العبودية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتِم المرسلين، أما بعد... إذا عرف ...
منذ 2025-06-11
العبودية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتِم المرسلين، أما بعد...
إذا عرف المخلوق ربه، وأنه خالق الكون ومُدبِّره، وهو الذي يرزقه ويُنعم عليه النعم المتتالية، وجبت عليه عبادته والخضوع لأمره ونهيه.
• أهمية العبادة ومعناها
توحيد الله -تعالى- وعبادته وحده هي الغاية التي خلق الله -تعالى- لأجلها الخلق، وهي الأمر الأعظم والأوجب عليهم من خالقهم الذي يرزقهم ويدبّر أمورهم، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58]، ودعوة توحيد الله -تعالى- بالعبادة هي دعوة المرسلين لأقوامهم، فكلهم يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وكما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، ولقد ذمَّ الله المستكبرين عن عبادته فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، والعبادة تُصرف لله وحده، وصرف شيء منها لغيره يبطل إسلام المرء.
وحاجة العبد للعبادة لا تُقاربها حاجة، وهي أشد من حاجة الجسد للطعام والشراب، لأنها حاجة القلب والروح، وهما أهم من الجسد، ولا يطمئنان ولا يسكنان ولا يشبعان ولا يرتويان إلا بالعبادة، وكلما طابت العبادة طاب القلب وارتاح، وإذا أقبل على الله اعتزَّ وإن كان ذليلا، واستغنى وإن كان محتاجا.
وأركان العبادة هي امتثال أمر الله مع الخضوع والمحبة والتعظيم، والأمور التي تدخل في العبادة: كل ما رضِيَه الله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فالأقوال كالدعاء والاستغاثة وكالذكر وشهادة أن لا إله إلا الله والأقوال الداخلة في الصلاة من ذكر وقراءة القرآن ونحوها، والأعمال كالصلاة والجهاد والذبح والتحاكم في الخصومة وغير ذلك، والأعمال الباطنة مثل الرجاء والخوف والتوكل والتعظيم، وكل هذا إما أن يُفْعل لله فهو التوحيد، وإما أن يُفْعل لغيره فهو الشرك.
• لا تصِحُّ العبادة مع الشرك والبدعة
إن مقام العبودية من أعظم المقامات التي امتدح الله بها أنبياءه ومنها قوله -تعالى- في حق نبينا صلى الله عليه وسلم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1]، وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] فالعبد المسلم يشترط لصحة عبادته ووصفه بالعبودية الحقيقية لله -تعالى- أن يكون مخلصا متابعا، فما معنى الإخلاص والمتابعة؟
الإخلاص هو ضد الشرك، ولا تصِحُّ العبادة إلا بإخلاصها أي تخليصها من أي نوع من أنواع الشرك المبطل لها، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]، قال الإمام الطبري: "مفردين له الطاعة، لا يخلطون طاعتهم ربهم بشرك" [جامع البيان].
وأما المتابعة فتعني أن تعبُد الله -عز وجل- بما شرع -سبحانه- في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92]، وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرِنا هذا ما ليس فيه فهو ردٌ)، وكل عمل بلا اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يزيد عامِلَه من الله إلا بُعدا، وإن الله -تعالى- يُعبَد وفق أمره لا بالآراء والأهواء، عن الحسن البصري قال: "صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا، صياما وصلاة، إلا ازداد من الله بعدا" [البدع لابن الوضاح].
• التوحيد وفضله والشرك وشره
فعبادة الله وحده هو توحيده، وعبادة غيره معه شرك، فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: كنتُ ردفَ النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمارٍ يقال له عفيرٌ، فقال: (يا معاذُ، هل تدري حقَّ اللهِ على عبادِه، وما حقُّ العبادِ على اللهِ؟) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنَّ حقَّ اللهِ على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، وحقُّ العبادِ على اللهِ أن لا يعذِّبَ من لا يشرك به شيئاً). فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشر به الناس؟ قال: (لا تبشِّرهم فيتَّكلوا) [رواه البخاري ومسلم].
والتوحيد هو تحقيق معنى لا إله إلا الله، وفضل هذه الكلمة عظيم جليل، لمن أعطاها حقها فآمن بها وعمل بمضمونها، فالموحِّد لا يُخلَّد في النار كما ورد في الصحيحين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإن الله قد حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله)، وللموحِّد الأمن التام يوم القيامة كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، وروى الترمذي عن أنس وحسَّنهُ، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (قال اللَّه تبارك وتعالى: ...يا ابن آدم إنَّكَ لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثمَّ لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة).
ومن أتى بالتوحيد بأعلى درجاته دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما في حديث ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (عرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رُفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى -صلى الله عليه وسلم- وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب). ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صَحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين وُلدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (ما الذي تخوضون فيه؟) فأخبروه، فقال: (هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)، فقام عكاشة بن محصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال (أنت منهم)، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: (سبقك بها عكاشة) [رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم].
فهذا فضل التوحيد، أما شرُّ نقيضه وهو الشرك فأمره جلل وخطبه عظيم مهول، فإن المشرك لا يغفر الله له، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، بل مصيره إلى النار خالدا فيها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به دخل النار)، فمن كان يصرف كل العبادات لله إلا عبادة يسيرة يصرفها لغيره فهو مشرك، وجزاؤه النار خالدا فيها فانتبه لهذا يا عبد الله.
وكثير من الناس يستهين بالشرك، ويظنُّ أن جهره بلا إله إلا الله أو حبَّه للرسول -صلى الله عليه وسلم- أو حُبَّه لأهل الدين أو بِرَّه بوالديه أو دعوته لدين الله وطباعة المصحف، أو حج بيت الله الحرام، يظن أن ذلك فقط ينجيه من النار! بل لا ينجيه من النار إلا إخلاص التوحيد لله وعدم صرف العبادة لغيره، فيعبد الله وحده ولا يتحاكم عند النزاعات إلى محاكم الطواغيت، ولا يوالي جندهم من شرطة وغيرها محبة ونصرة وإعانة، ولا يستغيث عند الشدائد بغير الله، ولا يطلب الشفاعة من غير الله، ولا يشارك في الانتخابات، ولا يذهب للسحرة ليحبِّبوا إليه زوجه أو ليرقوا له مريضه.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 95
الخميس 2 ذو الحجة 1438 هـ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتِم المرسلين، أما بعد...
إذا عرف المخلوق ربه، وأنه خالق الكون ومُدبِّره، وهو الذي يرزقه ويُنعم عليه النعم المتتالية، وجبت عليه عبادته والخضوع لأمره ونهيه.
• أهمية العبادة ومعناها
توحيد الله -تعالى- وعبادته وحده هي الغاية التي خلق الله -تعالى- لأجلها الخلق، وهي الأمر الأعظم والأوجب عليهم من خالقهم الذي يرزقهم ويدبّر أمورهم، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58]، ودعوة توحيد الله -تعالى- بالعبادة هي دعوة المرسلين لأقوامهم، فكلهم يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وكما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، ولقد ذمَّ الله المستكبرين عن عبادته فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، والعبادة تُصرف لله وحده، وصرف شيء منها لغيره يبطل إسلام المرء.
وحاجة العبد للعبادة لا تُقاربها حاجة، وهي أشد من حاجة الجسد للطعام والشراب، لأنها حاجة القلب والروح، وهما أهم من الجسد، ولا يطمئنان ولا يسكنان ولا يشبعان ولا يرتويان إلا بالعبادة، وكلما طابت العبادة طاب القلب وارتاح، وإذا أقبل على الله اعتزَّ وإن كان ذليلا، واستغنى وإن كان محتاجا.
وأركان العبادة هي امتثال أمر الله مع الخضوع والمحبة والتعظيم، والأمور التي تدخل في العبادة: كل ما رضِيَه الله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فالأقوال كالدعاء والاستغاثة وكالذكر وشهادة أن لا إله إلا الله والأقوال الداخلة في الصلاة من ذكر وقراءة القرآن ونحوها، والأعمال كالصلاة والجهاد والذبح والتحاكم في الخصومة وغير ذلك، والأعمال الباطنة مثل الرجاء والخوف والتوكل والتعظيم، وكل هذا إما أن يُفْعل لله فهو التوحيد، وإما أن يُفْعل لغيره فهو الشرك.
• لا تصِحُّ العبادة مع الشرك والبدعة
إن مقام العبودية من أعظم المقامات التي امتدح الله بها أنبياءه ومنها قوله -تعالى- في حق نبينا صلى الله عليه وسلم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1]، وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] فالعبد المسلم يشترط لصحة عبادته ووصفه بالعبودية الحقيقية لله -تعالى- أن يكون مخلصا متابعا، فما معنى الإخلاص والمتابعة؟
الإخلاص هو ضد الشرك، ولا تصِحُّ العبادة إلا بإخلاصها أي تخليصها من أي نوع من أنواع الشرك المبطل لها، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]، قال الإمام الطبري: "مفردين له الطاعة، لا يخلطون طاعتهم ربهم بشرك" [جامع البيان].
وأما المتابعة فتعني أن تعبُد الله -عز وجل- بما شرع -سبحانه- في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92]، وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرِنا هذا ما ليس فيه فهو ردٌ)، وكل عمل بلا اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يزيد عامِلَه من الله إلا بُعدا، وإن الله -تعالى- يُعبَد وفق أمره لا بالآراء والأهواء، عن الحسن البصري قال: "صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا، صياما وصلاة، إلا ازداد من الله بعدا" [البدع لابن الوضاح].
• التوحيد وفضله والشرك وشره
فعبادة الله وحده هو توحيده، وعبادة غيره معه شرك، فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: كنتُ ردفَ النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمارٍ يقال له عفيرٌ، فقال: (يا معاذُ، هل تدري حقَّ اللهِ على عبادِه، وما حقُّ العبادِ على اللهِ؟) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنَّ حقَّ اللهِ على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، وحقُّ العبادِ على اللهِ أن لا يعذِّبَ من لا يشرك به شيئاً). فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشر به الناس؟ قال: (لا تبشِّرهم فيتَّكلوا) [رواه البخاري ومسلم].
والتوحيد هو تحقيق معنى لا إله إلا الله، وفضل هذه الكلمة عظيم جليل، لمن أعطاها حقها فآمن بها وعمل بمضمونها، فالموحِّد لا يُخلَّد في النار كما ورد في الصحيحين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإن الله قد حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله)، وللموحِّد الأمن التام يوم القيامة كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، وروى الترمذي عن أنس وحسَّنهُ، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (قال اللَّه تبارك وتعالى: ...يا ابن آدم إنَّكَ لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثمَّ لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة).
ومن أتى بالتوحيد بأعلى درجاته دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، كما في حديث ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (عرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رُفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى -صلى الله عليه وسلم- وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب). ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صَحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين وُلدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (ما الذي تخوضون فيه؟) فأخبروه، فقال: (هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)، فقام عكاشة بن محصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال (أنت منهم)، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: (سبقك بها عكاشة) [رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم].
فهذا فضل التوحيد، أما شرُّ نقيضه وهو الشرك فأمره جلل وخطبه عظيم مهول، فإن المشرك لا يغفر الله له، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، بل مصيره إلى النار خالدا فيها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به دخل النار)، فمن كان يصرف كل العبادات لله إلا عبادة يسيرة يصرفها لغيره فهو مشرك، وجزاؤه النار خالدا فيها فانتبه لهذا يا عبد الله.
وكثير من الناس يستهين بالشرك، ويظنُّ أن جهره بلا إله إلا الله أو حبَّه للرسول -صلى الله عليه وسلم- أو حُبَّه لأهل الدين أو بِرَّه بوالديه أو دعوته لدين الله وطباعة المصحف، أو حج بيت الله الحرام، يظن أن ذلك فقط ينجيه من النار! بل لا ينجيه من النار إلا إخلاص التوحيد لله وعدم صرف العبادة لغيره، فيعبد الله وحده ولا يتحاكم عند النزاعات إلى محاكم الطواغيت، ولا يوالي جندهم من شرطة وغيرها محبة ونصرة وإعانة، ولا يستغيث عند الشدائد بغير الله، ولا يطلب الشفاعة من غير الله، ولا يشارك في الانتخابات، ولا يذهب للسحرة ليحبِّبوا إليه زوجه أو ليرقوا له مريضه.
• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 95
الخميس 2 ذو الحجة 1438 هـ