الغير بقصد الميل عن الحق، وهذا العمل من صفات اليهود الخبيثة التي وصفهم الله بها فقال [سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ] (المائدة 42).
والرشوةُ في الإسلام محرَّمةٌ بأي صورة كانت، وبأي اسم سُمِّيت، سواء سُميت هديةً أو مكافأة، أو بقشيش، أو إكرامية فالأسماء لا تغيِّر من الحقائق شيئاً، والعبرة بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني.
وهي من كبائر الذنوب التي حرمها الله في كتابه الكريم فقال [وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] (البقرة 188).
ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذها ومن أعطاها. فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ [لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي] (أبو داود 3580).
وتوعدهم صلى الله عليه وسلم بعذاب النار فقال [الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي النَّارِ] (المعجم الأوسط 2026).
وقد شمل اللعن والتحريم في الرشوة أركانها الثلاثة، وهم الراشي والمرتشي والرائش.
والرائش: هو الوسيط بينهما، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال [لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما] فهؤلاء الثلاثة ملعونون عند الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالواجب على كل مسلم أن يجتنبَ الرشوة ويَحذَرَ منها، ويُحذِّرَ الناسَ من أخذها؛ لما فيها من الفساد العظيم، والإثم الكبير، فهي من الإثم والعدوان اللذين نهى الله تعالى عن التعاون عليهما في قوله [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] (المائدة 2).
أيها المسلمون: ما وقع في الرشوة أحد إلا ومُحِقت منه البركة في صحته ورزقه وعياله، وحُجبت دعوته، وفسدت أخلاقه، وساء منْبَته، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لكعب بن عجرة [يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ، إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ] (الترمذي 614) والسحت: هو أكل المال الحرام.
وقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: لَأَنْ يَتْرُكَ الرَّجُلُ دِرْهَمًا حَرَامًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بمئة أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وقال يوسف بن أسباط: إن الرجل إذا تعبد قال الشيطان لأعوانه: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعم سوء قال: دعوه يتعب ويجتهد فقد كفاكم نفسه.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله: ويؤيد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم [أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ] (مسلم 1015).
صور الرشوة التي تقع بين الناس: للرشوة صور كثيرة بين الناس وما كثرتها إلا من باب التحايل على الحرام، لكني سأذكر أشهر هذه الصور حتى نحذرها.
1- من صور الرشوة ما يدفعه ظالم ليأخذ شيئاً ليس من حقه. كمن يدفع مالاً ليأخذ دور أخيه المسلم في وظيفة أو في ترقية في العمل، أو يدفع لطبيب ليلفق له تقريراً طبياً يأخذ به ما ليس له، أو يدفع لمحامي ليزور له أوراقاً، أو يلفق له عقداً يقتطع به حق غيره، إلى غير هذه من الأمثلة الواقعة بين الناس وكلكم تعرفونها.
وكل ذلك محرم على الطرفين، وقد أصابتهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم عليهم باللعن والطرد من رحمة الله.
2- ومن صورها ما يدفعه ظالم ليفوت حقاً على صاحبه بسبب حقده وحسده وجوره.
وهذه الصورة متفشية في أقسام الشرطة وفي المحاكم وفي المجالس المحلية، يدفع لتعطيل محضر فيه حق لصاحبه، ولتأخير قضية وتقديم أخرى، ويدفع في المجالس المحلية لسحب الشكاوى المقدمة ضده.
وكل هذا حرام على الراشي الذي دفع وعلى المرتشي الذي أخذ، ولو كان بينهما واسط لوقع عليه من الإثم مثلهما، وقد أصابتهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم باللعن والطرد من رحمة الله.
3- ومن صورها ما يدفعه من أجل الحصول على منصب أو وظيفة ليس أهلاً لها وليست له.
وهذا موجود بكثرة في أوساط المسلمين، ما يسمونه بالوسطى، يدفع ليعمل في البترول، يدفع ليعمل بالعسكرية، يدفع ليعمل بالحكومة، ويعللون كل ذلك بقولهم شغلانه لها مستقبل. ونسي أنه بفعله هذا يفوت الحق على أصحابه، ممن هم أهل لذلك لكنهم لم يجدوا ما يدفعوه.

الخطبة الثانية، الحمد لله وبعد:
هناك صورة متفشية في وسط العمال في بلادنا وهي طلب الإكرامية أو البقشيش أو الدخان على العمل.
وهذه الصورة قد عمت بها البلوى في هذه الأزمنة، حتى أصبح كثير من العمال لا يتورع عن سؤالها، ومنهم من يراها حقا واجبا له، ومنهم من ينازع في قدرها إذا أعطيت له، مع ما يصحب ذلك من التهاون في أداء العمل عند الشعور بفقدان الإكرامية أو ضعفها، والنشاط في العمل عند من يبذل أكثر، وهذه الصورة رشوة محرمة، لأنه طلب ما ليس له بحق، فهو يتقاضى أجراً على عمله هذا، فما معنى أن يطلب غيره. والإثم واقع على الطالب لأن الذي دفع إنما دفع اضطراراً.
ويا ليت هؤلاء يسمعون ويعقلون كلام صلى الله عليه وسلم حينما قال [إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْه] (م أحمد 20695ط الرسالة).
وهذا الذي طلب المال وأخذه إنما أخذه بغير رضى صاحبه، وهذا واضح فأغلب الناس يدفعونها وهم مكرهون، أما من أعطاه صاحب العمل مالاً برضاه ومن غير أن يطلب منه فهذا حلال له أخذه وبارك الله له فيه.
ومن صورها هدية الموظفين: وليحذر العاملون في المصالح الحكومية بالأخص، وغيرهم من الهدايا التي تقدم لهم، لأن هذه الهدايا ليست من حقهم، لأنها ما أهديت إليهم إلا بسبب أعمالهم، قال أهل العلم: من المقرر في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم أن هدايا العمَّال غلول، والمراد بالعمَّال كل من تولى عملاً للمسلمين، وهذا يشمل السلطان ونوَّابه وموظفيه، أياً كانت مسؤولياتهم، ومهما اختلفت مراتبهم وتنوعت درجاتهم، فعن أبي حميد الساعدي قال [اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنَ الأَزْدِ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ الأُتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، قَالَ صلى الله عليه وسلم: فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، ثَلاَثًا] (البخاري 2597).
قال جمع من أهل العلم [يتعين على الحاكم ومن له ولاية تتعلق بأمور الناس ألا يقبل الهدية ممن لم يكن معتاداً الإهداء إليه قبل ولايته، فهي في المقام تُعتبر رشوة] انتهى.
هذه الصور المحرمة للرشوة، لكن قد يجد البعض منا نفسه مضطراً أشد الاضطرار لإعطاء الرشوة، عندما يُمنع من حقه، أو ينزل به ظلم لا سبيل لدفعه إلا بالرشوة.
هنا يقول أهل العلم: إن الإنسان إذا بذل مالاً لاستنقاذ حقه فليس برشوة، لكن الإثم على الآخذ، فإذا كان هؤلاء الموظفون لا يمكن أن يقضوا حاجتك التي يلزمهم أن يقضوها إلا برشوة فأعطهم والإثم عليهم، إلا إذا كان من الممكن أن يرفع أمرهم إلى ولاة الأمور حتى يؤدبوهم فحينئذٍ لا تعطي وارفع أمرهم، لكن الغالب في بلادنا أن هذا غير ممكن، وعليه فلا بد للإنسان أن يستخلص حقه بأي وسيلة، فإذا أعطاهم شيئاً ليمضوا معاملته فلا حرج عليه، والإثم على الآخذ.

59df34c2e3914

  • 0
  • 0
  • 196

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً