الهجرة إلى الله ورسوله قال ابن قيم الجوزية -رحمه الله- في الرسالة التبوكية: لما فصلت عير ...
منذ 2025-06-17
الهجرة إلى الله ورسوله
قال ابن قيم الجوزية -رحمه الله- في الرسالة التبوكية:
لما فصلت عير السَّير، واستوطن المسافر دارَ الغُربة، وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه، أحدث له ذلك نظراً آخر، فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل سفره إلى الله ويُنفق فيه بقية عمره، فأرشده من بِيَدِه الرُّشد إلى أن أهمَّ شيء يقصِده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله، فإنها فرض عينٍ على كل أحد في كل وقت، وأنه لا انفكاك لأحد من وجوبها، وهي مطلوب الله ومراده من العباد.
نوعا الهجرة
إذ الهجرة هجرتان:
هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة، وليس المراد الكلام فيها.
والهجرة الثانية هجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا، وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها، وهي هجرة تتضمن (من) و(إلى):
فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته.
ومن عبودية غيره إلى عبوديته.
ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه.
ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له، إلى دعاء ربه وسؤالِه والخضوع له والذلِّ والاستكانة له.
وهذا هو بعينه معنى الفرار إليه، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50]، فالتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه.
• الفرار إلى الله
وتحت (من) و(إلى) في هذا سرٌّ عظيم من أسرار التوحيد، فإن الفرار إليه -سبحانه- يتضمن إفراده بالطلب والعبودية، ولوازمها من المحبة والخشية والإنابة والتوكل وسائر منازل العبودية، فهو متضمن لتوحيد الإلهية التي اتفقت عليها دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
• الفرار من الله
وأما الفرار منه إليه، فهو متضمن لتوحيد الربوبية وإثبات القدر، وأن كلَّ ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفِرُّ منه العبد، فإنما أوجبَته مشيئة الله وحده، فإنه ما شاء الله كان ووجب وجودُه بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن، وامتنع وجودُه لعدم مشيئته. فإذا فرَّ العبد إلى الله فإنما يفِرُّ من شيء، إلى شيء وُجد بمشيئة الله وقدره، فهو في الحقيقة فارٌّ من الله إليه.
ومن تصوَّر هذا حق تصوُّرِه فهِم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وأعوذ بك منك) [صحيح مسلم]، وقوله: (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك) [رواه الشيخان].
فإنه ليس في الوجود شيء يُفرُّ منه ويستعاذ منه ويلجأ منه إلا هو مِن الله خلقاً وإبداعا.
فالفارُّ والمستعيذ: فارٌّ مما أوجبه قدر الله ومشيئته وخلقه، إلى ما تقتضيه رحمتُه وبِره ولطفه وإحسانه، ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه، ومستعيذ بالله منه.
وتصوُّر هذين الأمرين يوجب للعبد انقطاع علقِ قلبه من غير الله بالكلية خوفاً ورجاء ومحبة، فإنه إذا علم أن الذي يفِرُّ منه، ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه، لم يبق في قلبه خوفٌ من غير خالقه ومُوجده، فتضمَّن ذلك إفراد الله وحده بالخوف والحبِّ والرجاء، ولو كان فراره مما لم يكن بمشيئة الله ولا قدرته لكان ذلك موجباً لخوفه منه، مثل من يفرُّ من مخلوق آخر أقدر منه، فإنه في حال فراره من الأول إلى الآخر خائف منه حذر أن لا يكون الثاني يُعيذه منه، بخلاف ما إذا كان الذي يفِرُّ إليه هو الذي قضى وقدَّر وشاء ما يُفَرُّ منه، فإنه لا يبقى في القلب التفات إلى غيره بوجه.
فتفطَّن لهذا السرِّ العجيب في قوله: (أعوذ بك منك) و(لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك) فإن الناس قد ذكروا في هذا أقوالاً، وقلَّ من تعرض لهذه النكتة التي هي لُبُّ الكلام ومقصوده، وبالله التوفيق.
• الهجرة هجران ما يكرهه الله
والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن هجران ما يكرهه وإتيان ما يحبُّه ويرضاه، وأصلها الحبُّ والبغض، فإن المُهاجر من شيء إلى شيء لا بد أن يكون ما يهاجر إليه أحبَّ إليه مما يهاجر منه، فيُؤثر أحبَّ الأمرين إليه على الآخر، وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعونه إلى خلاف ما يحبه الله ويرضاه، وقد بُلي بهؤلاء الثلاث، فلا تزال تدعوه إلى غير مرضاة ربه، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه، فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله، ولا ينفك في هجرة حتى الممات.
• الهجرة بين القوة والضعف
وهذه الهجرة تقوى وتضعُف بحسب قوة داعي المحبة وضعفه، فكلما كان داعي المحبة في قلب العبد أقوى، كانت هذه الهجرة أقوى وأتمَّ وأكمل، وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة، حتى إنه لا يكاد يشعر بها علماً، ولا يتحرك بها إرادة.
قال ابن قيم الجوزية -رحمه الله- في الرسالة التبوكية:
لما فصلت عير السَّير، واستوطن المسافر دارَ الغُربة، وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه، أحدث له ذلك نظراً آخر، فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل سفره إلى الله ويُنفق فيه بقية عمره، فأرشده من بِيَدِه الرُّشد إلى أن أهمَّ شيء يقصِده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله، فإنها فرض عينٍ على كل أحد في كل وقت، وأنه لا انفكاك لأحد من وجوبها، وهي مطلوب الله ومراده من العباد.
نوعا الهجرة
إذ الهجرة هجرتان:
هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة، وليس المراد الكلام فيها.
والهجرة الثانية هجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا، وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها، وهي هجرة تتضمن (من) و(إلى):
فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته.
ومن عبودية غيره إلى عبوديته.
ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه.
ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له، إلى دعاء ربه وسؤالِه والخضوع له والذلِّ والاستكانة له.
وهذا هو بعينه معنى الفرار إليه، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50]، فالتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه.
• الفرار إلى الله
وتحت (من) و(إلى) في هذا سرٌّ عظيم من أسرار التوحيد، فإن الفرار إليه -سبحانه- يتضمن إفراده بالطلب والعبودية، ولوازمها من المحبة والخشية والإنابة والتوكل وسائر منازل العبودية، فهو متضمن لتوحيد الإلهية التي اتفقت عليها دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
• الفرار من الله
وأما الفرار منه إليه، فهو متضمن لتوحيد الربوبية وإثبات القدر، وأن كلَّ ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفِرُّ منه العبد، فإنما أوجبَته مشيئة الله وحده، فإنه ما شاء الله كان ووجب وجودُه بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن، وامتنع وجودُه لعدم مشيئته. فإذا فرَّ العبد إلى الله فإنما يفِرُّ من شيء، إلى شيء وُجد بمشيئة الله وقدره، فهو في الحقيقة فارٌّ من الله إليه.
ومن تصوَّر هذا حق تصوُّرِه فهِم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وأعوذ بك منك) [صحيح مسلم]، وقوله: (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك) [رواه الشيخان].
فإنه ليس في الوجود شيء يُفرُّ منه ويستعاذ منه ويلجأ منه إلا هو مِن الله خلقاً وإبداعا.
فالفارُّ والمستعيذ: فارٌّ مما أوجبه قدر الله ومشيئته وخلقه، إلى ما تقتضيه رحمتُه وبِره ولطفه وإحسانه، ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه، ومستعيذ بالله منه.
وتصوُّر هذين الأمرين يوجب للعبد انقطاع علقِ قلبه من غير الله بالكلية خوفاً ورجاء ومحبة، فإنه إذا علم أن الذي يفِرُّ منه، ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه، لم يبق في قلبه خوفٌ من غير خالقه ومُوجده، فتضمَّن ذلك إفراد الله وحده بالخوف والحبِّ والرجاء، ولو كان فراره مما لم يكن بمشيئة الله ولا قدرته لكان ذلك موجباً لخوفه منه، مثل من يفرُّ من مخلوق آخر أقدر منه، فإنه في حال فراره من الأول إلى الآخر خائف منه حذر أن لا يكون الثاني يُعيذه منه، بخلاف ما إذا كان الذي يفِرُّ إليه هو الذي قضى وقدَّر وشاء ما يُفَرُّ منه، فإنه لا يبقى في القلب التفات إلى غيره بوجه.
فتفطَّن لهذا السرِّ العجيب في قوله: (أعوذ بك منك) و(لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك) فإن الناس قد ذكروا في هذا أقوالاً، وقلَّ من تعرض لهذه النكتة التي هي لُبُّ الكلام ومقصوده، وبالله التوفيق.
• الهجرة هجران ما يكرهه الله
والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن هجران ما يكرهه وإتيان ما يحبُّه ويرضاه، وأصلها الحبُّ والبغض، فإن المُهاجر من شيء إلى شيء لا بد أن يكون ما يهاجر إليه أحبَّ إليه مما يهاجر منه، فيُؤثر أحبَّ الأمرين إليه على الآخر، وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعونه إلى خلاف ما يحبه الله ويرضاه، وقد بُلي بهؤلاء الثلاث، فلا تزال تدعوه إلى غير مرضاة ربه، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه، فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله، ولا ينفك في هجرة حتى الممات.
• الهجرة بين القوة والضعف
وهذه الهجرة تقوى وتضعُف بحسب قوة داعي المحبة وضعفه، فكلما كان داعي المحبة في قلب العبد أقوى، كانت هذه الهجرة أقوى وأتمَّ وأكمل، وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة، حتى إنه لا يكاد يشعر بها علماً، ولا يتحرك بها إرادة.