فمتى ترقَّت همته من صحبتهم إلى صحبة من أشباحُهم مفقودة، ومحاسنهم وآثارهم الجميلة في العالم مشهودة، ...

منذ 2025-06-18
فمتى ترقَّت همته من صحبتهم إلى صحبة من أشباحُهم مفقودة، ومحاسنهم وآثارهم الجميلة في العالم مشهودة، استحدث بذلك همة أخرى وعملا آخر، وصار بين الناس غريباً، وإن كان فيهم مشهوراً ونسيباً، ولكنه غريب محبوب يرى ما الناس فيه، وهم لا يرون ما هو فيه، يُقيم لهم المعاذير ما استطاع، وينصحهم بجهده وطاقته، سائراً فيهم بعينين:

عين ناظرة إلى الأمر والنهي، بها يأمرهم وينهاهم، ويواليهم ويعاديهم، ويؤدي إليهم الحقوق، ويستوفيها عليهم. وعين ناظرة إلى القضاء والقدر، بها يرحمهم ويدعو لهم ويستغفر لهم، ويلتمس لهم وجوه المعاذير، فيما لا يخل بأمر ولا يعود بنقض شرع، قد وسعتهم بسطته ورحمته ولينه ومعذرته، واقفاً عند قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، متدبراً لما تضمَّنته هذه الآية من حسن المعاشرة مع الخلق، وأداء حق الله فيهم، والسلامة من شرهم.

فلو أخذ الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم وشفتهم، فإن العفو ما عفا من أخلاقهم، وسمحت به طبائعهم، ووسعَهم بذله من أموالهم وأخلاقهم، فهذا ما منهم إليه.

وأما ما يكون منه إليهم، فأمرهم بالمعروف، وهو ما تشهد به العقول وتعرف حسنه، وهو ما أمر الله به.

وأما ما يتَّقي به أذى جاهلهم، فالإعراض عنهم، وترك الانتقام لنفسه والانتصار لها.

فأيُّ كمال للعبد وراء هذا؟ وأي معاشرة وسياسة لهذا العالَم أحسنُ من هذه المعاشرة والسياسة؟ فلو فكر الرجل في كل شرٍّ يلحقه من العالم -أعني الشر الحقيقي الذي لا يوجب له الرِّفعة والزلفى من الله- وجد سببه الإخلال بهذه الثلاث أو ببعضها، وإلا فمع القيام بها فكل ما يحصل له من الناس هو خير له وإن شراً في الظاهر، فإنه متولد من القيام بالأمر بالمعروف، ولا يتولد منه إلا خير، وإن ورد في حالة شر وأذى، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ} [النور: 11]، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {اعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]، وقد تضمنت هذه الكلمات مراعاة حق الله وحق الخلق، فإنهم إما أن يسيئوا في حق الله، أو في حق رسوله، فإن أساءوا في حقك فقابل ذلك بعفوك عنهم، وإن أساءوا في حقي فاسألني أغفر لهم واستجلب قلوبهم، وأستخرج ما عندهم من الرأي بمشاورتهم، فإن ذلك أحرى في استجلاب طاعتهم وبذلهم النصيحة، فإذا عزمت على أمر، فلا استشارة بعد ذلك، بل توكل وامض لما عزمت عليه من أمرك، فإن الله يحب المتوكلين.

انتهى كلامه -رحمه الله- باختصار.


• المصدر:
صحيفة النبأ - العدد 98
الخميس 1 محرم 1439 ه‍ـ

67944dd38c694

  • 1
  • 0
  • 0

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً