• الهجرة إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأما الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فمَعلَمٌ ...
منذ 2025-06-17
• الهجرة إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
وأما الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فمَعلَمٌ لم يبق منه سوى رسمه، ومنهج لم تترك بُنيَّات الطريق سوى رسمه، ومحجَّة سفَت عليها السوافي فطمست رسومَها، وأغارت عليها الأعادي فغورت مناهلها وعيونها، فسالكُها غريب بين العباد، فريد بين كل حيٍّ وناد، بعيد على قرب المكان، وحيد على كثرة الجيران...
والمقصود: أن هذه الهجرة النبوية شأنها شديد، وطريقها على غير المشتاق وعير بعيد.
بعيد على كسلان أو ذي ملالة
وأمَّا على المشتاق فهو قريبُ
فاسمع الآن شأن هذه الهجرة والدلالة عليها، وحاسِب نفسك بينك وبين الله، هل أنت من الهاجرين لها أو المهاجرين إليها؟
• حدُّ الهجرة إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
فحدُّ هذه الهجرة: سفر الفكر في كل مسألة من مسائل الإيمان، ونازلة من نوازل القلوب، وحادثة من حوادث الأحكام، إلى معدن الهدى، ومنبع النور المتلقَّى من فم الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4].
والمقصود: أن هذه الهجرة فرض على كل مسلم، وهي مقتضى شهادة أن محمدا رسول الله، كما أن الهجرة الأولى مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وعن هاتين الهجرتين يُسأل كلُّ عبد يوم القيامة وفي البرزخ، ويطالب بهما في الدنيا، فهو مطالب بهما في الدور الثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار.
قال قتادة: "كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين؟" [تفسير الطبري]، وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين.
• تحكيم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في كل أمر
وقد قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء 65]، فأقسم -سبحانه- بأجل مقسم به -وهو نفسه عز وجل- على أنهم لا يثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله، حتى يحكِّموا رسوله في جميع موارد النزاع، وهو كل ما شجر بينهم من مسائل النزاع في جميع أبواب الدين، فإن لفظة (ما) من صيغ العموم، فإنها موصلة تقتضي نفي الإيمان إذا لم يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم.
ولم يقتصر على هذا حتى ضمَّ إليه انشراح صدورهم بحُكمِه حيث لا يجدون في أنفسهم حرجاً -وهو الضيق والحصر- من حكمه، بل يتلقوا حكمه بالانشراح، ويقابلوه بالقبول، لا أنهم يأخذونه على إغماض، ويشربونه على أقذاء، فإن هذا مناف للإيمان، بل لا بد أن يكون أخذه بقبول ورضى وانشراح صدر.
ومتى أراد العبد أن يعلم منزلته من هذا فلينظر في حاله، وليطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه، أو على خلاف ما قلَّد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها {بَلِ الأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14 - 15].
فسبحان الله! كم من حزازة في قلوب كثير من الناس من كثير من النصوص، وبودِّهم أن لو لم ترد؟ وكم من حرارة في أكبادهم منها؟ وكم من شجى في حلوقهم من موردها؟
ستبدو لهم تلك السرائر بالذي
يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر.
ثم لم يقتصر -سبحانه- على ذلك حتى ضم إليه قوله تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}، فذكر الفعل مؤكَّداً بمصدره القائم مقام ذكره مرتين، والخضوع له والانقياد لما حكم به طوعا ورضى، وتسليما لا قهراً ومصابرة، كما يُسلم المقهور لمن قهره كرهاً، بل تسليم عبد محب مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شيء إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه، ويعلم بأنه أولى به من نفسه، وأبرُّ به منها، وأرحم به منها، وأنصح له منها، وأعلم بمصالحه منها، وأقدر على تحصيلها.
فمتى علِم العبد هذا من الرسول صلى الله عليه وسلم، استسلم له، وسلَّم إليه، وانقادت كل ذرة من قلبه إليه، ورأى أنه لا سعادة له إلا بهذا التسليم والانقياد.
انتهى كلامه -رحمه الله- باختصار.
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 97
الخميس 23 ذو الحجة 1438 هـ
وأما الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فمَعلَمٌ لم يبق منه سوى رسمه، ومنهج لم تترك بُنيَّات الطريق سوى رسمه، ومحجَّة سفَت عليها السوافي فطمست رسومَها، وأغارت عليها الأعادي فغورت مناهلها وعيونها، فسالكُها غريب بين العباد، فريد بين كل حيٍّ وناد، بعيد على قرب المكان، وحيد على كثرة الجيران...
والمقصود: أن هذه الهجرة النبوية شأنها شديد، وطريقها على غير المشتاق وعير بعيد.
بعيد على كسلان أو ذي ملالة
وأمَّا على المشتاق فهو قريبُ
فاسمع الآن شأن هذه الهجرة والدلالة عليها، وحاسِب نفسك بينك وبين الله، هل أنت من الهاجرين لها أو المهاجرين إليها؟
• حدُّ الهجرة إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
فحدُّ هذه الهجرة: سفر الفكر في كل مسألة من مسائل الإيمان، ونازلة من نوازل القلوب، وحادثة من حوادث الأحكام، إلى معدن الهدى، ومنبع النور المتلقَّى من فم الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4].
والمقصود: أن هذه الهجرة فرض على كل مسلم، وهي مقتضى شهادة أن محمدا رسول الله، كما أن الهجرة الأولى مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وعن هاتين الهجرتين يُسأل كلُّ عبد يوم القيامة وفي البرزخ، ويطالب بهما في الدنيا، فهو مطالب بهما في الدور الثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار.
قال قتادة: "كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين؟" [تفسير الطبري]، وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين.
• تحكيم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في كل أمر
وقد قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء 65]، فأقسم -سبحانه- بأجل مقسم به -وهو نفسه عز وجل- على أنهم لا يثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله، حتى يحكِّموا رسوله في جميع موارد النزاع، وهو كل ما شجر بينهم من مسائل النزاع في جميع أبواب الدين، فإن لفظة (ما) من صيغ العموم، فإنها موصلة تقتضي نفي الإيمان إذا لم يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم.
ولم يقتصر على هذا حتى ضمَّ إليه انشراح صدورهم بحُكمِه حيث لا يجدون في أنفسهم حرجاً -وهو الضيق والحصر- من حكمه، بل يتلقوا حكمه بالانشراح، ويقابلوه بالقبول، لا أنهم يأخذونه على إغماض، ويشربونه على أقذاء، فإن هذا مناف للإيمان، بل لا بد أن يكون أخذه بقبول ورضى وانشراح صدر.
ومتى أراد العبد أن يعلم منزلته من هذا فلينظر في حاله، وليطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه، أو على خلاف ما قلَّد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها {بَلِ الأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14 - 15].
فسبحان الله! كم من حزازة في قلوب كثير من الناس من كثير من النصوص، وبودِّهم أن لو لم ترد؟ وكم من حرارة في أكبادهم منها؟ وكم من شجى في حلوقهم من موردها؟
ستبدو لهم تلك السرائر بالذي
يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر.
ثم لم يقتصر -سبحانه- على ذلك حتى ضم إليه قوله تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}، فذكر الفعل مؤكَّداً بمصدره القائم مقام ذكره مرتين، والخضوع له والانقياد لما حكم به طوعا ورضى، وتسليما لا قهراً ومصابرة، كما يُسلم المقهور لمن قهره كرهاً، بل تسليم عبد محب مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شيء إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه، ويعلم بأنه أولى به من نفسه، وأبرُّ به منها، وأرحم به منها، وأنصح له منها، وأعلم بمصالحه منها، وأقدر على تحصيلها.
فمتى علِم العبد هذا من الرسول صلى الله عليه وسلم، استسلم له، وسلَّم إليه، وانقادت كل ذرة من قلبه إليه، ورأى أنه لا سعادة له إلا بهذا التسليم والانقياد.
انتهى كلامه -رحمه الله- باختصار.
* المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 97
الخميس 23 ذو الحجة 1438 هـ