الاستشفاء بالأدوية غير الحسية الحمد لله خالق الداء والدواء، ينفع من يشاء، وينزل بمن يشاء البلاء، ...
منذ 2025-05-20
الاستشفاء بالأدوية غير الحسية
الحمد لله خالق الداء والدواء، ينفع من يشاء، وينزل بمن يشاء البلاء، والصلاة والسلام على رسول الله محمد ماحي الشرك والشقاء، وعلى آله الأنقياء وصحبه الأصفياء، أما بعد:
فقد ذكرنا فيما سبق مشروعية التداوي ومنهج الشريعة فيه، ولا بد أن يُعرف أن في التداوي ما يكون بالأدوية الحسية وغير الحسية، فغيرُ الحسية المشروعة كالرقية والدعاء هي أعظم الأدوية وأجلها وأشرفها وأحمدها عواقبا، فالله -سبحانه وتعالى- قال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، قال ابن القيم رحمه الله: "وإن الأدوية القلبية، والروحانية، وقوة القلب، واعتماده على الله، والتوكل عليه، والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له، والصدقة، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جرَّبتها الأمم على اختلاف أديانها ومِللها، فوجدوا لها من التأثير في الشِّفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء، ولا تجربته، ولا قياسه، وقد جرَّبنا نحن وغيرنا من هذا أمورا كثيرة، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية" [زاد المعاد].
- الاستشفاء بالقرآن:
إن أعظم ما يُتداوى به هو كلام الله المجيد، فهو نجاة الحيران، وطب القلوب وعافية الأبدان، وشفاء العلل وجلاء الأدران، قال الماوردي في قوله، عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ]الإسراء: 82[: "يحتمل ثلاثة أوجه، أحدها: شفاء من الضلال, لما فيه من الهدى. الثاني: شفاء من السَّقم, لما فيه من البركة. الثالث: شفاء من الفرائض والأحكام, لما فيه من البيان".
وجاء في صحيح البخاري عن معمر عن الزهري عن عروة عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ينفثُ على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوِّذات، فلما ثقُل كنت أنفثُ عليه بهن، وأمسح بيد نفسِهِ لبركتها"، وجاء في الحديث: "فسألت الزهري [والسائل هو معمر]: كيف ينفث؟ قال: كان ينفث على يديه، ثم يمسح بهما وجهه".
أمَّا صحابته الكرام -رضي الله عنهم- فحالهم مع الاستشفاء بالقرآن ما رواه الإمام البخاري عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن ناسا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أتوا على حيٍّ من أحياء العرب فلم يُقروهم [أي لم يضيِّفوهم]، فبينما هم كذلك، إذ لُدغ سيد أولئك، فقالوا: هل معكم من دواء أو راقٍ؟ فقالوا: إنكم لم تُقرونا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جُعلا، فجعلوا لهم قطيعا من الشاء، فجعل يقرأ بأمِّ القرآن [أي الفاتحة]، ويجمع بزاقه ويتفل، فبرأ فأتوا بالشاء، فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل النبي، صلى الله عليه وسلم، فسألوه فضحك، وقال: (وما أدراك أنها رقية، خذوها واضربوا لي بسهم).
فهذا الرجل الملدوغ مرضه حسّيّ ظاهر، ولكنّ دواءه غير حسّيّ، وهو سورة الفاتحة التي من أسمائها الشافية.
- الاستشفاء بالدعاء:
لقد علَّمنا نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن (الدعاء هو العبادة) وحثنا على طلب كل شيء من الله -سبحانه- حتى لو كان أصغر حاجة، ففي الحديث الصحيح عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ليسأل أحدُكم ربَّه حاجته كلَّها حتى يسأله شِسع نعله إذا انقطع) [التبريزي في مشكاة المصابيح]، وبهذا التنبيه النبوي فعلى كل مسلم أن يسأل ربه –سبحانه- كل حاجاته، فهو الرب الحليم الكريم، والودود الرحيم، والسميع القريب، قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وقد يكفيك الله –تعالى- بالدعاء قبل المباشرة بالأسباب الحسية، فالدعاء هو السبب الأجلّ، وطب الآفات والعلل، كيف لا وهو من أعظم العبادات، والصلة الوثيقة بين العبد ورب الأرض والسماوات، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن ينقطع دعاؤه في الليل والنهار، وسنَّ لنا أذكار اليوم والليلة للحماية من مجهول الآفات، وعلَّم أصحابه الدعاء طلبا للشفاء من الأمراض.
روى البخاري بسنده عن عبد العزيز، قال: دخلت أنا وثابت على أنس بن مالك، فقال ثابت: يا أبا حمزة، اشتكيت، فقال أنس: ألا أرقيك برقية رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، قال: (اللهم ربَّ الناس، مُذهِب الباس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت، شفاء لا يغادر سقما)، وجاء عند مسلم عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: كان إذا اشتكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رقاه جبريل، قال: "باسم الله يُبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شرِّ حاسد إذا حسد، وشر كلِّ ذي عين"، فهذه هي من مفردات الرقية بالدعاء التي وردت، شفاء من كل داء ومن شرور الحسد ومن العين أي النظرة.
فالله -سبحانه وتعالى- هو الذي يكشف السوء ويشفي المريض ويبتلي عباده وهو على ما يشاء قدير، ولذلك من اعتصم بالدعاء فقد استمسك بعظيم.
- الاستشفاء بالصدقة:
إن من العبادات ما فيه الأثر الحميد والمآل الحسن في الدنيا والآخرة، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (داووا مرضاكم بالصدقة) [رواه البيهقي في سننه، وهو حديث حسن]، ولسنا هنا بمعرض الحديث عن ثواب الصدقة فهو باب طويل وثوابه مضاعف أضعافا كثيرة، ولكن في هذا الحديث تصريح بأن الصدقة دواء للمريض، فإن من الأمراض والبلاء ما يكون بسبب الذنوب والمعاصي التي تُغضِب الله تعالى، وإن الصدقة تطفئ غضبه سبحانه، فعن أبي سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (صدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وفعل المعروف يقي مصارع السوء) [رواه البيهقي في شعب الإيمان].
- الاستشفاء من الهم والغم والحزن بالاستغفار:
وهذه الأدواء تعامَل معها الطب المعاصر بماديَّة بحتة، وتاهَ في الوصفات المختلفة التي بعضها يعتمد على تخدير العقل لينسى المريض همومَه وغمومَه، ولو علموا أصلها لسهل علاجها، فإنها تنشأ في الغالب بسبب الإعراض عن دين الله، جل وعلا، فالكفر هو أعظم أسباب الأمراض النفسية وهموم القلوب، قال الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]، وتنشأ هذه الأمراض أيضا بسبب الذنوب والمعاصي والتقصير في الطاعات الواجبة، التي تترك النفس في همّ وحزن، وقد تكون أسبابها فقرا أو دَينا أو مشكلة من مشاكل الحياة، ولكن هذه الوصفات الحسية لم تكن العلاج النافع، فالدواء الناجع هو الوصفة النبوية، فالاستغفار يدفع الهم والحزن لأنه يجلو القلب من ظُلَم المعاصي وضيق الصدر، فحين يتوجَّه المستغفر بقلبٍ مُعرضٍ عن كَبَد الحياة وهمومها إلى كرمِ الخالق ولطفِه وطلبِ ما عنده، فسيجد الراحة والسكينة وانشراح الصدر، قال ابن القيم، رحمه الله: "وأما تأثير الاستغفار في دفع الهمِّ والغم والضيق، فمِمَّا اشترك في العلم به أهلُ الملل وعقلاءُ كل أمة أن المعاصي والفساد تُوجب الهم والغم، والخوف والحزن، وضيق الصدر، وأمراض القلب، حتى إن أهلها إذا قضوا منها أوطارهم، وسئمتها نفوسهم، ارتكبوها دفعا لما يجدونه في صدورهم من الضيق والهمِّ والغم، كما قال شيخ الفسوق:
وكأسٍ شَرِبت على لَذةٍ
وأخرى تداويت منها بها
وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب، فلا دواء لها إلا التوبة والاستغفار" [زاد المعاد].
- الاستشفاء من الهم والغم والحَزن بالجِهاد:
عندما يُترك العدو الصائل يستبيح الدين والأرض والعرض فإن ذلك يجلب الهم والغم والحزن، ودواء ذلك هو دفعه وقتالُه وكسر شوكته وهذا يؤدي لانشراح الصدر وشفائه، قال الله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14]، ففي قتال الكفار والمرتدين تحصيل الأجور وشفاء الصدور، وفي السنة النبوية، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجهاد في سبيل الله فإنه باب من أبواب الجنة يُذهب الله به الهم والغم) [رواه أحمد].
- الشرك بالله لا يكون شفاء:
فهذه جملة من الأدوية غير الحسية التي وردت فيها أدلة شرعية من كتاب وسنة، وفي الوقت نفسه فقد وردت الأدلة في نفي الاستشفاء ببعض الأدوية غير الحسية التي ابتدعها أهل الضلال، ودلّوا الناس عليها، ليعلقوا قلوبهم بغير الله تعالى، ويوقعوهم في الشرك بالله، ومنها السحر، والتمائم، ودعاء غير الله، وغيرها من الأدوية التي بيّن الله العظيم ورسوله الكريم، كذب من قال بنفعها، وتسببها بخسارة الإنسان لدينه، دون أن تنفعه في دنياه.
فقال سبحانه في نفي فائدة الدعاء لغير الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 56]، وقال -صلى الله عليه وسلم- فيمن يعلقون التمائم والأحراز ليتقوا بها الأمراض ويستشفوا بها: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له) [رواه أحمد]، وقال -صلى الله عليه وسلم- فيمن يتعاطى السحر لأي سبب كان ومنه الاستشفاء من الأمراض: (اجتنبوا الموبقات الشرك بالله والسحر) [رواه البخاري].
هذا والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 71
الخميس 10 جمادى الآخرة 1438 هـ
لقراءة المقال كاملاً.. تواصل معنا تيليجرام:
@wmc111ar
الحمد لله خالق الداء والدواء، ينفع من يشاء، وينزل بمن يشاء البلاء، والصلاة والسلام على رسول الله محمد ماحي الشرك والشقاء، وعلى آله الأنقياء وصحبه الأصفياء، أما بعد:
فقد ذكرنا فيما سبق مشروعية التداوي ومنهج الشريعة فيه، ولا بد أن يُعرف أن في التداوي ما يكون بالأدوية الحسية وغير الحسية، فغيرُ الحسية المشروعة كالرقية والدعاء هي أعظم الأدوية وأجلها وأشرفها وأحمدها عواقبا، فالله -سبحانه وتعالى- قال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، قال ابن القيم رحمه الله: "وإن الأدوية القلبية، والروحانية، وقوة القلب، واعتماده على الله، والتوكل عليه، والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له، والصدقة، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جرَّبتها الأمم على اختلاف أديانها ومِللها، فوجدوا لها من التأثير في الشِّفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء، ولا تجربته، ولا قياسه، وقد جرَّبنا نحن وغيرنا من هذا أمورا كثيرة، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية" [زاد المعاد].
- الاستشفاء بالقرآن:
إن أعظم ما يُتداوى به هو كلام الله المجيد، فهو نجاة الحيران، وطب القلوب وعافية الأبدان، وشفاء العلل وجلاء الأدران، قال الماوردي في قوله، عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ]الإسراء: 82[: "يحتمل ثلاثة أوجه، أحدها: شفاء من الضلال, لما فيه من الهدى. الثاني: شفاء من السَّقم, لما فيه من البركة. الثالث: شفاء من الفرائض والأحكام, لما فيه من البيان".
وجاء في صحيح البخاري عن معمر عن الزهري عن عروة عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ينفثُ على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوِّذات، فلما ثقُل كنت أنفثُ عليه بهن، وأمسح بيد نفسِهِ لبركتها"، وجاء في الحديث: "فسألت الزهري [والسائل هو معمر]: كيف ينفث؟ قال: كان ينفث على يديه، ثم يمسح بهما وجهه".
أمَّا صحابته الكرام -رضي الله عنهم- فحالهم مع الاستشفاء بالقرآن ما رواه الإمام البخاري عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن ناسا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أتوا على حيٍّ من أحياء العرب فلم يُقروهم [أي لم يضيِّفوهم]، فبينما هم كذلك، إذ لُدغ سيد أولئك، فقالوا: هل معكم من دواء أو راقٍ؟ فقالوا: إنكم لم تُقرونا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جُعلا، فجعلوا لهم قطيعا من الشاء، فجعل يقرأ بأمِّ القرآن [أي الفاتحة]، ويجمع بزاقه ويتفل، فبرأ فأتوا بالشاء، فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل النبي، صلى الله عليه وسلم، فسألوه فضحك، وقال: (وما أدراك أنها رقية، خذوها واضربوا لي بسهم).
فهذا الرجل الملدوغ مرضه حسّيّ ظاهر، ولكنّ دواءه غير حسّيّ، وهو سورة الفاتحة التي من أسمائها الشافية.
- الاستشفاء بالدعاء:
لقد علَّمنا نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- أن (الدعاء هو العبادة) وحثنا على طلب كل شيء من الله -سبحانه- حتى لو كان أصغر حاجة، ففي الحديث الصحيح عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ليسأل أحدُكم ربَّه حاجته كلَّها حتى يسأله شِسع نعله إذا انقطع) [التبريزي في مشكاة المصابيح]، وبهذا التنبيه النبوي فعلى كل مسلم أن يسأل ربه –سبحانه- كل حاجاته، فهو الرب الحليم الكريم، والودود الرحيم، والسميع القريب، قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وقد يكفيك الله –تعالى- بالدعاء قبل المباشرة بالأسباب الحسية، فالدعاء هو السبب الأجلّ، وطب الآفات والعلل، كيف لا وهو من أعظم العبادات، والصلة الوثيقة بين العبد ورب الأرض والسماوات، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن ينقطع دعاؤه في الليل والنهار، وسنَّ لنا أذكار اليوم والليلة للحماية من مجهول الآفات، وعلَّم أصحابه الدعاء طلبا للشفاء من الأمراض.
روى البخاري بسنده عن عبد العزيز، قال: دخلت أنا وثابت على أنس بن مالك، فقال ثابت: يا أبا حمزة، اشتكيت، فقال أنس: ألا أرقيك برقية رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، قال: (اللهم ربَّ الناس، مُذهِب الباس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت، شفاء لا يغادر سقما)، وجاء عند مسلم عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: كان إذا اشتكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رقاه جبريل، قال: "باسم الله يُبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شرِّ حاسد إذا حسد، وشر كلِّ ذي عين"، فهذه هي من مفردات الرقية بالدعاء التي وردت، شفاء من كل داء ومن شرور الحسد ومن العين أي النظرة.
فالله -سبحانه وتعالى- هو الذي يكشف السوء ويشفي المريض ويبتلي عباده وهو على ما يشاء قدير، ولذلك من اعتصم بالدعاء فقد استمسك بعظيم.
- الاستشفاء بالصدقة:
إن من العبادات ما فيه الأثر الحميد والمآل الحسن في الدنيا والآخرة، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (داووا مرضاكم بالصدقة) [رواه البيهقي في سننه، وهو حديث حسن]، ولسنا هنا بمعرض الحديث عن ثواب الصدقة فهو باب طويل وثوابه مضاعف أضعافا كثيرة، ولكن في هذا الحديث تصريح بأن الصدقة دواء للمريض، فإن من الأمراض والبلاء ما يكون بسبب الذنوب والمعاصي التي تُغضِب الله تعالى، وإن الصدقة تطفئ غضبه سبحانه، فعن أبي سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (صدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وفعل المعروف يقي مصارع السوء) [رواه البيهقي في شعب الإيمان].
- الاستشفاء من الهم والغم والحزن بالاستغفار:
وهذه الأدواء تعامَل معها الطب المعاصر بماديَّة بحتة، وتاهَ في الوصفات المختلفة التي بعضها يعتمد على تخدير العقل لينسى المريض همومَه وغمومَه، ولو علموا أصلها لسهل علاجها، فإنها تنشأ في الغالب بسبب الإعراض عن دين الله، جل وعلا، فالكفر هو أعظم أسباب الأمراض النفسية وهموم القلوب، قال الله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]، وتنشأ هذه الأمراض أيضا بسبب الذنوب والمعاصي والتقصير في الطاعات الواجبة، التي تترك النفس في همّ وحزن، وقد تكون أسبابها فقرا أو دَينا أو مشكلة من مشاكل الحياة، ولكن هذه الوصفات الحسية لم تكن العلاج النافع، فالدواء الناجع هو الوصفة النبوية، فالاستغفار يدفع الهم والحزن لأنه يجلو القلب من ظُلَم المعاصي وضيق الصدر، فحين يتوجَّه المستغفر بقلبٍ مُعرضٍ عن كَبَد الحياة وهمومها إلى كرمِ الخالق ولطفِه وطلبِ ما عنده، فسيجد الراحة والسكينة وانشراح الصدر، قال ابن القيم، رحمه الله: "وأما تأثير الاستغفار في دفع الهمِّ والغم والضيق، فمِمَّا اشترك في العلم به أهلُ الملل وعقلاءُ كل أمة أن المعاصي والفساد تُوجب الهم والغم، والخوف والحزن، وضيق الصدر، وأمراض القلب، حتى إن أهلها إذا قضوا منها أوطارهم، وسئمتها نفوسهم، ارتكبوها دفعا لما يجدونه في صدورهم من الضيق والهمِّ والغم، كما قال شيخ الفسوق:
وكأسٍ شَرِبت على لَذةٍ
وأخرى تداويت منها بها
وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب، فلا دواء لها إلا التوبة والاستغفار" [زاد المعاد].
- الاستشفاء من الهم والغم والحَزن بالجِهاد:
عندما يُترك العدو الصائل يستبيح الدين والأرض والعرض فإن ذلك يجلب الهم والغم والحزن، ودواء ذلك هو دفعه وقتالُه وكسر شوكته وهذا يؤدي لانشراح الصدر وشفائه، قال الله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14]، ففي قتال الكفار والمرتدين تحصيل الأجور وشفاء الصدور، وفي السنة النبوية، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجهاد في سبيل الله فإنه باب من أبواب الجنة يُذهب الله به الهم والغم) [رواه أحمد].
- الشرك بالله لا يكون شفاء:
فهذه جملة من الأدوية غير الحسية التي وردت فيها أدلة شرعية من كتاب وسنة، وفي الوقت نفسه فقد وردت الأدلة في نفي الاستشفاء ببعض الأدوية غير الحسية التي ابتدعها أهل الضلال، ودلّوا الناس عليها، ليعلقوا قلوبهم بغير الله تعالى، ويوقعوهم في الشرك بالله، ومنها السحر، والتمائم، ودعاء غير الله، وغيرها من الأدوية التي بيّن الله العظيم ورسوله الكريم، كذب من قال بنفعها، وتسببها بخسارة الإنسان لدينه، دون أن تنفعه في دنياه.
فقال سبحانه في نفي فائدة الدعاء لغير الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 56]، وقال -صلى الله عليه وسلم- فيمن يعلقون التمائم والأحراز ليتقوا بها الأمراض ويستشفوا بها: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له) [رواه أحمد]، وقال -صلى الله عليه وسلم- فيمن يتعاطى السحر لأي سبب كان ومنه الاستشفاء من الأمراض: (اجتنبوا الموبقات الشرك بالله والسحر) [رواه البخاري].
هذا والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 71
الخميس 10 جمادى الآخرة 1438 هـ
لقراءة المقال كاملاً.. تواصل معنا تيليجرام:
@wmc111ar