أين أصحاب السَّمُرة؟ إن لله في خلقه سننا، قدَّرها -عز وجل- بحكمته وسابق علمه، وإن هذه السنن لا ...

منذ 18 ساعة
أين أصحاب السَّمُرة؟

إن لله في خلقه سننا، قدَّرها -عز وجل- بحكمته وسابق علمه، وإن هذه السنن لا تتبدل ولا تتحول، {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّـهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43].

فقد خلق الله -تعالى- الناس فجعل منهم المسلم والكافر، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} [التغابن: 2]، والله قادر لو شاء على جمع الناس على التوحيد، ولكنه قدَّر بينهم الاختلاف، بل وخلقهم لذلك، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118- 119].


• سنَّة التدافع:

ولما كان الناس على ما ذكره الله من الاختلاف، انقسموا إلى فسطاطين، فسطاط إيمان وفسطاط كفر، وسنَّ الله بينهما التدافع والجلاد، وجعل الأيام بينهم دُوَلا، والحروب بينهم سجالا، وجعل الصراع بينهم قائما إلى قيام الساعة، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّـهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]، قال البغوي في تفسيره: "قال ابن عباس ومجاهد: ولولا دفع الله بجنود المسلمين لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المؤمنين، وخربوا المساجد والبلاد، وقال سائر المفسرين: لولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لهلكت الأرض بمن فيها، ولكن الله يدفع بالمؤمن عن الكافر وبالصالح عن الفاجر" [معالم التنزيل].

وقد شرع الله للمسلمين الجهاد بادئ الأمر لرفع الظلم عنهم بعد أن أمرهم بكف اليد، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 22]، قال البغوي في هذه الآية: "كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله، فلا يزالون محزونين من بين مضروب ومشجوج، ويشكون ذلك إلى رسول الله، فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال، حتى هاجر رسول الله، فأنزل الله -عز وجل- هذه الآية، وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال" [معالم التنزيل].

ولما منَّ الله على المسلمين بالقوة والمنعة، وآتاهم من الأسباب ما يمكنهم به مقارعة عدو الله وعدوهم، كتب عليهم الجهاد لمحو الشرك، وفرض عليهم القتال لإزالة الفتنة، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39].

كتب الله على المؤمنين القتال والجلاد وهو يعلم أنهم يكرهونه، رغم أنه خيرٌ كله، ففيه الأجر العظيم، والثواب الجزيل، وفيه العزة في الدنيا والنجاة في الآخرة، وفيه إظهار الدين ودفع الصائل وردُّ أذاه، وحذَّر الله المسلمين من الفرار وتولية الأدبار، وهو يعلم أن المرء يركن إلى الدَّعة والراحة، ومع أن الفرار من الزحف شرُّ كله، فهو من السبع الموبقات، وفيه الذلُّ في الدنيا والعذاب في الآخرة، وفيه تمكين للكافرين وذهاب بيضة الدين، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].


• يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا

وإن الله لما كتب على المسلمين القتال، أمرهم بالصبر والثبات، إذ لا يقوم الجهاد إلا بهما، وأمرهم بما يعين عليه من ذكر وطاعة ولزوم الجماعة، ونهاهم عن الفرار، وحرَّم عليهم ما يعين عليه من فرقة وتنازع، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45 - 46]، قال ابن كثير في تفسيره: "فأمر –تعالى- بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم، فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا، وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه بل يستعينوا به ويتكلوا عليه، ويسألوه النصر على أعدائهم، وأن يطيعوا الله ورسوله في حالهم ذلك. فما أمرهم الله -تعالى- به ائتمروا، وما نهاهم عنه انزجروا، ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضا فيختلفوا فيكون سببا لتخاذلهم وفشلهم" [تفسير القرآن العظيم].

فالثبات خصلة عظيمة، وشيمة كريمة، وقد يثبت بثبات الرجل الجيش كله، فيكون بذلك النصر والتمكين بإذن الله، كما حدث بثبات النبي -صلى الله عليه وسلم- ونفر من أصحابه يوم حنين.
فقد ذكر مسلم في صحيحه عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: "شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين، فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم نفارقه، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بغلة له بيضاء، أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي.فلما التقى المسلمون والكفار، ولَّى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يركض على بغلته قِبَل الكفار. قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكُفُّها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي عباس! نادِ أصحاب السَّمُرة)، فقال عباس، وكان رجلا صيِّتا: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السَّمُرة؟ قال: فوالله لكأنَّ عَطْفَتَهُمْ حين سمعوا صوتي عطفةُ البقر على أولادها. فقالوا: يا لبيك! يا لبيك! قال: فاقتتلوا والكفار، والدعوة في الأنصار. يقولون: يا معشر الأنصار! يا معشر الأنصار! قال: ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج، فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج! يا بني الحارث بن الخزرج! فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على بغلته، كالمتطاول عليها، إلى قتالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا حين حمي الوطيس). قال: ثم أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حصيات فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: (انهَزَموا ورب محمد!)، قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، قال: فوالله! ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا".

والسَّمُرة، هي الشجرة التي بايع تحتها الصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على القتال قبل صلح الحديبية، والتي سميت حينها بيعة الرضوان، لأن الله -تعالى- رضي عن الذين دخلوا في هذه البيعة.


• الفرار والتولي يوم الزحف:

وبالمثل فإن الفرار سجية ذميمة، عاقبتها قبيحة وخيمة، وقد يفِرُّ بفرار الرجل الجيش كله، فتكون بذلك الخيبة والخسران، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد جعله الله -تعالى- إحدى صفات المنافقين، وما أدل على خطورة الفرار من الحرب على جيش المسلمين من قصة المنافقين يوم أحد، إذ لم يكتفوا بالفرار من القتال بل جهدوا ليسحبوا معهم أكثر ما يستطيعون من جيش المسلمين ويقعدوهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن كثير في قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران: 167]: "خرج رسول الله -يعني حين خرج إلى أُحُد-في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كان بالشوط -بين أُحُد والمدينة- انحاز عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس، وقال: أطاعهم فخرج وعصاني، ووالله ما ندري علام نقتُل أنفسنا هاهنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة، يقول: يا قوم، أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوكم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أن يكون قتال. فلما استعصوا عليه وأبَوا إلا الانصراف عنهم، قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم" [تفسير القرآن العظيم].

فإن الفارَّ من القتال إنما يخذُل بذلك المسلمين ويخذِّلهم، ويفتُّ في عضدهم ويوهن من عزيمتهم، فيتبعه في فراره ضعاف النفوس ومرضى القلوب، ممن آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وما علموا أن متاع الدنيا في الآخرة قليل، وأن اقتحام المكاره أكرم من العيش مع الخوالف.

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
لنفسي حياة مثل أن أتقدما
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
ولكن على أقدامنا تقطر الدما

إن الله قد وعد عباده بالنصر، سواء قُتلوا أو غَلبوا، في الدنيا والآخرة، فإن العبد إذا تيقن بموعود الله -عز وجلَّ- له في هذه الدار ودار القرار، أقدم على إنجاز العقد الذي بينه وبين ربه، فيقتحم غمار الحتوف، باذلا جهده للقاء بارئه، لينال ما وعده، فإن عاش عاش عزيزا، وإن قتل كان شهيدا، وفي كل خير، فهو منصور بنيل إحدى الحسنيين، {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].



• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 98
الخميس 1 محرم 1439 ه‍ـ


أين أصحاب السَّمُرة؟

67944e4483db9

  • 5
  • 0
  • 0

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً